قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية مُوسّعة لقصيدة الشاعرة الجزائرية ناديا نواصر
بعنوان "معراجُ الفتنة"
تجيء قصيدة «معراجُ الفتنة» بوصفها مساحةً يتقاطع فيها الوجدُ الحميم مع التوتر الروحي، ويتجاور فيها الجسد مع الرمز، فتبدو — في ظاهرها — نصّاً غزلياً متّقداً، لكنها — في جوهرها — بنيةٌ دلالية مركّبة تتوسّل لغةً متوّهجة لتقول ما يتجاوز حدود الغرام العابر. إنها نصّ لا يُقرأ بعيون العاشق وحده، بل بعين الناقد الذي يُحسن الإصغاء إلى ما يتوارى خلف اللفظة، وإلى ما يتسرّب عبر الصمت بين السطور.
تتعالق في هذا النص مستوياتٌ متعدّدة من المعنى، بحيث تستدعي قراءاتٍ مختلفة: قراءة هيرمينوطيقية تكشف خريطة المقاصد والهوامش الخفيّة، وقراءة أسلوبية تُفكّك الموسيقى الداخلية والتوتّر الإيقاعي، وقراءة رمزية تستنطق الحقول الاستعارية التي تصنع المنظور الروحي للنص، إضافةً إلى مقاربة سيميائية تستعين بنموذج غريماس لتتبّع ديناميّة الفعل وصراع الفواعل، فضلاً عن مستويات نفسيّة ودينيّة ووطنية تعطي القصيدة امتدادها التأويلي المفتوح.
تتقدّم ناديا نواصر هنا بجرأة لغوية تُجاور المقدّس بالغريزة، وتخترق الفضاء العاطفي ببلاغة مُرهِقة في جمالها، حتى يتحوّل العشق إلى معراج، والفتنة إلى امتحان يختبر حدود الذات وهي تتأرجح بين الهبوط والصعود. إنّ هذا النص، بما يملكه من حرارة وصهد، يضع القارئ أمام تجربة تتجاوز الحبّ بوصفه انفعالاً، لتجعل منه مساراً وجودياً تتداخل فيه المعرفة والرغبة والطقس.
ومن هنا؛ تأتي هذه الدراسة لتعيد تفكيك هذا المعمار اللغوي والدلالي، ولتفتح أفقاً نقدياً يستوعب تعدّد الطبقات التي يقوم عليها النص: من اشتعالات الصباح الأولى، إلى صعود الروح في معارج الفتنة، إلى ذلك السؤال العميق الذي يبقى مُعلّقاً:
هل المعراج خلاص، أم بوّابة أخرى للاحتراق؟
بهذه الأسئلة، يبدأ البحث… وبها أيضاً يظلّ النص مفتوحاً على احتمالاته.
١. تمهيدٌ منهجيّ:
أتعامل مع القصيدة كنصٍّ ديناميكي: ليس محض تعبيرٍ عن حالةٍ وجدانية فحسب، بل منظومةُ معاني تُنتَج وتُعادُ إنتاجها داخل علاقةٍ تفاعليّة بين المخاطَب/المخاطِب/الزمن/المكان/الرمز. المنهج متعددُ الأوجه: هيرمينوطيقا تؤوّلية لالتقاط المقاصد والآفاق الدلاليّة، تحليل أسلوبي لبيان أدوات الخطاب والبناء الصوتي، قراءة رمزيّة لاستجلاء المستويات الاستعاريّة، سيمياء تطبيقية عبر نموذج غريماس لاستخراج أدوار الفعل، مع تدخّل لقراءات نفسيّة ودينيّة لبيان جذور الإيحائيّات. أختم بمقارنة نصّيّة رباعيّة المستويات.
٢. العنوان: «معراجُ الفتنة» — دلالة مركّبة
١- معراج: صورة صعودٍ روحي، رحلةُ انتقالٍ من مستوى إلى آخر (مستعار من المعراج النبوي: رحلة ترتقي بالروح).
٢- الفتنة: إغراء، امتحان، هزّة تخلخل الاستقرار؛ قد تكون جسديّة أو معنوية أو سياسية.
٣- التركيب يفصح عن توترٍ مركزي: صعودٌ مُرضٍ لكنه خطير، لقاء بلاغي بين التقدّس والتحرّش، بين الخلاص والاختبار. العنوان يوحي بأن اللقاء/العشق هو مسار ترتقي فيه الروح لكنّه أيضاً معرّض للسقوط — فتنةٌ تجعل المعراج امتحاناً.
٣. الخطاب والبنية الصوتية:
١- الافتتاح: «يجيئني الصباح مشتعل العينين» — صياغة فعلية مُباشرة، الصباح هنا فاعلٌ، لا ظرف؛ الصباح يجيء وهو مشتعِلٌ بالعينيْن: تشخيصٌ لجسد الصباح بصور إنسانية.
تكرارُ ضمائر التوجّه والوقوفات القصيرة يولّد إيقاعاً نبضيّاً مقاطِعاً، يناسب حالة التهيّج والانتشاء.
٢- اللغةُ تَتوهّج بلحنٍ صوتيّ: تعددُ الأصوات (رنات الهاتف، أغنية، نشيج) يعطي النصّ موسيقى داخلية.
٣- التناصّ الدالّ: مفردات دينية/طوباويّة (معراج، محراب، سيد العارفين) تختلط بمفردات الغزل (عطرك، قبلة، نشيد)، ما يؤسس لغة هجينة بين التديّن والغرام.
٤. قراءات مفرداتية — تفسير مفردات محورية:
١- مشتعل العينين: الصورةُ الأولى تُشير إلى شدةِ البصرِ/الوجود؛ العينان هنا ليستا وسيلة نظر فحسب بل محرّكان للنصّ؛ اشتعال كدلالة على الإيقاظ والرغبة.
٢- متوهج اللغة: اللغة ليست وسيطاً جامداً بل نَارٌ تتوهّج، أي أنها عامل فِعلٍ فاعل في الحياة الروحية.
رنات هاتفك → معارج الفتنة: الحداثة التقنية تُؤسِّس جسراً بين البعد المادّي والفَتنة الروحية؛ رنّات الهاتف عاملُ استدعاءٍ للمعراج والغواية معاً.
٣- ملكة هذا الوجود / سيدة الخفق: تمثُّل المتكلِّم/المتكلِّم إليها كسلطةٍ في الحبّ، لكن ثنائيّة “سيد” و“ملكة” تحمل إمكانية الخضوع والاستبداد معاً.
٤- قلم الحكمة المرفوع عن العشّاق: إسقاطٌ لمقاييس العقلانية حين يغيب عن عشّاق الهوى؛ يُشرَع المجال للجنون.
٥- صهدي / رغدي / مهوى رغائبي: تكرارُ مفردات الجسد والرغبة باللّهجة الذاتية يخلق امتلاكًا وشعورًا بالتمكين والافتتان الذاتي.
٦- احتواك بين الجلد واللحم: الجسد كمكان امتلاك ومحطة نشيدٍ حميميّ؛ امتزاجٌ بين الوشائج البدنية والوجدانية.
٥. السيمياء التطبيقية: نموذج غريماس (خرائط الفاعلات):
نحيل النصّ إلى نموذج الفاعلات لنكشف ديناميّة الفعل:
١- الفاعل : «أنا» الشاعرة/المخاطبة — الفاعل المشتاق الذي يُستدعى ويستقبل.
٢- الموضوع/المبتغى: الوصول إلى حالة الانصهار الروحي/المعراج/الانتشاء التام.
٣- المرسل: «الصباح المشتعل» و«رنات الهاتف» و«الفتنة» نفسها: عناصرٌ تغرّبُ الفاعل وتدفعه إلى السعي.
٤- المرسل إليه/المتلقي: «أنت»/«سيد العارفين»/المخاطَب الذي يُمنح القدرة على منح المعراج والانتشاء، أو على افتضاح الفتنة.
٥- المساعد: اللغةُ المتوهّجة، العطر، الصوت، الصور التي تُعانق الروح.
٦- المعارض/المعيق : «الحكمة» المرفوعة عن العشاق، «الفتنة» كقوّة متذبذبة، امتيازُ الجنون كمعارض للمنهج العقليّ.
٧- العملية التحويلية: انتقالٌ من وضع الاستسلام إلى حالة المعراج؛ العملية ليست خطيّة بل دوّارة، فيها احتمال للسقوط أو للاكتمال.
الخريطة تُظهر نصًّا دراميًا: رغبة تقابل اختباراً، ولغةٌ تعمل كوسيطٍ تحوّل حالة الوهج إلى معراجٍ أو إلى فتنَةٍ مدمِّرة.
٦. البُنى الرمزية والدلالية العميقة :
١- المعراج كمجاز مزدوج: صعودٌ وتطهير، لكنه معرّض بالـ«فتنة»؛ هنا المعراج ممكنٌ إذا استسلم الفرد لفتنة المحبوب — أو قد يُفضي إلى الضياع.
٢- النار/الصهد/الاحتراق: حضور واضح لرمزية النار كدفءٍ وخطرٍ؛ «صهد الروح» يشير إلى لهيب داخلي يغذي البلاغة والعشق وفيه إمكانُ الهلاك.
٣- المحراب/هيبة الجبل/الرماد: عناصرٌ طقوسية تعبّر عن قداسةٍ ومآلٍ؛ الرماد دلالة على ما تبقّى من احتراق سابق، والمحراب مكان عبادة/التقرب.
٤- النهر/القبلة/الجلد واللحم: رموز جسديّة للموت/الولادة، للاندماج بين العاشق والمعشوق، وللتماهي كطقسِ اتحادٍ.
٧. قراءة نفسيّة ودينيّة:
١- نفسيّاً: النص يستدعي آليات الاندماج والهوية المختلّة. قول الشاعرة «عارية من حكمتي وصوابي» هو استسلامٌ لاندفاعٍ عاطفي يتجاوز الضبط الذاتي ـ علامة على نزعة تحوّل الحبّ إلى حالة فقدان للذات المؤلوفة. «قلم الحكمة» المرفوع يرمز إلى تعطيل الضوابط العقلية في مواجهة العشق، وهو تحول معروف في دراسات الارتباط والهيجان العاطفي.
٢- دينيّاً/روحانياً: توظيف صور المعراج والمحراب والسيد العارفين يشي بتداخل بين تجربة الحب وتجربة الارتقاء الروحي. الحبُّ هنا يملك طابعًا طقوسيًا يقارب تجربة الالتقاء بالقدس — ما يطرح تساؤلاً أخلاقياً: هل الحب وسيلة للخلاص أم امتحانٌ للخطيئة؟ النص يترك الإجابة مفتوحة.
٨. البُعد الجمالي والوَطني:
١- جماليّاً: اللغة معبّرةٌ ومشحونةٌ بصورٍ مركّبة، اقتصاد أبياتٍ مع تخطيطات صوتيةٍ مقصودةٍ، ومزيج من الحداثي والطقوسي يولد جمالاً محمّلاً بتوتر. التأثير الجمالي يأتي من الاصطدام بين المقدّس والمدنّي، بين الطقوس والهواتف، بين الصعود والفتنة.
٢- وطنيّاً: لفظات مثل «مدار»، «سكان المدار»، «هيبة الجبل» و«الغربة» في قصائد الشاعرة عامةً قد تُستغلّ لقراءات متعدّدة عن الهوية والاغتراب والتحرّر؛ في هذا النص، لا توجد إشارة صريحة للوطن لكنّ استحضار «المدار» و«السكان» يفتح إمكانية قراءة متخيّلة تتعلّق بالانتماء والمكان. هذه القراءة تبقى افتراضية وتحتاج استدلالًا من مجمل شعر نواصر.
٩. المقارنة على أربع مستويات:
أ. المستوى الانفعالي:
النص مشحون بمشاعر متداخلة: انتشاء، ذهول، لهفة، تهوّر، تخوّف: خليطٌ من النشوة والقلق. الانفعال يتدرّج من الاندفاع («هيا — اتهجاني عبر اللغة») إلى التساؤل الختامي غير المطروح هنا لكنه ضمني: إمكانية السقوط واردة.
ب. المستوى التخييلي (الخيالي):
الخيال واسع ومُولِّد للصور الطقسية والمادية معًا: معارج، محراب، نهر جارف، بلور النار، صهدي — كلّها تصنع فضاءً تخييليًا متعدّد الطبقات، يمزج الممكن بالمستحيل.
ج. المستوى العضوي (الجسدي):
الحضور الجسدي قوي: الجلد، اللحم، القبلة، نشيد على صدر عاشقة؛ الجسد ليس موضوعًا بل وسيط للمعراج والفتنة، هو المساحة التي تختبر العلاقة وتحمل الآثار.
د. المستوى اللغوي:
اللغة مُشتغلة على مستويات: بلاغة تصويرية، تكرّرات اسمية فعلية، صياغات طقسية/محدِّثة، ومزج بين خطاب الديني/الطوباوي والخطيبة الغزلية؛ تُنتج موسيقى داخلية وتوترًا نحو اللامتحقّق.
١٠. ما لا يُقال: الفراغ الإيحائي:
النص يترك فراغات استراتيجية: هوية المخاطَب غير محددة، ظروف اللقاء غير مفصّلة، خاتمة المعراج غير محسومة. هذا الفراغ هو مورد دلالي: يدعو القارئ إلى الاشتراك في كتابة النص، ويترك الإمكانية مفتوحة للقراءات التاريخية والاجتماعية.
9. خاتمة: هندسة الألم/الفتنة وإمكانيات القراءة المستقبلية:
«معراج الفتنة» نصٌّ يسترقّ بين لحظة الطقوس ولحظة الغواية: لغةٌ متوهّجة، صور جسدية وروحية، ومعمارٌ دراميّ محوره اختبارُ الهوية والهوى. القراءة الهيرمينوطيقية تُبدّي أن النصّ لا يعطينا إجاباتٍ نهائية بل يقدّمُ معمارًا للشكّ: هل يقدّم المعراج خلاصًا أم محنة؟ هل الفتنة طريقٌ للتحرّر أم للتآكل؟ إنّ أغنى ما فيه أنه يترك القارئ في معراجٍ من التساؤل، حيث تصبح اللغة نفسها معبراً ومحرّكاً في آنٍ معًا.
يبدو أنّ قصيدة «معراجُ الفتنة» ليست مجرّد نصّ يُقرأ، بل تجربة تُعاش؛ مسارٌ تتقدّم فيه الذات عبر مستوياتٍ متتالية من الانخطاف والوعي، ومن الانجذاب والاحتراق. وإذا كان العشق في ظاهر القصيدة حالةَ انتشاءٍ لغويّ، فإنه في بنيتها العميقة تحوّلٌ رمزيّ يختبر قدرة اللغة على حمل الأثقال الوجودية الأكثر هشاشةً وتوهّجاً.
لقد بدا جليّاً من خلال التحليلات المتعدّدة—الهيرمينوطيقية، الأسلوبية، الرمزية، السيميائية، النفسية، والدينية—أن النصّ يعمل وفق معمارٍ دلاليّ معقّد، يقوم على توتّرٍ جوهري بين قطبين: الرغبة كقوّة صاعدة والفتنة كاختبارٍ مُهدِّد. بهذا المعنى، يصبح «المعراج» حركةً مزدوجة: ارتقاءٌ يشتهي الاكتمال، وهاويةٌ تُلوّح دائمًا بإمكانية السقوط. ولا ينفصل هذا الفعل المزدوج عن الجسد الذي يُمثّل في النصّ مرآةً للروح، ولا عن اللغة التي تتحوّل إلى شرفةٍ يطلّ منها القارئ على ما لا يُقال.
إنّ هذا النص لا يمنح قارئه يقيناً نهائياً؛ بل يتركه مُعلّقًا في المسافة بين اللمسة والدهشة، بين الهمس والاحتراق، بين العشق بوصفه خلاصًا، والعشق بوصفه فتنةً لا يخرج منها المرء سالمًا. وربما هنا تكمن قوّة القصيدة: أنّها تفتح بابًا إلى منطقةٍ من الحبّ لا تُفسَّر بالعقل وحده، ولا تُختزل بالرغبة وحدها، بل تتشكّل في التقاء الطقوس بالغواية، وفي احتدام اللغة كجسدٍ آخر للعاشق.
وهكذا، تغدو «معراج الفتنة» شهادةً على قدرة الشعر العربي الحديث على مزج الروحاني بالجسدي، والغنائي بالدلالي، والحميمي بالكوني، ليقدّم نصًّا تتجاور فيه الفكرة والنبض، ويتحوّل العشق فيه إلى خريطةٍ وجودية تُضيء كلَّ ما حاولت اللغة إخفاءه.
وبين بداية المعراج ونهايته، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل يرتقي العاشق لأنه يحبّ؟ أم لأنه يحترق؟
ولعلّ جمال النصّ أنه يترك الإجابة في يد قارئه—لا في يد الناقد ولا الشاعر—كي يختبر هو أيضًا معراجه الخاص بين الفتنة والخلاص.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
.........................
معراج الفتنة
شعر نادية نواصر
يجيئني الصباح مشتعل العينين
متوهج اللغة
متوجا بعطرك، صوتك والشوق الذي تناساه ليلنا
وتحملني رنات هاتفك إلى معارج الفتنة والانتشاء
وحدي ملكة هذا الوجود
سيدة الخفق المكتظ بجنون عشقي اليك
اتهجاني عبر اللغة التي تخاتل روحي
وراني فيك مفعمة بالصهيل الذي يقول حنيني حد احتراق بلاغتي
يا سيد العارفين بأمر الروح، يوم ادنيتني منك
اهتز تراب دهشتي واعتراني ذهول الوله
مشيت في محراب عينيك
عارية من حكمتي وصوابي
العشاق يا اناي رفع عنهم قلم الحكمة
ويجوز لهم من الجنون ما لا يجوز لباقي سكان المدار
الصباح الذي يعيد ترتيبي فيك
صباح للغواية والبوح والهمس الفاتن
كأنثى من بلور النار، ومن صهد الروح التي تصاعدت بك إلى معراح روحي
يا صهدي، ويا رغدي ومهوى رغائبي
يا كل هذا النهر الجارف لاسئلة القلب وهي تتشكل فيك
كما تتشكل القبلة على صدر عاشقة من عاشقها المستبد
اني معك ولك ومنك واليك وفيك
اسطورة من رقة النون الاستثنائية
في عمر سخر لك تنهيدة الروح
واحتواك بين الجلد واللحم
***







