قراءات نقدية

ابراهيم بادي: مقاربة نقدية لديوان "سفرعلى نار باردة" للأديبة كوثر بلعابي

الاستهلال: لم يكن اختياري للأديبة التونسية كوثر بلعابي صدفة، ولا هو يدخل في -باب بنات الخاطر-، بل جاء هذا الاهتمام للقاءات جمعتنا في بوفيشة سوسة وكنت مدعوا في إطار عمل ثنائي بين صالونين -جرائري - تونسي، لتقديم مداخلة حول أدب الثورة، وكنت بصحبة صديقين عزيزين الاستاذ: كمال بونعاس والدكتورة عواطف سليماني، وكان المنبر جزائريا بامتياز، وشكل الحضور النوعي للأخوة التونسيين كوكتالا رائعا، وكانت كوثر بلعابي واحدة من الشعراء الذين أثثوا المشهد بقراءة مميزة بصحبة الشاعر الأنيق معمر الماجري

وشاءت الصدفة أن أكون مدعوا إلى ملتقى خيمة علي بن غداهم - باي الشعب، بجدليان، وتعرفت على شعراء تونسيين آخرين، شاعر تونس بامتياز الصديق عبد الكريم الخالقي والشاعر المميز عزيز الوسلاتي وصونيا مادوري، وجميلة الماجري، والدكتور الشاعر وليد السبيعي، وقد عبرت مرارا إلى الإخوة الأقربين بأني بصدد جمع الأعمال الجزائرية /التونسية المميزة، لتكون عربون صداقة بيننا، وأصدقكم القول بأنني منشغل على قصيدة مشتركة بين عزيز الوسلاتي ومحمود درويش منذ ستة أشهر،

تواصلت اللقاءات بيننا على وسائل التواصل الاجتماعي، وكنت أتتبع نشاطها المكثف، سواء في ناديها فصول أدبية بدار الثقافة، ابن خلدون المغاربية، أو في جمعية ابن عرفة الثقافية، وفي سائر الدور التي تنشط فيها، كان آخرها في هذا الشهر مداخلتها في مدينة الثقافة بتونس في ندوة ببيت الرّواية كما أن لها منشورات في منتدى الفكر التربوي، وفي مجلة الحياة الثقافية التي ترأسها في فترة من الفترات المفكر اللساني عبد السلام لمسدي، وزير الثقافة في مرحلة من مراحل تونس العظيمة،

خارج النص

رأيت في الأديبة المبدعة كوثر بلعابي المرأة التونسية الملتزمة والأستاذة الخلوقة والأديبة التي تجمع بين الدّرس والنقد والكتابة، في شيء من اليسر، ورأيت لها إجماعا في الوسط الأدبي، وحضورا بهيّا في الأنشطة المختلفة في تونس، وسجّلت لها مقدرة على تعاطي الشعر في مناسبتين، وقدمت لي ديوان من جرحها تزهر

احتفيت، بهذا الديوان خصيصا، لأنه تجربة ثالثة سبقتها تجربتان اثنتان: من جرحها تزهر و كوثر الصباح، كي ألتمس الخطوات التي كانت حاضرة، والتي حاولت أن تصنع التّجاوز في عرف الكتابة الإبداعية، ولاحظت بأن الديوان يحتوي على خمس واربعين قصيدة استهلتها بدمعة باسمة و ختمتها بحد القلم، وجرى ما بينهما حوار يطول بلغة الشعر وبلاغة الكلمة، حتى أضحى ما في القصيدة نشيدا يراود بحره،

اختارت الأديبة المبدعة كوثر بلعابي القصيدة السابع عشرة 17 لتكون عنوانا للديوان، وهو الأمر الذي تمنعه التعليات النصية أبدا، على اعتبار أن عناوين القصائد الموجودة داخل الديوان، تعد منصات داخلية مستقلة، وترفض بصوت عال أن يلغيها الأديب بالتحلية المنتسبة وترفض المحو المنظم. صحيح أن هذا الموضوع كان رائجا إلى وقت قريب حتى عند أكبر الكتاب، غير أن الدرس الحديث، حدد خطوطا حمراء للتحرر والاستقلال ومنح النصوص مسافة أمان ثابتة، وكان بوسع الأديبة أن تختار عنوانا جامعا مانعا للنصوص كي تظل النصوص الداخلية حية، يجمعها التنافس، بعيدا عن نظرية الالغاء، لأن النصوص كالأرواح تحدها الضوابط والموانع، وترفض أن يطالها الحذف والنقض والمس والتهميش،

والحقيقة الثانية أن العنوان سفر، على نار باردة شكل في عالم التترولوجيا عتبة مفصلية، بوسعها أن تكون سفيرة مفوّضة فوق العادة، وكثيرا ما تكون الدرس الأول للقرّاء في عالم اللسانيات والسيميائيات في عرف النقد، ورد العنوان على شكل جملة اسمية محذوفة المبتدأ والحذف مهارة يخفيها البيان، كي يكون الخبر عاليا في مقام التأثيث، ويشكل حضوره تيمة قوية تستند اليها الفضلة في النحو تارة وفي البلاغة طورا آخر، وقد تكون للترشيح أو الزينة، وتقود القاريء إلى الكهوف والمفاوز التي تخفيها الأديبة على شكل (الكنز والتأويل) على قول عبد الله الغذامي،

اختارت المبدعة كوثر بلعابي اللون الأصفر على صيغتين: الفاقع والثاني داكن، ومع أنهما ليسا أصليين، غير أن الفرع يكون أبلغ حين نعمده، وهو واحدة من وسائل التلميح للإفاضة الأدبية: إلى دواخل النص في تمفصلاته التي اختارت لها الأديبة عناوين فرعية على شكل منصات، (دمعة باسمة، عزف على أوتار الليل، استجواب، نشيج الفرح، العشق المشروع، نجوم ورصاص، الأرض النازفة، حد القلم).

اخترت هذه النماذج من العناوين للتدليل على القوة الصّاخبة لهذه العتبات التي عبّرت في مجملها على كون قد ينفجر في أية لحظة، ولجأت الأديبة إلى تسييج المناطق المتاخمة للقصائد بتواريخ لم تكن بريئة إطلاقا ووقعت بأسماء الأماكن على اختلافها: (جربة، تونس، شارع بورقيبة، أيام زلزال المغرب وفيضان ليبيا، يوم استشهاد الفدئي الفلسطيني رعد حازم، اندلاع الطوفان المقدس، بين الزّارات وتونس، القصرين)،

هل يا كوثر الصباح،

قدر القتيل أن يدفن في النص كي لا يكون مملوكا، ولا مولى، ويكتري مجازا للدفن والجنازة؟ وهل قدر البلاد أن تستغيث خوفا على يوليسيزا كي لا يدوسه المبصرون، وحتى يصبح التلوين في فرسخ القصيدة واضحا. وهل قدر الأبيات في تونس أن تهرب مع بضاعة الأمير، وكوثر الصباح ترفض أن تغتال مفردة في قواميس العدالة،

آه أيها الزمن الملوث، دع الرّوي في البلاغة ترسمه الشّفاه، لا حاجة لنا في مدخل القصيدة كي نستعين بالمسدس والرصاص والاغتيال، قدر البنات في تونس - يا حادي الصمت -أن يكون للوطن القبلي صوت الرّشم، قدر الصمت أن يخبيء دموعه في سترة البيان، وقدر الإحاطة أن نسمي الأشياء بأسمائها والكتاب بالترتيب والبلاغة بأهلها، والأموال بأصحابها، والشعراء صفّا /صفّا، ويكون للمنبر حق الشفاعة بين اللغة والنحو والتاريخ ويكون للصّياغة سلطان الحكامة قبل التعمية،

يقول المفكر التونسي: عبد السلام المسدي: يكون التوليد المعنوي أو العدول مكان الانزياح (1) حتى نرتق ظل السطر وننفخ في رحم المفردة ما يدفعها للتوليد والتلقيح والإبانة، هي لحظة للتكوير والعلامة لا تستبيح معالم الدليل، كي لا يفتشها البوليس،

اهتزت الأصوات داخل الديوان وتمرد الأنا في السياق، لأن الشعر إذا خاصمه الرّوي رتل الأبيات خارج القصرين، لأنها مدينة الرّوح والحياة، مدينة مرّ عليها جرجير ولم يكن لسبيطلة وحيدرة ما يصنع الموازنةً بين الخطابة والرتابة والقسم،

يا كوثر الصباح،

قدر القصائد أن تتقن فنّ الامتلاك، وترافع كلما هبت الرياح في اتجاه الجنوب، أعذريني يا تونس إن قاضيت القصائد كي أفسر انتمائي، ثم أعذريني أيتها القصائد التي افتكت من فضول نازك وغضب أولاد احمد وبلاغة الشابي، وعناد مظفر، وسلطة المزغني وتمرد الخالقي وشعرية الماجري، واعلمي بأن القصائد التي وردت موسومة بسفر، على نار باردة، تحمل جواز سفر أبدي إلى عالم الحكمة،

في الأخير لم أجد ما أبرر به يتم الكتابة وحرقة التّجلي سوى أيقونة تولد في أدغال الموسم، وهناك فقط تقام مراسيم الوداع وتكون آخر النصوص شاهدة على المحو والتدوير لآخر الأسطر، لأن الفرق بين الشهادتين أن تمانع كلما كلت الرّوح واستوى ما في الحكاية على الماهية، ولا أحد بعد ذلك يحتاج لراهب يقرأ الكف،

الأديبة: كوثر بلعابي.

دار النشر: دار خريف للنشر.

تصميم الغلاف: فراس عباسي (نجل الأديبة)

الطبعة الأولى:2024.

 ***

بقلم: الاستاذ ابراهيم بادي (ابن الجزائر العربيّة)

انتهى بتاريخ 02 ديسمبر 2024

.....................

(1) البروفيسور: عبد السلام المسدي، الأسلوب والأسلوبية، الدار العربية للكتاب، ص:162.

 

في المثقف اليوم