قراءات نقدية
نزار حنا الديراني: تجليات الذات في المعادلة التضادية لبناء الدالة
في مجموعة (ضوء ازرق من اخر النفق) – مريم نزار حنا
تجلت شخصية مريم نزار حنا القصصية منذ ولادة مجموعتها الاولى (بحار زرقاء وأعماق ملونة) عام 2019 والصادرة من قبل المركز الثقافي في الرابطة السريانية – لبنان من حينها تراءى لي عمقها الغني بالعطاء الجديد، هذا الديوان الذي قالت عنه القاصة د. درية فرحات الاستاذة في الجامعة اللبنانية (نعم... إنّ لمريم نزار حنا قلمًا ناشئًا يافعًا، لكنّه قلم سيّال، يكتب ما يجول بالخاطر والبال، وهو قلم موعود بالنّجاح والتّطور والتّقدّم متى استطاعت صاحبته أن تنمّي موهبتها الأدبيّة، وأن تنهل من قراءاتها وان تتزوّد من الكتابات النقديّة).
هذا الكتاب نبئ بولادة كاتبة تمتلك من الموهبة الكثير، وها هي اليوم مريم في مجموعتها (ضوء أزرق من آخر النفق) تحقق مقولة د درية بهذه الولادة. من خلال عالمين الأول هو عالم الشعور، والثاني المقابل له هو عالم الأعماق الملونة، إذ تكشف تلك الأعماق المذهلة والمتجسدة داخل أعماق الكاتبة الضمني وهي تحاول في مجموعتها الثانية سبر أغوار الذات الداخلية بصراعاتها الشخصية والنفسية والفكرية.
ان الولوج لمجموعتيها القصصية لا بد ان يكون من خلال عتبتيها واللتان كانتا المرآة العاكسة لذاتها أولا ولفضاء تخيلاتها ثانيا، هذا البناء المعماري الذي وظفتهُ في العنونة جاء طبقاً للمناخات التي واكبتها وفق الحدث القائم في حينه، وربما الطراز الذي يؤسس فضاؤهُ القصصي.
(ضوء أزرق من آخر النفق) هذه هي مجموعتها الثانية والصادرة من دار (منهل القراء للنشر – حلب – سوريا /2024. وكانت للمسة الفنان القدير غسان فتوحي على غلافها طابعا جميلا ترك بصمة تؤهل القارئ سبر أغوار الكتاب منذ عتبته الاولى.
القاصة مريم وضعتنا منذ عتبتها الاولى أمام مقاربة قطبين أحدهما، اللون الازرق الذي يشير الى الطاقة والإثارة والى الهدوء والثقة بالنفس، انه لون المساحات المفتوحة الواسعة وكما في النفق الذي يمتد بعيدا، إلا أنها في اختيارها لهذا اللون وكما في مجموعتها السابقة عززت الشعور بالحرية وحيث السماء والبحر واسعتان، وفي وسعهما تثير الحدس، والخيال الواسع للنظر الى أخر النفق.
هذه العنونة تُفضي إلى تأويل افتراضي لعوالمها الغامرة، فضلا عن كونها دالة على مفارقة سيميائية تتبدى فيها تجليات الواقع المأزوم مقابل تمثلها لتمظهرات السرد.
هكذا أفاضت علينا عنونة المجموعتين بقدرتها على رسم مسار الخلفية الدلالية وحيث يتسرب اللون الازرق بين فضاءات التشكيل الفني للنفق معبرا عن الأثرُ الجمالي للمجموعة، فلا يتوقف الأثرُ الجمالي لهذا التزاوج بين اللون الازرق والنفق لكونه أثراً متخيلاً بل يترك وجوده على صعيد الصور التي ترسمها لنا قصصها.
ركزت الكاتبة مريم نزار في مجموعتها القصصية هذه وكما في سابقتها على الذات، العاكسة لانشطاراتها وخصوصيتها من خلال ارهاصات تتجسد في الواقع الذي نعيشه، لتبوح لنا ما في داخلها وهي تتلمس انهيار القيم وامتهان كرامة الإنسان.
ففي قصتها (حافة تولد إنسان) تزيل الستار عن الذي يجعل الانسان يتصدع فتقول:
(على حافة المرتفع، يجد ذاته الثكلى بالفراغ الذي عبئه بيديه لا لشيء بل لفقدان الهوية وسؤال الذات الذي لم يجبه ليصبح القريب من نفسه.. اينحدر؟ سينحدر؟ من على قمة الخوف أو في نهاية منحدر الخوف! وإن لم ينحدر من هذا العلو ماذا سيفعل؟؟؟)
هذا التساؤل الذي يكشف عن صراعاتنا اليومية ونحن نتقمط عشرات الاسئلة التي تكتنف اجابتها الصراع الداخي الذي نعيشه نحن الذين تركنا أوطاننا وركبنا عباب الهجرة..
هذا يعني ان الذات في قصصها تعني السمات الشخصية النفسية والاجتماعية لابطال قصصها وحيث تزاوجهم مع شخوص تاريخها المشرق والعمليات الموحدة التي انطلق وينطلق منها الفرد في تعامله مع كل ما يحيط به من البيئة المحيطة... ويبلغ الانشطار وتشظي الذات ذروته مع صنع ثنائيات ضدية بين الانحدار والتربع في عرش القمة لذا تنوعت لديها أفضيتها الرؤيوية وإمكاناتها التشكيلية.
وفي قصتها (الأرستقراطي) والتي تقول فيها:
(من سيارة لامبورغيني الفاخرة، خرج رجل مع زوجته التي تشبه الدمى من كثرة التصنع بسبب عمليات التجميل والنحت. اكتظ مراسلو القنوات حولهما، سأل احد المراسلين الرجل صاحب اللامبورغيني:
كونك في بلد غير وطنك حدثنا عن حضارتك وتاريخك العريق، عن العراق العظيم وماهي رسالتك في الحياة؟
سكت الرجل الملياردير لثوانٍ ومن ثم نظر لساعته وقال:
اعذروني لقد تأخرت، لا مزيد من الأسئلة. هرول إلى قاعة المطعم، وكان أول الواصلين...)
سلطت القاصة عدستها على الواقع المزري في بلدها لتصطاد فريستها من خلال قادة يتربعون عرش بلادها وهم لا يصلحوا الا التسكع في المطاعم الفاخرة....
وفي قصتها (حافة تولد إنسان) تراها تغوص في الاعماق العميقة للذات في تقاطعاتها وتوازياتها وتماساتها مع العالم الخارجي والداخلي عن طريق التشكيل، لتعكس لنا مخيلتها صورة تتمظهر بها وفيها من خلال محاورة ذات هذه الشخصيات في باطنها وتجلياتها فتقول:
(لم يرتطم بالمصير الذي أراده! إنحدر ولكن قوة ما خفية أنقذته. صوت كالصدى المجهول وإذ به ودون إنذار يقول وهل الهروب هو الحل؟ أين الفرصة التي يجب أن تمنح للذات؟ أين الخلوة مع الذات؟.. أين، كيف، هل ولماذا؟...)
وفي قصتها (انحجاب الستار عن المرايا) تنطلق من بؤرة ذاتها أيضا كونها القادرة على تمثيل الحدث الذي تتلمسه، وهو الذي يوفر لذاتها رافداً اجتماعياً ونفسياً وثقافياً يسهم بعمق في إيصال الصورة إلى مخيلتها لتعكس لنا صورة ثانية موازية لها:
(في ضجة المتعارف عليه والتشابه وجد نفسه، الهدوء والخلوة مع الذات لم يكن أسلوب حياة له، المعرفة كانت سلاحاً للكبار، تباهياً بالرقم الذي يزيد معهم كل سنة. ولكن! في يومٍ ما وجد نفسه حبيس غرفة محاطة بالمرايا من كل الاتجاهات. لم يجد غير ذاته، لم يجد صديقاً أو قريباً غير نفسه وكأنه لأول مرة يتعرف على نفسه عن كثب! وكأنه يكتشف أن لا بشر ولا وسيلة تشفي غليل الأنسان أو تسمعه أو تعرفه كما هي ذاته).
نجد في كل قصة من قصصها تتحرك الأحداث أو الوقائع لتكون بمثابة مرآة تدفع قوى الموقف الإنساني كي يتطور نتيجة لفعل إرادي ناتج من تجاذب أو تصارع بين الفعل ورد الفعل، بين الحدث والموقف الانساني منه، ويكون الحل فيه من خلال الفعل الإرادي.
تشكل القراءة المحايثة لنصوصها هذه وغيرها في رؤاها وأبنيتها التشكيلية من زاوية تأويلية حيث استطاعت إثراءها وتخصيبها بآليات سردية وتخييلية وإيقاعية وثقافية متنوعة لتعطي لها بعداً واسعا يتشظى في حدود الخيال... وتمكنت القاصة مريم من أن تفرض دينامية التلقي وخلق الإحساس المستمر بالدهشة وتوليد الصدمات التي تجترح ذائقة القارئ باستمرار.
مريم تستخدم الانزياح في الكثير من قصصها هذه وكما في قصتها (الثقب) وهي تقول:
(هذا الثقب ضيق للنظر من خلاله، هذا ما قاله الطفل صاحب السبعة سنين فلم يكن يعلم أن الإكثار من الرؤية عمى ونظرة ثاقبة واحدة هي بمثابة تلسكوب بعيد المدى).
هذا الانزياح في كتاباتها لم يكن الا تمردا وجوديا لا يخلو من رغبة في تأكيد الذات الخارجة عن النسق ببوصلة منكسرة تجعل صاحبها في حالة تيه وضياع. القاصة اعتمدت على التكثيف المولّد للغموض فتشكّل لديها نصا في إطار قصصي مكثف يحمل قدرًا من آليات السرد، ولكنّه سرد سريع يجسد بين طيّاته ابتهال صوفيّ يحيلنا الى فعل الخطيئة بطموحاتنا فكأن الترميز فيه يحفر في ذواتنا وكما في الذاكرة صور متشظية بتأويلاتها.
أن القيمة الجمالية لفضاء المتخيل لديها يبدو في هذه الإسقاطات الجمالية على الشخصية والأحداث، والرؤى حيث تنتقل من المشهد الحسي للصورة إلى العلاقات التي يفرزها الواقع النفسى والشعورى، لذا تراها تستمد خاماتها الايقاعية من معطيات الواقع وافرازاته الدالة في عمق الاحساس الصادق لتكشف لنا صيرورة الواقع بظواهره المحسوسة واللامحسوسة.
تمتاز قصص القاصة مريم بشفافيتها وتلقائيتها وعفويتها في معالجاتها النصية، فنصوصها شفيفة سهلة ورموزها التاريخية دالة عميقة المعنى تبعث الدفء في أعماقنا، بما فيها من انفعال وجداني وفيض عفوي ودفقات شعورية شديدة الوضوح...
وهذا ما تجسده في قصتها (نحو اللامعروف) فتقول:
(... لكِ مظلتي فلا أحتاجها. فقد قالوها أجدادي، نحن المبللون سلفاً من ويلاتِ الحياة لا خوف لنا من الزخات.. لكِ كل آمالي وأحلامي وتوقعاتي، فلم أعد بحاجة للتخيلات)
القاصة مريم تمتلك إيحاءات عميقة وبليغة، في اكتشاف الظاهر والباطن، وصورها هي حصيلة استلهام صور الواقع في الدال وانعكاساته في المدلول، فهي علاقة متبادلة بين التصويري، وإيحاءاته في الرؤية الفكرية.
في قرائتي لمجموعتها هذه تلمست تعبيراتها الدالة، في ثنائية سيميائية متقابلة، سيميائية الفعل الفني من جهة، تقابله سيميائية فعل الواقع الذي خرج عن المعقول والمنطق من جهة أخرى فتصفه في قصتها (معتقدات عصرية): فتقول:
(خرجت وهي تشعر بأنها أنثى جميلة ومرغوبة، وصل خطيبها ليصطحبها كي يذهبا معاً إلى الحفلة، لم يعلق بشيء، انطلق بسيارته فرحاً، بعد حين وصلا واِلتقطا صوراً جميلة لكي يتم نشرها على الإنستغرام وهو متباهٍ بخطيبته الفاتنة مدعياً أن الحب في بلاد الغرب لا يحتاج لغيرة رجل، وكلما قصر القماش زاد التفاعل على صورتيهما معاً على منصات التواصل الاجتماعي لكي تنافس خطيبات أصدقائه).
تجاربها القصصية هذه هي في حقيقة الأمر مكاشفة واكتشاف لأناها التي تعكس لنا الأنا الجمعية في الوقت نفسه، وفق رغبات جامحة في التغيير، تلبية لشعورها الخصب الذي يستفزنا من خلال حاسة الرؤية بمؤهلاتها النفسية والثقافية، ففتحت النص السردي بانزياحاتها على إمكانات جديدة، استطاعت إثراءه وتخصيبه بآليات سردية وتخييلية.
ففي قصتها (ܦܝܫܬܐ – البقاء) يحتل السؤال محور هذه القصة بعد أن استدعت مذابخ سيفو لتقول:
(ܥܲܠ ܚܲܕ ܟܹܐܦܐ ܓܵܘ ܛܘܼܪܐ ܪܵܡܵܐ ܝܬܝܼܒ̣ܐ ؛ ܡܨܵܠܡܘܼܢܹ̈ܐ ܐܲܪܐ ܚܲܝܘܼܬܐ ܝܼܠܗܿ ܩܫܝܼܬܐ ܝܢ ܐܲܚܢܵܢ ؟ ܘܗܘܹܐܠܹܗ ܡܨܵܠܡܘܼܢܹ̈ܗ ܓܘ ܦܸܪܡܵܐ ܕܣܵܝܦܐ ܘܗܘ ܒܲܫܐܵܠܐ ܐܟܡܐ ܡܢ ܒܢܝ̈ ܐܘܡܬܝܼ ܦܝܫܠܗܘܢ ܩܛܝܼܠܹ̈ܐ ܕܠܐ ܥܸܠܬܐ ؛ ܠܡܢ ܝܼܠܹܗ ܠܵܘܡܐ؟ ܚܲܝܘܼܬܐ ܝܢ ܩܸܫܝܘܼܬܐ ܕܜܠܘܿܡܝܹܐ؟
جالسًا على صخرة فوق جبل مرتفع، منسجم بخياله يتساءل:
أيا ترى الحياة هي القاسية أم نحن؟
وهو يتأمل بمذبحة سيفو ويتساءل بتعجب:
كم من أبناء شعبنا كان ضحية القتل من دون سبب. لمن اللوم؟ الحياة أم قسوة الظالمين؟)
من خلال تساؤلها هذا فتحت لنا كوة تتوجه نحو التشكيل، وأحالت الطبيعة البشرية الى مد متواصل من التجاوز فرضت دينامية التلقي وخلق الإحساس المستمر بالدهشة وتوليد الصدمة التي تجترح ذائقة المتلقي للحدث. صورة كهذه هي حصيلة استلهام الماضي في مصداقية الدال، كونه علاقة متبادلة بين الصورة وإيحاءاتها في الرؤية الفكرية وما عرضها الا لنتعلم منه درسا جديدا. نحن أمام صراع متبادل بين صوتين متقابلين في المحاججة والمجادلة.
وأحياناً القاصة مريم تلجأ الى التناص التاريخي في بناء نصها القصصي؛ حيث تتداخل احداث وشخصيات تاريخية مع النص الاصلي، كي تضفي على تجربتها القصصبة دلالات تاريخية. فتحضر رموزها التاريخية، التي تركت بصماتها على التاريخ لتشعل من خلالهم شعلة النهوض في نفسيتها ففي قصتها (شبعاد في ساحة التحرير) تستدعي رموزها لتجعلنا أمام صورتين متناقضتين، صورة ماضيها المجيد وحاضرها المؤلم والذي يعكسه لنا مظاهرات الطبقة المثقفة في ساحة التحرير تلك الطبقة التي لا تريد ان يكون وطنها وشعبها رموزا في المعادلة السياسية والاقليمية فتقول:
(إنها الملكة شبعاد مزينة بحليها وأناقتها الملطخة بالحزن والاضطهاد. حلَّيها الباهظة أصبح ثمنها فتات طعام للأطفال المتسولين مع ذويهم في شوارع سومر وفي القرن الواحد والعشرين، ونبيذها المعتق الثمين قد تحول إلى حقول نفط، إلاّ أنه لا يروي عطش الفقراء والمساكين، لأن زمن مملكة سومر وأكد وبابل وآشور وكلدو قد انتهى، ليحل بدلاً منه زمن الحرب والصراع من أجل الكراسي).
وظفت في قصتها هذه شخصية تاريخية لتكون مجددة في حضورها الى ساحة التحرير لتوحي إلى القارئ ما يعنيه هذا الحضور من أفعال وأحداث داخل فضاء المنظور بعد أن اعتمدت على تداخل الزمن لتؤكد على المعنى الذي تعطيه لنا هذه الملكة (شبعاد) والدرس الأخلاقي الناتج من حضورها، كل هذا يعتمد على نوع العلاقة التي تنسجها الكاتبة في عملية حضورها لإنتاج الدلالة داخل المسار التوليدي. وهكذا في قصصها (حلم على ضفاف دجلة، أساطير من الواقع، نهر العراقة، ملاك على الأرض...).
وفي قصتها (تبعية) نجحت القاصة في خلق مواربة فنية، تمنح نصها كثافة دلالية مضاعفة ؛ تتحصل في رغبة النص توسيع دلالاته النصية إلى مدى يؤهل القارئ الى الإمساك بالزمن التاريخي ومدخلاته الكثيفة ليضعنا أمام تعالق أجناسي، بين الأسلوب السردي وأسلوب غنائي:
(رمادي هو طقس هذا اليوم! ولكن روحي ما زالت زرقاء. أخطو كأيقاعات موسيقى ليلية تحاور القمر، وأنا أيضاً أحاور القمر غاية لأستلهم منه نوره المتوهج وسط العتمة القاتمة.
ينظر العالم إلى القمر كتشبيه للجمال لكني أراه تشبيهاً يليق بالقوة والصمود).
فالغنائية تجسدت في حضور الذات التي أطرتها القاصة ببنية نصية وظفتها لتكون قادرة على التشظي بأكبر قدر من التخييل الغنائي البنية ؛ لتجري مقاربة بين الطقس والروح، بين الرمادي والازرق، بين الواقع المتخيل والواقع المنطق. في هذه القصة تقوم القاصة بتصويرها لاناها تصويراً نفسيًّا خالصًا يعتمد على شعورها أي على الأفكار التي تطوف وتتصارع في مخيلتها والأحاسيس التي تنتابها.
وهكذا في قصتها (ضوء القمر: ليلةٌ أسميتها الهدوء،....).
وفي قصص أخرى تحيل فيها الضد على ضده فيضيئه دلاليا اي انها تتمثّل في أوجه التّناقض والتّضاد في علاقات وأطراف يجب أن تكون متوافقة وكما في قصتها (صرخة التربة الحمراء):
(في مكانٍ ما نعيق الغراب الأسود يسود... الأرض انشقت من أزيز الرصاص... فخرجت تربة جديدة تكسو الأرض... تربة حمراء، نبتت عليها نخلة يابسة على وشك الموت... فأمطرت السماء زخات حمراء لتسقيها... تلونت النخلة بأربعة ألوان فلكل لون حكاية).
القاصة مريم لا تهتم كثيرا في تصوير المكان بقدر تصويرها للعلاقات العامة كونها تركز على الحدث وتشظياته اجتماعيا وما يفرزه من ردود أفعال من الآخر، والموقف منه أي الفعل ورد الفعل. بمعنى آخر أنها تهتم بما تراه ذاتها كي تقدمه باسلوب فني وفي حالة تأويله يحفز القارئ على الغوص في النص وقراءة ما بين سطوره. وبفضل التكثيف الذي تحتشده مريم في بعض قصصها، يسري الأثر الجمالي كي تتحقق دلالات الصور التي تنشئها وتنسحب عبر الهواجس والتعاطف والحنين المتولد الى عند المتلقي وكما في قصتها (شمعة):
(على شرفة اللامعلوم أضع آمالي التي صنعتها لأحارب العدم. أشعل شمعتي الفواحة بعطر يقاوم نتانة الواقع المضطرب. يخبرني النور المنبعث منها الصمود بالأمل على شرفة اللامعلوم، التي تحيك لي الأيام على مهل سريع..
على مهل سريع! ما بي؟ عندما أخاطب ذاتي أصوغ اللامفهوم الغامض، هل هي لوحة سريالة؟ أم هي جملة واقعية بصيغة ميتافيزيقية!)
القاصة هنا تستخدم ضمير المتكلّم من أجل إشغال الفضاء السردي للقصة، فهي تضعنا أمام ما يشبه كتابة السيرة، بما يجعل تشكيل العنصر الشخصي في الرواية أكثر حضورا، وأكثر قدرة على توصيف تمثلاتها بدلالة علاقاتها مع الواقع.
ختاما أقول:
القاصة مريم لها ملكة تخيلية مكنتها من الرصد والتقاط بؤرها من اليومي المعاصر وهي تستنبط وتستقرء الحدث الذي تراه وتتلمسه وفق إرهاصات حلمها الذي تراه منتجاً وتزاوجه أحيانا بصور من ماضيها المشرق بدلالاته وصوره بمعالجة رصينة توحي للمتلقي استدراك ما فاته لحظتها.
انها ترصدُ كلَّ شيءٍ مِنْ زوايا بيتِها تلك التي أفسدتْ الجمال في الانسان.
في مجموعتها هذه تتكشف ذاتها باستمرار من خلال التقاطها لصور تغذي صورتها الكلية والتي تأمل منها لتكون الأنا الكلية بما يجب من التفاعل والتلاقي والتعاطي مع المحيط فما أن تحضر دال ذاتها حتى يحضر مباشرة دال موضوعها ليكون في مواجهة تقليدية جدلية بين الماضي والحاضر، بين الحقيقة والرغبة الجامحة لتزييفها. أنها علاقة تفاعليّة تكشف عن طبيعة الدائرة التي تحيط بها.
في مجموعتها هذه تتقمط ذاتها الأنا العليا المثالية والتي يحوم حولها ذوات متغيّرة، ومن خلال رؤيتها تجعل من الموضوع هو المركز المتغير شكله والثابت جوهره.
وبالإجمال، نقول إن قصص مريم القصيرة والقصيرة جدا حاولت ان تضئ على مشاهد مهمة أو عالجت لحظةً وموقفًا تستشفُّ أغوارهما القاصة، تاركةً أثرًا وانطباعًا في نفس القارئ نظراً لما تمتلكه قصص القاصة مريم من مقومات فنية تتجسد في اعتمادها التصوير الجمالي في تسلسل الأحداث، وتوظيفها جملة من المفارقات والأزمنة السردية في إطار البناء الفني.
***
نزار حنا الديراني