قراءات نقدية
عدنان عويّد: الانزياح في النقد الأدبي

ظاهرة الانزياح:
الانزياح لغة: جاء في معجم اللغة العربيّة المعاصرة: "انزاحَ انزياحًا، فهو مُنزاح، والمفعول مُنزاحٌ عنه، وانزاح الشَّيءُ: زاح؛ ذهب وتباعد، وانزاحَ عن مقعده: تنحَّى عنه وتباعد".
وهو أيضاً في اللغة زال وذهب، وأزاح الأمر يعني زاله عن موضعه. و(لمصطلح الانزياح الكثير من المترادفات في النقد الأدبي العربي، ولعل أهمها الانحراف والعدول والتغريب، وقد استبعد الانحراف لأنه ينبع توجهه من فهم ضيق للأسلوب). (1). وهكذا، فالانزياحُ في اللغةِ إذاً يرتبط بالذَّهاب والتباعد والتنحي، وفي كل هذا تغييرٌ لحالة معينة وعدم الالتزام بها، وإن كانت الدلالة اللُّغوية الأولى مرتبطةً بالمكان، فإن الأمر يتوسَّع لغيره، فيقال: زاح عنِّي المرضُ أو الباطلُ: أي زال عنِّي.
أما الانزياح اصطلاحًاً: فهو التباعد وتغيير المسار. ومفهوم الانزياح له علاقة بمعرفة ما ينقل الكلام من السمة الإخباريّة إلى السمة الإنشائيّة، (كما أن الانزياح قد ورد في البلاغة عند العرب على أنه وسيلة لتغيير الصياغة المألوفة للغة، أو العدول في مستوى اللغة الصوتي والدلالي، وقد تعددت الألفاظ الدالة على الانزياح في الدراسات البلاغيّة والأسلوبيّة، كالتجاوز والخطأ والكسر).(2).
هذا وقد اشتَهَر مفهومُ الانزياح وانتشر في الدراسات النقديّة والأسلوبيّة، وكان سببُ الاهتمام بهذا المفهوم يرجع بالأساس إلى البحث عن خصائصَ مميزة للغة الأدبيّة عمومًا، والشعريّة خصوصًا. وهو في الوقت نفسه إضافةٌ جماليّة يمارِسها المُبدِع لنقل تجرِبته الشعوريّة للمتلقي والتأثير فيه، وبالتالي لا يُعَد أيُّ خروج عن المألوف وتجاوُزٍ للسائد وخرقٍ للنظام انزياحًا إلا إذا حقَّق قيمةً جماليّة وتعبيريّة.
ويعرّف (أحمد محمّد ويس" الانزياح بقوله: «استعمال المبدع للغة "مفردات وتراكيب وصور" استعمالاً يخرج بها عمّا هو معتاد ومألوف بحيث يحقّق المبدع ما ينبغي له أن يتّصف به من تفرّد وإبداع وقوّة جذب). (3). أما قاموس "جون ديبوا"، فيشير إلى أن الانزياح (حَدَثٌ أسلوبي ذو قيمة جماليّة، يصدر عن قرار للذَّاتِ المتكلِّمة بفعل كلامي يبدو خارقًا لإحدى قواعد الاستعمال التي تسمى معيارًا، يتحدد بالاستعمال العام للغة مشتركة بين مجموع المتخاطبين بها.". (4).
بعض أنواع الانزياح. أو (مستويات الانزياح).
أولاً: الانزياح الاستدلالي (الدلالي):
وهو الأكثر استخداما، ويتعلق بأصل الوحدة اللغويّة أو بدلالتها مثل الاستعارة والمجاز والكناية والتشبيه، وقد أطلق عليه بعض النقاد (التلاعب باللغة)، أي تجاوز المعنى الحقيقي لمعانٍ عدّة مجازيّة.
ففي قصيدة (ينام في يديه) لـ "أدونيس" يقول: (يمد راحتيه للوطن الميت، للشوارع الخرساء، وحينما يلتصق الموت بناظريّه يلبس جلد الارض والأشياء.)
نجد الانزياحات هنا عند أدونيس، في إطلاقه الصفات على الموصوفات الحيّة مثلًاً أو غير الحقيقيّة، مثل الوطن الميت، والشوارع الخرساء، فصفات كالميت والخرساء تطلق على شخص حقيقي عاقل ولا تطلق على جمادات غير حية، لكنه أراد فيها معنًى دلاليًّا، وهو موت الوطن موتًا سياسيًّاً واجتماعيًّاً واقتصاديًّاً، وأراد كذلك في (الخرساء) أن الشوارع ليس فيها صوت للمارة والعابرين.
وفي قصيدة "نازك الملائكة" (البحث عن السعادة) تقول:
(أين من هذه الحياة ابتساماتِ الأماني ونشوة الأفراح.). فالانزياح هنا يتمثّل في "ابتسامات الأماني"، فخرجت عن الكلام المألوف، وجعلت الأماني تبتسم، وفي الحقيقة أن نازك أرادت تشبيه الأماني بإنسان يبتسم.
ثانياً: الانزياح التركيبي:
هو الذي يتعلق بتراكيب الجمل ككل وما فيها من حذف وتقديم وتأخير المبتدأ والخبر، الصفة والموصوف. والمبدع الحق هو من يمتلك القدرة على تشكيل اللفظة جماليًّا بما يتجاوز إطار المألوفات.
ثالثاً: الانزياح الإيقاعي:
وهو ما يتعلق بالنغم والوزن والقافية، والانزياح الإيقاعي مواز للانزياح الدلالي، (الاستعارة والمجاز والكناية والتشبيه). لذلك فالشاعر على أساس هذين الانزياحين يكون شديد الصلة باللغة، والشعريّة هي أسلوبيّة هذا النوع.
رابعاً: الانزياح الأسلوبي:
وهو تغيير دلالات الأساليب الخبريّة والإنشائيّة عن دلالتها الأصليّة حتى تنتج دلالة جديدة مختلفة.(5).
ويتجلى هذا النوع من لانزياح الأسلوبي في شعر الشاعر خالد بن يزيد الكاتب بقوله:
لست أدري أين الفؤاد مقيماً – بمكان الفؤاد؟ أين الفؤاد
دفعته الأحشاء عما يليهــــا - فأذابته حرقة واتــــــقاد
لقد خالف شعرية النص المألوف في الخطاب الشعري، إذ ليس من المألوف أن يسأل الإنسان عن فؤاده، ولكن الوضع النفسي الممزق هو الذي جعل الشاعر يلجأ إلى هذا الأسلوب...(6).
الانزياح في الدراسات النقديّة الحديثة:
رغم أن الانزياح مصطلحٌ حديث ارتبط بالأسلوبيّة وبالشعريّة الحديثة، (إلا أن للمفهومِ الذي يدل عليه الانزياح جذورًاً بلاغيّةً تعودُ إلى البلاغة اليونانيّة، كما نجد عند أرسطو الذي كان يُفرِّق بين اللغة العاديّة المعروفة والشائعة، وبين اللغة الغريبة غير المألوفة، مؤكدًا أن الثانية – الغريبة - هي اللغة الأدبيّة؛ لأنها تعبيرٌ عن الحركيّة والتجدُّد والحياة، على عكس اللغة العاديّة الدالة على السكون والنمطية المُمِلَّة والمعياريّة.). (7).
أما في البلاغة العربيّة القديمة، فصُوَرُ الانزياح عرَفتِ اهتمامَ البلاغيين العرب القدماء، رغم أنهم لم يعرفوا المصطلح، فإنهم بحثوا في الخروج عن القاعدة والمألوف بتسميات مختلفة تُشكِّل في النهاية علمَ البلاغة، فدرسوا الاستعارة، والتقديم والتأخير، والعدول، إلى غير ذلك من المباحث البلاغيّة.
ويُعَدُّ "عبد القاهر الجُرجاني" من أبرز النقاد الذين تطرَّقوا لمواضيع تُلامِس بقوةٍ مفهومَ الانزياح بمعناه الحديث؛ حيث أَوْلَى عِنايةً خاصة للعدول، وعدَّه مِيزةً كبيرة للشِّعر.(8).
أما الدراسات النقديّة والأدبيّة الحديثة فقد اهتمت بظاهرة "الانزياح" باعتباره قضيّة أساسيّة في تشكيل جماليات النصوص الأدبيّة، وبوصفه أيضاً حدثاً لُغويّاً في تشكيل الكلام وصياغته. والانزياح كما بينا في مفهومه، هو خروج الكلام عن نسقه المثالي المألوف، أو هو خروج عن المعيار لغرض قصد إليه المتكلم، أو جاء عفو الخاطر؛ لكنه يخدم النص بصورة أو بأخرى وبدرجات متفاوتة.
لقد قدَّمتِ البلاغةُ العربيّة خدمةً جليلة للغة العربيّة وللقرآن الكريم، لكنها بعد ازدهارها مع "الجرجاني" وغيره من الذين اشتغلوا على النقد، دخلَتْ في العصور الوسطى عصور الجمود والتَّكرار، مما فرض تجاوزَها في الدراسة النقدية الحديثة، ولكن هذا التجاوزَ لا يعني القطيعةَ الأبستيمولوجيّة مع البلاغة، بل مجرد تطوير، وهكذا أصبح الحديثُ عن الأسلوبيّة كبلاغة جديدة.(9).
ومن الذين اهتمَوا من النقَّاد العرب بمفهوم الانزياح، يأتي "عبدالسلام المسدي، في كتابه (الأسلوب والأسلوبيّة)، و"صلاح فضل"، و"تمام حسان"، و"محمد العمري"، وغيرهم، إلا أن المُلاحَظ هو أن النقاد العرب يصطلحون على المفهومِ اصطلاحات مختلفة، حيث تتداخل مع مصطلح الانزياح عدةُ مصطلحات، أهمها العدول والتغريب:
فالعدول لغةً: هو الميل والانعراج، وبذلك فإن العدولَ في اللغة هو دلالةٌ على حياد الشيء عن وجهته وإمالته عنها.
أما العدول في المعنى الاصطلاحي: فهو مَيلٌ عن النظام أو الأصل اللُّغوي. إنه الانتقالُ بالألفاظ في النصِّ مِن سياقها المألوف إلى سياق جديد غير اعتيادي، مما يثير التساؤلَ، ويَلْفِت النظرَ والانتباه.
أما التغريب: فهو جعل المألوف لدى المتلقي غريبًاً، عن طريق التنويعات الفنيّة. (10).
ملاك القول:
إن الانزياح ظاهرةٌ مُهمَّةٌ في اللغة العربيّة؛ فهو وسيلة لتوسُّعها، وأداة فنيّة وجماليّة عرَفَتْها اللغة منذ القديم؛ حيث نجد أن العرب قديمًا تنبَّهوا للظاهرة، ولو بمصطلحات أخرى كما بينا في موقع سابق، أهمُّها العدول؛ كما نجده عند (ابن جني، وعبد القاهر الجرجاني، والقاضي الجرجاني، وابن رشيق القيرواني)، وغيرهم.
وفي العصر الحديث ظهر مفهومُ الانزياح، سواء عند العرب أو عند الغرب، بمصطلحات كثيرة؛ كالانحراف، والميل عن القاعدة، والتغريب، والجسارة اللُّغوية
لقد تعدَّدت مصطلحات أو مفردات الأسلوبيّة، ومفاهيمها، وآليات اشتغالها، كالصورة والرمز والقناع والمكان والزمان والتشبيه والاستعارة والتقديم والتأخير ..الخ،. ويعتبر الانزياحُ مِن أشهر هذه المفاهيم التي ظهَرت مع الشِّعريّة الحديثة، وذلك لأن اللغة الشعريّة تختلف عن غيرِها اختلافًا كبيرًاً. فاللغة العلميّة مثلًاً تميل للأسلوب التقريريِّ المباشر الذي تكاد تنعدِم فيه نسبةُ التأويل، مما يضع المتلقيَ أمام دلالة واحدةٍ على العموم، رغم اختلاف المتلقِّين ومستوياتهم ومشاربهم الثقافية. أما في الشعر، فإن الأمر نجده معكوسًا، حيث يعتمد الشِّعر على لغةٍ لها حظُّها من التقريريّة في بعض الأحيان، لكنها إيحائيّة في الغالب الأعم، بل يجب أن تكون كذلك، وهي تفتح بذلك للمتلقِّيَ عالَمٍاً مِن التأويلات والدلالات المتعددة التي تفرضها طبيعة اللغة، سواء صوتيًّاً، أو صرفيًّاً، أو تركيبيًّاً، أو دلاليًّاً.
إن الشاعر يهدفُ إلى إبهار المتلقِّي وشدِّه لقصيدته، مستعملًا عددًاً من الوسائل في تحقيق غايته، الصورة الرمز الموسيقى انسيابية الألفاظ وسهولتها ولطافتها وجزالتها.. وغير ذلك . وما الانزياحُ إلا وسيلةٌ من هذه الوسائل، بل هو أشهرها وأهمها، وجامعها وبوتقتها التي تنصهر فيها. فالانزياح من الظواهر المُهمَّة في الدراسات الأسلوبيّة التي تقارب النص الأدبي عمومًا، والنص الشِّعري على وجه الخصوص، باعتبار أن النص الشعريَّ يُميِّز نفسه بالخروج عن المألوف.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سوريّا.
.........................
الهوامش:
1- (يوسف وغليسي، إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، صفحة 217. بتصرّف.).
2- (عباس رشيد الددة - الانزياح في الخطاب النقدي والبلاغي عند العرب - صفحة 15. بتصرّف.).
3- (موقع ديوان . اللغة العربية. إنزياح لغوي).
4- (سامية محصول، مجلة دراسات أدبية، العدد الخامس، فبراير 2010.).
5- حول أنواع الانزياحات – (يراجع موقع موضوع. ويراجع أيضا: شعرية الانزياح في شعر محمد اسماعيل جوهرجي – د. عبد الرحمن بن خليفة الملحم- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.).
6- (ظاهرة الانزياح الأسلوبي - في شعر الشاعر خالد بن يزيد الكاتب – الدكتور صالح علي سالم الشتيوي- محلة جامعة دمشق – المجلد 21 – العدد – (3+4) – 2005.).
7- (محمد ويس، الانزياح من خلال الدراسات الأسلوبية، المؤسسة الجامعية للدراسات، 2005، ص 82.).
8- يراجع موقع ألوكة – ظاهرة الانزياح – ويراجع يضاً حول موقف الجرجاني من الانزياح. (شعرية الانزياح في شعر محمد اسماعيل جوهرجي – د. عبد الرحمن بن خليفة الملحم- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.). بتصرف
9- (راجع شبكة ألوكة – ظاهرة الانزياح -) بتصرف.
10- (تعريف الانزياح لغة واصطلاحًا - ظاهرة الانزياح - موقع الألوكة الأدبيّة واللغويّة - بوطاهر بوسدر.). بتصرف.