قراءات نقدية

حسين كركوش: "منازل العطراني".. رواية تخيلية أم هجاء سياسي؟

رواية الأطروحة

في رأينا أن التسمية الأقرب لرواية (منازل العطراني) هي ما يسميه النقد الفرنسي (رواية الأطروحة Roman à thèse)، أي أن المؤلف لديه أطروحة (thèse) أو وجهة نظر يريد الدفاع عنها وإيصالها للقارئ وأقناعه بها (سنوضح لاحقا وجهة نظر مؤلف هذه الرواية).

وفي رواية كهذه غالبا ما يركز المؤلف اهتمامه الأكبر على موضوع الرواية، حتى لو تم على حساب التقنية الروائية، أحيانا. وفي الرواية التي نناقشها أختار المؤلف أن تكون روايته مزيجا من سيرة شخصية Biographie يروي فيها وقائع حياة شخص آخر، والده، وفي الوقت نفسه سيرة ذاتية يروي فيها وقائع حياته الخاصة.

ولكن لا نستبعد أن يقرأها آخرون كعملية توثيق وأرشفة لفترة محددة من تاريخ العراق (من خمسينيات القرن الماضي حتى مطلع القرن الحالي). وربما يعتبرها البعض (مانفيستو) (هجائي) للحزب الشيوعي العراقي.

بالإضافة لذلك، نجد هنا وهناك من صفحات الرواية أرشفة وتسجيل لعادات وتقاليد سكان منطقة محددة من جغرافية العراق (مناطق نهر الغراف)، مما يقرب الرواية الى ميدان السوسيو/ انثروبولوجي (الصفحات 23، 58، 50، 66.)

ومن أجل إيضاح وإيصال وجهة نظره سعى الكاتب، ومنذ البداية لتوظيف كل العناصر التكوينية للرواية: (الاستهلال، الحبكة، طريقة السرد، الحوار، العقدة، تصاعد الأحداث، الزمن الاسترجاعي، الصراع، الشخصيات، الديكور، الزمان، الفضاء المكاني ونوعيته، اللغة... الخ).

ولأن (منازل) سيرة ذاتية، ولأنها تذكر أسماء شخصيات ووقائع تاريخية حقيقية، فمن المتوقع أن يفتش بعض القراء عن (المصداقية) في السرد، ويطرحون تساؤلات منها: هل ما سرده مؤلف (منازل) واقعي، أم من صنع الخيال، صادق أو لا، يتطابق حرفيا مع الواقع أو مبالغ فيه، هل أن المؤلف أمين في النقل أم محايد أو انتقائي؟

سيكون من اللاجدوى أن نشغل أنفسنا بالتساؤلات أعلاه بها، لسببين:

أولهما: أن غلاف الكتاب يحمل مفردة (رواية)، أي عمل أدبي من صنع المخيلة، أو للمخيلة دور كبير فيه. وبهذا يكون أحد الأغراض من وجود مفردة (رواية) على الغلاف، هو استخدامها من قبل المؤلف ك(درع) يحتمي به من عتاب أو لوم أو نقد، وربما حتى هجوم. فلو عاتبه قارئ بقوله: الشخصية الفلانية في روايتك أعرفها جيدا وتعايشت معها وما كانت مثل وصفك لها، أو قال له آخر: أن الحدث الفلاني في روايتك كان بهذا الشكل وليس كما صورته، فأن جواب المؤلف سيكون واحدا: أنا أكتب رواية ولا أنقل وقائع وحقائق.

والسبب الثاني، هو أن أي مؤلف للسيرة الذاتية يوقع على ما يسميه الناقد الفرنسي فيليب لوجن Philippe Lejeune (ميثاق أو تعهد السيرة الذاتية Pacte autobiographique). وهذا العقد، في رأي الناقد، هو ''التزام ضمني يتعهد بموجبه المؤلف أن يسرد حياته كلها، أو جزء منها، ويقدم معلومات صحيحة وحقيقية عنه، بالطبع من وجهة نظر المؤلف، أي المعلومات التي يراها هو صحيحة. أما نحن القراء فما يهمنا هو أن ندرك هل ما يسرده المؤلف محتمل الوقوع أو غير محتمل، متماسك أو غير متماسك، جيد أو سيئ، وما إلى ذلك.'' أي، أن الموضوع ''لا علاقة له بين التمييز بين الحق والباطل.''

عرفنا الضحية لكن من هو الجلاد في (منازل)؟

لا يمكن إجابة هذا السؤال دون معرفة (قصة) الرواية، ودون الاطلاع على الشخصية المركزية فيها، محمد الخلف.

(محمد الخلف) معلم، وناشط سياسي ينتمي الى (جماعة) حزبية. من هي (الجماعة)؟ الرواية لا تذكر أسمها الصريح أبدا، لا على لسان المؤلف ولا الراوي المحايد ولا الشخصيات الرئيسية ولا الثانوية، ولا (وهذا أمر غريب) على لسان الخلف نفسه، ولا حتى على لسان حزبيين ينشطون في صفوف الجماعة (سليم، مثلا). ولا ترد كلمة (الحزب) في الرواية كلها سوى مرة واحدة، وحتى في هذه المرة يرد ذكر الحزب لكن دون ذكر (الشيوعي): ''الزعيم الأوحد والحزب الأوحد كلاهما متألّه يظن أنه يقبض على المعنى ... ص7''. لكن القارئ، إذا كان عراقيا، يفهم بسهولة أن (الجماعة) هي الحزب الشيوعي العراقي، خصوصا مع وجود تلميحات كثيرة، وكل تلميح منها يصل حد التصريح.

وبسبب هذا الانتماء الى (الجماعة) تتم محاكمة الخلف ثم مساومته ''في شتم رموز انتمائه السياسي والفكري مقابل الإفراج عنه''، وعندما يرفض يسجن ويفصل من وظيفته، تاركا عائلته دون معيل، ثم يهرب من السجن، ويظل متخفيا قبل العودة لأسرته. هذه هي القصة.

أما شخصية محمد الخلف فهي كالتالي:

محمد الخلف إنسان أنموذج. لا يملك الا الصفات والشمائل الحميدة على مختلف الأصعدة:

سياسيا: يتمتع بوعي سياسي حاد وقدرة على تحليل الأمور وربط بعضها بالبعض الآخر وصولا الى استنتاجات صحيحة، شجاع لا يتردد ان يتحدى القاضي ويفند بشجاعة الاتهامات ضده ويصفها بأنها ''أكاذيب وافتراء وكلام ملفق ص6''، ولم يندم أو يتراجع عندما صدر بحقه الحكم بالسجن: ''كان هذا اختياري وطريقي مضيت فيه، تركت ورائي عشرة أبناء وزوجة لا ماء ولا زاد ص7''. وهو مبدأي، وفلسفته في الحياة هي: ''يموت الشجر بجانب البئر عطشا، لكنه لا ينحني أبدا لطلب الماء ص7''، أي هو ثابت لا يغير مبادئه ولا يساوم عليها، وبعيد عن أي تفكير وسلوك براغماتي نفعي أو ميكافيلي، وقد قرن القول بالفعل فارتضى لنفسه أن يسجن ويضحي بسعادته وبسعادة أسرته من دفاعا عن المبادئ.

أخلاقيا: يبر الخلف بوالدته، يحترم زوجته حد التقديس، ذو ذهنية حضارية تنويرية، متسامح في تربيته لأولاده وبناته وعلاقته معهم أساسها الاحترام المتبادل.

اجتماعيا: يحب الخلف ويحترم أقاربه ومعارفه وهم بدورهم يبادلونه الحب والاحترام الكبير الى حد أن واحدا منهم قال له في أيام تخفيه: ''أنا حاضر لأي طلب تأمرني به، أنا رهن أشارتك ص 28'‘.

ثقافيا ومعرفيا، يتمتع بثقافة غنية، وله مطالعات أدبية واسعة، وفي شبابه كانت له ''مكتبة تضم كتبا لجورج حنا، طه حسين، سلامة موسى، المنفلوطي، جبران خليل جبران، مجلات الهلال، الآداب، الأديب، أهل النفط، فضلا عن دواوين الشعر وكتب النحو ص49'' بالإضافة لكتاب عرب وأجانب (تقدميين)، المضغوط، دويستوفسكي ص82، وحتى اثناء فترة تشرده وتخفيه ظل مواظبا على قراءة الروايات ص92، ويتمتع بقدرات فنية أبرزها الخط، ضليع بتاريخ بلاده العراق ''منذ فجر التاريخ حتى اليوم ... من الملك السومري لوكالة زاكيي.. حتى مقتل الزعيم (قاسم) ص35''.

باختصار، محمد الخلف (خُلِق مُبَرأ من كل عيب)، مع ذلك لاقى التشريد والفصل من العمل وترك عائلته لمصيرها دون معيل، ثم سجن وهرب وظل متخفيا... الخ.

إذن، محمد الخلف ضحية. ولأن لكل ضحية جلاد فمن هو الجلاد هنا؟

السلطة الحكومية (قلنا السلطة بشكل مطلق ولم نقل السلطات)؟ أم (الجماعة) السياسية التي ينتمي اليها محمد الخلف؟

نحن نفترض أن الرواية ترى أن (الجماعة) هي السبب (الأصلي) في الأذى الذي طال محمد الخلف وأسرته، ثم يأتي دور السلطة السياسية. هذا افتراض منا وسنحاول أثباته كالآتي:

أولا: لولا انتماء محمد الخلف الى (الجماعة) لما لاحقته السلطة السياسية، أصلا، ولوحق من مدينة لأخرى في بداية وظيفته، ولما فصل من وظيفته لاحقا، ولما سجن وفر من سجنه ثم ظل متخفيا وتحملت عائلته الأذى. بل لولا انتمائه الى (الجماعة) لما كانت، أصلا، توجد رواية أسمها (منازل العطراني).

(الجماعة)، كما سنجد ونحن نتقدم في القراءة وحتى الوصول الى الخاتمة، هي (لُب) موضوع الرواية وداينمو أحداثها وثيمتها المركزية التي يتكرر حضورها بتواتر من البداية حتى النهاية، تلميحا مرة وتصريحا مرات، بتعاطف مرات قليلة، وبنقد وهجاء مرات أكثر، وبحيادية، وبحنين نوستالجي أحيانا، ويرد أسمها على ألسنة الجميع: الراوي المحايد والشخصية الرئيسية والشخصيات الثانوية، سواء في زمن الرواية الفعلي أو الزمن الاستذكاري.

وفي مقابل هذا الحضور الكاسح ل(الجماعة)، فأن السلطة السياسية حضورها ضعيف جدا، وتكاد تغيب نهائيا ويتوقف حضورها ودورها في منتصف الرواية، كما سنوضح تاليا.

ثانيا: في رواية (منازل) محمد الخلف هو البطل protagoniste، ووفقا لمواصفات رواية كلاسيكية مثل (منازل)، يفترض أن يوجد خصم للبطل antagoniste، أي شخصية (حقيقية أو معنوية) يساهم وجودها في احتدام الصراع وتحريك الأحداث، ويزيد القصة توترا، وتكون حاضرة (سواء حضورها المادي المباشر أو حضورها المعنوي اللامباشر، أي أفكارها) من البداية حتى النهاية، وتسبب الأذى للبطل.

من يمثل هذا العنصر، أي الخصم L’adversaire وتنطبق عليه هذه المواصفات في (منازل)؟ الافتراض (وفقا للاستهلال في السطور الأولى من الصفحة الأولى) يؤشر على السلطة السياسية، لأنها هي التي سجنت الخلف، ورأيناه هاربا من سجنها ومشاركا في تظاهرة سياسية.

لكن هذا الافتراض يضعف كلما تقدمنا في قراءة الرواية، وهذا الضعف يتم بالتوازي مع ضعف ثم تلاشي (حضور) السلطة السياسية في الرواية.

السلطة السياسية، بصراعاتها وانقلاباتها العسكرية وعسسها ومخبريها تكاد تكون (غائبة) في تفاصيل (حياة) محمد الخلف؛ غائبة في تفكيره وتأملاته وذاكرته الاسترجاعية. السلطة السياسية في الرواية ليست خصما واقعيا وانما هي (خصم شبحي وهمي faux adversaire)، وحتى إذا وُجدت فهي هشة حد الانكسار، إذ استطاع الخلف ان يتحداها وينتصر عليها، منذ بداية الرواية.

فقد تحدى محمد الخلف بجرأة السلطتين القضائية والتنفيذية (رمز الظلم والقمع)، وصار في قاعة المحكمة هو (القاضي) الذي يّكَذب ويدحض ويفند أقوال القاضي الرسمي. وحتى بعد أن أوُدع السجن استطاع أن يفر منه. ثم، أن الخلف استطاع أن يعيش، متخفيا، بعيدا عن رقابة ونفوذ ووطأة السلطة السياسية القمعية، لكن (الجماعة) لم تغب أبدا وظلت حاضرة معه، وكانت (أفكار)ها ترافقه حتى الى سرير نومه، وتتسلل اليه مع ذرات الهواء.

ثالثا: (من الناحية التقنية) تكف السلطة السياسية، ك(شخصية) روائية معنوية في الرواية، عن ممارسة دورها المعرقل لمسيرة البطل، بصورة تكاد ان تكون نهائية، في منتصف الرواية، بل حتى قبل منتصفها. فبعد مرور عشرة أشهر على بداية الرواية (زمن الرواية خمس سنوات)، وبعد مائة صفحة (الرواية تتكون من 235 صفحة) فكر الأبن البكر خالد ''بشكل جاد في عودة والده'' من (مخبأه) في منطقة الغراف الى بغداد لأن ''إجراءات التفتيش على الطرق الخارجية ليست بالصرامة والتشدد التي كانت عليه سابقا ص102''. وفعلا عاد الخلف الى بيته في بغداد؛ عاد '' الى دفء البيت والتفكير بالعمل والمستقبل ص129''، والتأم شمل الأسرة من جديد ''هرع اليه أولاده، تلقوه بلهفة''، وبعد فترة قصيرة حصل الخلف على عمل مؤقت يعين به عائلته.

وجهة نظر المؤلف

هنا، في هذا الجزء من الرواية عادت الأمور الى طبيعتها قبل السجن؛ انتهت (رحلة) البطل وحُلتْ عقدة الرواية، ووصل السرد الى ذروته. وبالنتيجة، هذا يعني زوال التشوق والترقب والتوقع عند القارئ بعد أن وصل الأمر الى نهاية التوتر والإثارة والمخاطر وبدأ الانفراج، أي وصلنا لخاتمة الصراع.

ومادامت (رحلة) البطل وصلت خاتمتها، فماذا تبقى لبطل الرواية أن يفعله، وماذا تبقى للرواية أن تقوله في الصفحات القادمة؟

ما تبقى، في رأينا، هو (وجهة نظر المؤلف)؛ ما تبقى هو، الموضوع الذي تعتبره الرواية الأكثر أهمية؛ ما تبقى هو (الخطيئة الأصلية)، عندما أنتمى محمد الخلف الى (الجماعة) في شبابه، وما تبقى، أيضا، هو صراع محمد الخلف مع نفسه (ولحد كبير جدا مع أسرته وخصوصا ابنه البكر، خالد) في وجوب حسم موقفه النهائي والخروج نهائيا من (الجماعة) لأنه بسبب سياستها، يقول الخلف ''سلمنا أنفسنا للذبح''، وظل أعضائها يجنون ''هذا التوارث الأبدي للخسارات''، وهي ك(جماعة) سياسية لم تنتج في ''كتبها سوى اللغو.''

ذكرنا في البداية أن (الجماعة) هي الحزب الشيوعي العراقي. ومن حق مؤلف (منازل) أن يقول ما يريد بحق الحزب الشيوعي، وأي موضوع آخر يناقشه، مثلما يحق لأي مؤلف آخر أن يدافع أو ينتقد أو يناقش في أي موضوع يختاره. هذا حق لا جدال فيه. وكل ما يراد من المؤلف، في هذه الحال، أن يكون طرحه متماسكا ومقنعا، من الناحية التقنية. فيما يخص مؤلف الرواية التي نناقشها، فأنه أراد الدفاع عن وجهة نظره، كما قلنا، منذ السطور الأولى، أي الاستهلال.

الاستهلال

الواقع، أن موضوع علاقة الخلف ب(الجماعة) (وهو زبدة الزبدة) طرحته الرواية منذ سطورها الأولى، أي منذ الاستهلال (أنسبت incipit).

وببراعة تحسب له اختار مؤلف (منازل) ما يسميه النقد الفرنسي (الاستهلال الساكن l’incipit Statique) الذي بموجبه يلجأ المؤلف، منذ البداية، الى تزويد القارئ بمعلومات وافية فيما يخص معظم العناصر التكوينية لروايته.

يبدأ الاستهلال في (المنازل) هكذا:

'' أين المسار؟ بعد أن بت ليلتك في بيت أحد أصحابك المعلمين في الكوت، أصبحت طليقا الآن، قالها محمد الخلف بحيرة وذهول، ما زلت في ملابس السجن!! المصادفة وحدها أنقذتك من العودة الى الزنزانة مرة ثانية، وجدت نفسك من جديد وسط المتظاهرين (يسقط ... يعيش)، يلمحك (صالح كيطان) أحد أصدقائك القدامى فيسرع في مناشدتك للانسحاب من التظاهرة بسرعة، التوجه نحو منزله في وسط المدينة، أدرك (صالح) عدم جدوى الاحتجاج مع صراخ البيانات المتصاعدة من الأذاعة، وتسارع الأحداث التي تنبئ بسيطرة الانقلابيين على السلطة، امتثلت لمناشدته أخيرا، بينما تعلو وجهه دهشة السؤال: ما الذي جاء بك الى السجن يا محمد؟ لست مستعدا الآن أن أذكر الأسباب يا صديقي وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر، دعنا نصل الى البيت بأمان'' ص5.''

وبفضل هذه الأسطر القليلة نجح المؤلف أن يزودنا بمعلومات وافية وجوهرية: اسم الشخصية المركزية، محمد الخلف، ووضعه الاجتماعي السياسي، اسم المكان (الكوت)، الزمن (8 شباط 1963)، الأجواء القائمة، وهي اضطراب سياسي نتيجة انقلاب عسكري وحدوث ردود أفعال جماهيرية ضده (تظاهرات وسط الكوت). وبفضل هذا الاستهلال استطاع المؤلف أن يخلق أفق من التوقع عند القارئ، وسَّهلَ له أن يستنتج نوع القصة التي سيقرأها، فهي رواية سياسية وليست من الخيال العلمي، مثلا، ولا قصة تاريخية، ولا فلسفية ولا رواية رعب ولا رواية مغامرات ولا خيال علمي، بل هي ستدور حول تخفي سجين سياسي هارب.

هذه كلها، كما قلنا، معلومات مهمة، لكن الأكثر أهمية (عندي على الأقل) هو شخصية (صالح كيطان) التي خلقها المؤلف، لتخدم غرضا في غاية الأهمية (هكذا نفترض.)

صالح لا يستمر دوره في الرواية كلها أكثر من 24 ساعة، ولا يقوم ألا بفعل واحد (استضاف الخلف في بيته ليلة واحدة) ولا يتفوه الا بعدة جمل، ثم يختفي نهائيا من الرواية ولم نعد نلتقيه أبدا، وكأن الروائي لم يخلقه، لكن بعد أن أنجز دوره الاستراتيجي الذي أعده له المؤلف، والمتمثل في (إحباط) محمد الخلف. إن صالح كيطان هو أخطر شخصية (أحباطية) في الرواية، ودوره، رغم قصره، محوري. ونذهب أبعد فنقول إن صالح هو بطل الرواية الفعلي وهو عمودها الفقري، وهو الغائب الحاضر، وسنرى أن (فلسفته) أو أفكاره هي التي تنتصر في نهاية الرواية. والغريب، أننا لا نعثر على معلومات عنه في الرواية، لا على لسانه هو ولا على لسان الراوي المحايد (العليم بكل شيء)، ولا على لسان محمد خلف ولا الشخصيات الثانوية.

كل ما نعرفه هو أن صالح ‘'صديق قديم'' للخلف. وما خلا هذه المعلومة فما من معلومات آخري عنه. ولهذا سنضطر نحن القراء للاستعانة بالتخمين والافتراض، واعتمادا على النزر القليل جدا من أقواله، للتعرف عليه.

يبدو أن صالح كان (ونشدد على مفردة كان) ناشطا سياسيا ومنتميا لذات (الجماعة) الحزبية لكنه، كما يبدو أيضا، غادر صفوفها (مكرها) لسبب أو آخر، والأرجح بسبب (فعل) يتعارض ويتناقض مع تفكير (الجماعة) وقيمها، كأن يكون قد (أُجبر) على إعلانه البراءة من (الجماعة)، أو تقديمه اعترافات على الجماعة، كما كان شائعا تلك الأيام. هذا مجرد تخمين منا تشجعنا على تبنيه (المحاضرة حول فلسفة البراءة) التي القاها صالح على الخلف. فعندما قال الأخير أنه دخل السجن مخلفا ورائه عائلة كبيرة العدد بدون معيل، لأنه رفض أن يشتم ''رموز انتمائه السياسي والفكري'‘، رد عليه صالح بنبرة (أستاذية)، فيها لوم وتقريع، وبلغة أنيقة وفارهة، ومنتقاة بعناية خصوصا سطرها الأخير:

'' هل هذا صحيح في اعتقادك؟ أن تترك عائلة بهذا العدد، ماذا يحصل لو شتمت الرموز يا أخي؟ هل سيزعلون عليك؟ أم تنقلب الدنيا؟ الإنسان يؤكد وجوده بفاعلية وحضور وازدهار عبر ممارسة الفكر بصورة حية خلاقة متجددة بناءة مثمرة، هنا البطولة الحقيقية لا في السجون ص 7''

لكن هذه (الفلسفة) التي يبشر بها صالح والتي ترفضها (الجماعة)، وكان محمد الخلف نفسه قد رفضها وظل يرفضها قبل لقائه بصالح ويعتبرها (خيانة) و(انهيار) و(سقوط أخلاقي)، تخفي مشاعر إحباط وخيبة ويأس (يبدو) أن صالح يعاني منها. يقول صالح، وهو يسمع اخبار نجاح انقلاب 8 شباط: ''أصبحت الأماني هباء يا محمد! كل شيء صار واضحا ص9''

ويضع صالح مسؤولية نجاح انقلاب 8 شباط على عاتق (الجماعة) بسبب تعاليها وابتعادها عن مطالب عامة الناس واحتكارها للحقيقة ورفضها للديمقراطية والليبرالية والتعددية الحزبية: ''منطق التعصب الذي يفتك بالإنسان، الزعيم الأوحد والحزب الأوحد، كلاهما متأله يظن أنه يقبض على المعنى، أو يمتلك مفاتيح الحقيقة وحده لا شريك له، يملك الحلول للإصلاح ص7''

الآن صار واضحا أن ''الأماني'' التي يتحدث عنها صالح ليست شخصية، تخصه وحده، أنما هي أماني سياسية عامة (كان) يأمل من الحزب أن يحققها (هذه المرة الأولى في الرواية كلها ترد مفردة ''الحزب''، وصالح يعني الحزب الشيوعي العراقي، كما هو واضح في السياقات.)

وبما أن (الأماني أصبحت هباء) كما يستنتج صالح، والحزب أو (الجماعة) سائرة في طريق الانتحار الجماعي، فأنه من العبث واللاجدوى، وفقا لآرائه، أن يدافع المرء عن قضية عامة، ناهيك عن البقاء في صفوف (الجماعة) التي ينتمي اليها الخلف، والدفاع عنها. وهذه القناعة عند صالح ليست بنت يومها، أي لم تتولد عنده صباح 8 شباط بعد نجاح الانقلاب، وإنما هي سابقة للانقلاب. والدليل هو، أن أول فعل قام به صالح هو ''مناشدة محمد الخلف، عندما التقاه بعد غياب، للانسحاب بسرعة من التظاهرة'' التي كان المشاركون فيها يهتفون ضد انقلاب 8 شباط 1963، فوافق الخلف (فورا).

هنا، إذا تحدثنا من الناحية التقنية، صارت الرواية وهي ما تزال في بدايتها،، أمام مفترق طريقين: أما أن يظل محمد الخلف كما كان في السجن قبل لقاءه بصالح كيطان: الخلف الديناميكي، المتفاؤل والمفعم بالأمل، الذي يتحدى السجانين مرددا مع زملائه في السجن ''وكأنهم في عرس'' ''السجن ليس لنا ...''، الجريء المغامر، الفار من سجنه طوعا لمواصلة نشاطه السياسي الحزبي، المضحي بسعادة أسرته لقاء دفاعه عن مبادئ يؤمن بها، الرافض للبراغماتية كفلسفة عملية في الحياة.

أما الطريق الآخر هو، أن ينتصر صالح كيطان (أي أفكاره وآرائه ونصائحه، لأنه شخصيا لن يظهر ثانية في الرواية، كما قلنا)، ذو العقلية البراغماتية، الواقعي، والمحبط، اليائس، الذي لا يجد جدوى من التظاهر ضد انقلاب شباط، والذي يفضل أن يتبرأ الناشط الحزبي من جماعته ولا يظل قابعا داخل سجن، والذي يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة.

إذا انتصر محمد الخلف، أي اذا استمر محمد الخلف كما هو، محمد الخلف الديناميكي، فستنعكس ديناميكيته على الدينامية الداخلية للرواية، لأنه سيظل، لأنه بطل الرواية أو الشخصية المركزية فيها، يبحث عن أفكار وحلول، ويظل القارئ يبحث معه أيضا؛ وإذا حدث العكس وانتصرت أفكار صالح (الذي يملك حلا جاهزا معاكسا أو مضادا) فستنطفئ الديناميكية الداخلية للرواية وتصاب بفقر الدم. ما قلناه توا ليس موقفا منا، ولا هو رفض أو تعاطف مع أي شخصية في الرواية.

نقوله لأن المؤلف لم يمهد الطريق أمامنا نحن القراء ولم يهيأنا لهذا التحول الراديكالي عند محمد الخلف بعد لقائه بصديقه صالح، حتى نقتنع. فلكي يحدث تغير أو تحول عميق (عاطفي، نفسي، فكري، سياسي، جسدي) عند شخصية روائية ما فأنه يجب أن يكون نتيجة لمرور الشخصية بتجارب أو مواقف أو ممارسة أفعال، أو نقد ذاتي تدريجي ومتواصل، أو نتيجة تشخيص الشخصية لعيوبها، أو تعلمها من دروس حياتية مهمة. وهذا كله لم يحدث لمحمد الخلف (حتى ولو على شكل تململ) قبل لقائه بصديقه صالح كيطان.

فالمؤلف قدم لنا محمد الخلف، في أول ظهور له، ك(ضد) و(نقيض) لصالح كيطان: الخلف شخص راديكالي، أو مبدأي بلغته وبلغة الجماعة التي ينتمي اليها، مؤمن بقضية فكرية ومنتمي ل(جماعة) سياسية يضحي بأسرته وبراحته وبوظيفته حتى لا يشتم قادتها أو رموزها، وقبل ذلك كان قد تشرد من مدينة لأخرى، قوي وبمواصفات قائد. وعندما فر من السجن فإنه فعل ذلك، وفقا للمنطق، لا ليظل متخفيا وإنما ليواصل نشاطه السياسي الحزبي مثلما يفعل، عادة، كل السجناء الفارين. ومثلما فعل هو عندما غامر واشترك، وهو بملابس السجن، في التظاهرة المناوئة للانقلاب، قبل أن يخرجه منها صالح كيطان.

بالإضافة لهذا كله، فأن محمد الخلف ليس ساذجا حتى يغير آرائه وقناعاته بمجرد أن يلتقي أحد أصدقائه القدامى، بل يتمتع بوعي سياسي وقدرة على فهم ما يدور في بلاده، وتحليل وربط الأحداث. والأهم من هذا، أنه لا يوجد ما يدل، لا تصريحا ولا تلميحا، على مواقف انتقادية كان الخلف يجاهر بها ضد (الجماعة) سابقا، أي قبل لقائه بصالح كيطان.

ولهذا فأنه لا يبدو أمرا مقنعا ومتماسكا ومنطقيا (من ناحية تقنية صرف) أن يكون صالح كيطان هو الشخصية (الساندة L’allié) للشخصية الرئيسية، أي أن يكون محمد الخلف في ''مأزق'' وأن ''يشفق'' عليه صالح كيطان، وليس العكس، ويقدم له صالح الأسناد العون والنصيحة: ''إهدأ قليلا يا محمد، أنا حاضر لمساعدتك ص6''.

أيضا ليس منطقيا أن يصبح الخلف، بمجرد لقائه بصديقة صالح، يائسا ومستسلما لقدره ''الفاس وقع بالراس ص6''، وكان هو نفسه قبل يوم ينشد ''السجن ليس لنا نحن الأباة'' ص14''، ويرى أمامه في الكوت كيف يتظاهر بسطاء الناس شجبا للانقلاب، ويسمع عن ''فقراء الشاكرية والصالحية وحي الأكراد والكاظمية يحملون السلاح ضد الانقلاب ص14'' !

كذلك ليس منطقيا أن يتفق الخلف مع أراء صالح، هكذا بسرعة وبدون نقاشات وطرح أسئلة. فبعد مقولة صالح التي ذكرناها توا: ‘‘أصبحت الأماني هباء يا محمد كل شيء صار واضحا!'' وافقه محمد الخلف الرأي فورا وبدون أي تفكير أو مراجعة أو استفسار، قائلا: '' نعم يا صالح لقد توارى زمن الآمال، استحالت الى ركام. ص9 ''. وعندما تمادى صالح في لوم وتقريع محمد الخلف فأن الأخير لم يرد ولم يحاول تفنيد أقوال صالح، إنما راح يتوسل به قائلا: ''ارحمني يا صالح استعين بك لا تجلدني أكثر أرجوك! ص7''

إن ما حدث لبطل (منازل)، محمد الخلف، هو كما لو أنه تعرض الى توسنامي فكري سياسي في ليلة واحدة، أو أُخضع لعملية غسيل دماغ سياسي فكري وتم حقنه بوعي سياسي مضاد لوعيه السابق، فصار الخلف نسخة (فوتو كوبي) من صالح.

والغريب حد الاندهاش هو، أن صالح حقق نجاحا باهرا يشبه السحر، فبعدما غادر الخلف منزل صديقه في الصباح التالي واستقل سيارة متجها نحو الجنوب، صار يرى فقراء الفلاحين المتعبين وقد تراصفوا ''كالخراف''، وأحاديثهم ''ثرثرة'' !!

وظل محمد الخلف، منذ لحظة خروجه من دار صالح كيطان، يزداد تغيرا، وابتعادا عن ما كانه داخل السجن، كلما كانت الأيام تتقدم. فقد بدأ بمرور الأيام ''يجد نفسه في متاهة... لا يعلم وجهته أين؟ '' ويرى '' أن ما يجري أشبه بالعبث واللاجدوى (و) شعوره بالمأزق الذي فيه يتعمق ''. وظل الخلف يسأل نفسه ''من أدخلك في هذه الورطة؟ ويردد مع نفسه' ‘كنت غارقا بوهم'' '' ويعلن بتشاؤم شديد '' ستغدو الأيام المقبلة مرعبة ''، وشرع ''يقاضي نفسه في عزلة تامة (وبدت) تضيع كل تلك الرؤى، الأحلام، الأصدقاء، تتعذر الرؤية، تغيم الدنيا كأن لا تاريخ، لا موقف، لا محبة ... ''. وبعد أن كان الخلف يردد مع زملاءه داخل السجن ببسالة وتحد وبفرح غامر وتحد (السجن ليس لنا نحن الأباة) صار الآن، وهو حر طليق، مذعورا خائفا مثل طفل يحتمي بأمه: '' بي شوق لأمي تحضر معي هذه العزلة'' (الصفحات،60،83، 61، 20، 29، 33).

والغريب، أو المفارقة هي، أن محمد الخلف (الثاني) ظل يبتعد عن محمد الخلف (الأول) كلما كانت الأوضاع الأمنية العامة في البلاد تتحسن، ويزول الخطر عنه ويشعر هو باستقرار وبأمان أكثر مع أسرته. فبعد أن عاد لأسرته والتأم الشمل وشعر بالأمان، بتنا نسمعه يوبخ نفسه والذين كانوا ينشطون معه في صفوف الجماعة: '' اشد ما أخشى ان نكون مصابين بعمى الألوان، فنفقد القدرة على التمييز. ص208''، وعن (الجماعة) يقول: ''لم يدرك واحد منهم ان الزمن يتحرك ص172.. انه الوهم الذي قادنا الى هذا المصير ص173'')

و ظل يردد أمام أبنه البكر: ''تاهت السفن والأشرعة يا ولدي. ص223''، ويقول لسليم الذي اقترح عليه العودة الى صفوف (الجماعة): ''أنا يا صديقي حتى الجهات الأربع ضيعتها، أبدو كمن علق في فضاء فارغ في مهب رياح عاتية ... ذاكرتي لا تعمل كما ينبغي ... شيء ما يموت في مكان بعيد ص208''، ويتساءل بمرارة وبأسف وبندم: ‘'لماذا أسلمنا أنفسنا للذبح؟ لم نعد نقرأ في كتبنا سوى اللغو ص91''.

و (اللغو) الذي يعنيه الخلف هو ما كان يعتبرها سابقا (أسس) النظرية التي يؤمن بها، والتي بموجبها يوجد (أعداء) (طبقيين)، فها هو الآن يسائل نفسه في مونولوغ داخلي: ''لِمَ كان يكافح؟ ومن أجل من؟ من هم الأعداء؟ ص206''. وأخيرا يعلن ''إن شعلة الحنين الى عالمي الأول همدت ص''.

ثم الوصول الى الاستنتاج الأعظم والذي من أجله كُتبت الرواية: ''لم أعد أصلح للجماعة ص207''.

تقنية تخدم المؤلف

''لم أعد أصلح للجماعة.'' هل هذا استنتاج أو قرار محمد الخلف نفسه، يقوله بحرية كاملة، أو وضعه المؤلف على لسانه ؟

نفضل أن تمر الإجابة على السؤال أعلاه عبر معرفة تقنية السرد. فقد اختار مؤلف (منازل أن تكون روايته مشابهة للنوع الذي يطلق عليه النقد تسمية رواية بولوفونيك ( polyphonique)، أي تحتوي على عدة رواة يروون عدة أحداث، كل واحد يروي الحدث وفقا لوجهة نظره. وفي (منازل) يتعدد الرواة ويتبادلون السرد بالتناوب وتتداخل أصواتهم حتى في ذات الصفحة الواحدة، الى حد تختلط الأمور أحيانا فلا نعرف من يتحدث.

والأرجح أن المؤلف اعتمد هذه التقنية لأنها تخدم غرضه، وهو عدم اقتصار البطولة على الشخصية المركزية، محمد الخلف وحده، أو لنقل حتى لا يصبح صوت الخلف هو الصوت الوحيد السائد، ولهذا خلق شخصيات ثانوية لكنها تقترب من البطولة، بل أن صوتها يعلو، أحيانا، على صوت الخلف نفسه (الأبن البكر، مثلا).

شخصية روائية بعدة نسخ

لكن، عن أي محمد الخلف نتحدث؟ فنحن أمام أربع نسخ للخلف وليست واحدة: الخلف السياسي، والخلف رب الأسرة، والخلف السياسي منذ شبابه وانتمائه الى (الجماعة) وحتى هروبه من السجن ولقائه بصديقه صالح كيطان، وأخيرا الخلف السياسي ما بعد هذا اللقاء وحتى نهاية الرواية.

فرغم ان محمد الخلف هو الشخصية المركزية التي لولا وجودها ما وُجدت الرواية أصلا، الا أنه ليس (البطل) في الرواية. كل شخصيات الرواية، تقريبا، هم أبطال: الأبن خالد، الأم زهرة، الأقارب، الأصدقاء. ولهذا فأن محمد الخلف لا يمكن اعتباره الراوي البطل (narrateur héros)، إنما يشاركه كما قلنا، أبطال آخرون، تعمد المؤلف، وبإلحاح، أن يمنحهم، وعلى امتداد صفحات الرواية، فرصا ذهبية لكي يكونوا، هم أيضا، رواة لهم مواقفهم ولهم آرائهم المهمة. وهنا بالذات يواجهنا (أشكال)، تقني. فالغرض من استخدام تقنية تعددية الأصوات في (رواية البولوفينيك) هو، إيصال وجهات نظر مختلفة، وهذا لا نجده في (منازل). فنحن أمام وجهتي نظر؛ (البطل) محمد الخلف من جهة، ويقابله من جهة أخرى أبنه خالد وزوجته زهرة ومعهم الراوي. هولاء كلهم يجمعهم رأي (واحد) هو، نقد حتى لا نقول (تسفيه) (الجماعة) السياسية التي ينتمي لها وينشط فيها محمد الخلف، وصولا إلى ثنيه نهائيا عن العودة لها ثانية، وهذا ما حصل. ودائما ما يتبادل هولاء السرد، سواء قصر أو طال الوقت الذي ’يمنح لهم، وحتى السارد بصيغة المتكلم (أنا) فهو شبه غائب، وكذلك الراوي العليم بكل شيء ( omniscient third person) فهو غائب.

وكما ذكرنا فأن هذا التعدد في وجود الرواة لم يتم صدفة أو بدون هدف، بل هو يعكس، استراتيجيا، 'وجهة نظر' المؤلف، أي تصوره وفهمه وتقيميه للموضوع الجوهري، أو الثيمة الرئيسية، أو الموضوع، أو الأطروحة المركزية في الرواية: تمجيد يصل حد التقديس لمحمد الخلف (الإنسان) (رب الأسرة) (المبرأ من كل عيب) كما ذكرنا، وهجاء (الجماعة) السياسية التي ينشط فيها محمد الخلف، (جماعة سلاتين) كما تسميهم زهرة زوجة الخلف، أو 'جماعتك' كما يسميهم الأبن خالد مخاطبا أباه.

بالطبع، تعدد الأصوات في أي عمل روائي هو أمر ديمقراطي، لكن في (منازل) يؤدي دورا مغايرا، لأن تعدد الأصوات يتم على حساب تقليص مساحة حرية التعبير عند (بطل) الرواية، حتى لا نقول إسكاته. بطل (منازل)، محمد الخلف، ليس بمقدوره أن يعبر عن مكنوناته بوضوح وبحرية، بسبب (رقابة)، كي لا نقول (قمع) يُفرض عليه، بتواطئ بين المؤلف، والراوي المحايد، والشخصيات الرئيسية.

فالروائي منذ بداية الرواية يُخرج بطله محمد الخلف من السجن ثم يلقيه في (سجن) صديقه صالح كيطان ليغسل له (ذنوبه) السياسية الحزبية، ثم يخرجه المؤلف ويلقيه في غياهب (سجن) آخر، هو الحفرة، أو مكان اختبائه. بعد ذلك يعيده إلى بغداد لكن دون أي أتصال مع الناس: (لم أدخل مقهى أو متنزها، لا أزور أحدا ولا يزورني.ص136 )، وكأنه مصاب بمرض نقص المناعة، ثم يرسله الى (سجن) آخر في الرمادي: '' اخبرني سليم عليك الاستعداد بعد غد للالتحاق بعملك الجديد في الرمادي ص 163.'') (ص166، 167) ورغم أن سليم يخبر الخلف بأن ''المشروع يضم عددا من المغضوب عليهم من المفصولين والمعتقلين سابقا من جماعتك '' ألا أننا لم نر ولم نسمع نقاشات، مهما كانت، تدور بين الخلف و(رفاقه) السابقين، بل نجد الخلف ''في الليل يخلو الى نفسه في غرفة منزوية عن بقية الغرف الأخرى داخل موقع المشروع'' ص171).

وبالإضافة لهذه العزلة المفروضة على بطل الرواية من قبل المؤلف، فأن الأخير لم يفسح المجال أمام بطله ليتحدث عن نفسه. فمثلا، لم يتحدث محمد الخلف من بداية الرواية حتى نهايتها عن سنواته التي قضاها في صفوف (الجماعة)، ولم يتحدث الخلف عن معتقداته وآرائه ومواقف (جماعته)، أو ما يسميه هو ''انتمائي السياسي والفكري ص 7 '' لا أمام أفراد عائلته ولا أقاربه ولا أمام زملائه في العمل في الرمادي ولا أمام أي شخص التقاه ؛ لم يتحدث عنها لا اثناء وجوده في السجن ولا في الفترات التي سبقتها بدليل أننا لم نسمعه يتحدث، ولم يتحدث عنها خلال فترة التخفي ولا لاحقا ’ حتى بدا محمد الخلف انسانا لا علاقة له بالسياسة.

وحتى عندما يريد محمد الخلف أن يعبر بصراحة وبحرية عن ما يجول في خاطره خصوصا في القضايا السياسية، فأنه يجد أمامه قامعين يترصدونه، وأشرسهم نجله البكر، خالد، حتى أضطر الخلف في أحدى المرات أن يعلن عن غضبه فقال موبخا نجله: '' أود لفت انتباهك الى أنك غالبا ما تتحدث عن (جماعتي)، كأنك تحاسبني كمذنب أمام تاريخي وانتمائي ص 141''، ومثل الأب انتبهت الزوجة زهرة للقسوة السياسية التي كان خالد يتعامل بها مع أبيه فأرادت ''ثني خالد عن توجيه اللوم لوالده ص49''.

ثم يأتي دور أم الخلف التي تؤنبه محذرة '' خلي سلاتين يسلتكم ص 33 ''، ترددها كنوع من العتاب ... لأبنها الكبير وهو منصرف عنها للعمل السياسي، ثم تظهر ثانية، زوجة الخلف، زهرة وهي تخاطب ابنها: '' أنت وابوك وأمثالكم من البشر دفعتم الثمن غاليا ص 44 ''

وحتى عندما يغالي الأبن في (لوم) أبيه بحدة، او كما يقول الأب: ''بلهجة لم أسمعه يتحدث معي بها سابقا'' وويتهيأ الأب لتعنيف أبنه، فأن المؤلف يتدخل ويمنعه ثم يدفعه أن يقول: ''تهيأت لتعنيفه (الأبن خالد) لأني لم أسمعه يتحدث معي بهذه اللهجة، لكني سرعان ما ترددت بعد أن أظهر لي مودة وأسفا شديدا حينها ادركت أنه أهل للمسؤولية ص50''.

وكما نرى فأن محمد الخلف (ونحن نتحدث هنا عن محمد خلف السياسي، وليس رب العائلة) يبدو وكأنه (محاصر) من قبل الجميع، ومنطفئ: لا مغامرات، لا أفعال خلاقة، لا مشاريع ولا أهداف مستقبلية، ولا حتى حرية تعبير يتمتع بها.

وعلى امتداد زمن الرواية الذي يبدأ في 8 شباط 1963 (كي لا نذكر الزمن الاسترجاعي الاستذكاري) وتنتهي مطلع عام 2003 حيث''حشود العساكر (التي) تنتظر على الحدود لاحتلال البلاد وغزوها ص252 ''، لا نسمع محمد الخلف يعلق أو يدلي برأيه، رغم ان العراق شهد خلال هذه الفترة أحداث عاصفة: انقلاب 1963 وما تبعه من عمليات انتقامية عشوائية في غاية العنف، انقلاب 18 تشرين بقيادة عبد السلام عارف ؛ نكسة حزيران التي تركت أثارها في المجتمع العراقي خصوصا عند النخب ؛ عودة البعث ثانية للسلطة، الحرب العراقية الإيرانية، حرب الكويت، انتفاضة آذار الشعبية، الحصار الاقتصادي، ''حشود العساكر التي تنتظر احتلال البلاد''.

الخلف يبدو وكأن مهمته التي خلق من أجلها في الرواية، هي توبيخ ولوم نفسه بسبب انتمائه السابق الى (الجماعة)، و(تجريح) (الجماعة) سواء بأسلوب الجلد الذاتي، أو عن طريق جلد الآخرين له، خصوصا أبنه البكر، وصولا الى القرار الاستراتيجي ''أنا لا أصلح للجماعة''

***

د. حسين كركوش

في المثقف اليوم