قراءات نقدية
بهيج حسن مسعود: قراءة في ديوان "قبور صغيرة" لماهر شرف الدين
التوثيق والتأويل في قلب المأساة السورية
يمثل ديوان "قبور صغيرة" للشاعر السوري ماهر شرف الدين (2021) نموذجاً متميزاً للشهادة الأدبية التي ترفع الواقع المأساوي إلى مصاف الشعر، دون أن تفقد صلتها بالحدث اليومي. الديوان ليس مجرد مجموعة قصائد، بل هو "ذاكرة جماعية" شعرية، تقدم قراءة متعددة المستويات للألم السوري، تجمع بين التوثيق الواقعي والتأويل الوجودي.
أولاً: المأساة كموضوع وكمنطلق تأويلي
يدور الديوان حول المعاناة الإنسانية خلال الحرب في سوريا، ملامساً موضوعات مركزية كـ الموت والفقدان (المتجلي في العنوان الرمزي "قبور صغيرة" التي تدفن فيها الأحلام قبل الأجساد)، والمنفى والشتات، والجوع والحصار. إلا أن الشاعر لا يقف عند حدود التوثيق، بل يتجاوزه إلى تفكيك المفاهيم الكبرى، كما في تمييزه للثورة بأنها لم تكن "جداراً يستند إليه" ولا "مفتاحاً لقصر"، مما يحول الخيبة السياسية إلى سؤال وجودي عن معنى التمرد والأمل.
هنا يندمج المحتوى مع الرؤية التأويلية: فالمأساة ليست موضوعاً مباشراً فحسب، بل هي المساحة التي تتحرك فيها الذات الشاعرة لتطرح أسئلتها الوجودية. السياسة هي الإطار والوعاء، بينما المحتوى النهائي هو سبر أغوار الوجود الإنساني في مواجهة العنف والضياع.
ثانياً: الأسلوب واللغة: بين صدمة الواقع وغموض الشعر
1. اللغة الواقعية المشحونة شعرياً: يستخدم شرف الدين لغة يومية قريبة من لغة الإعلام في نقل الواقع، لكنه يحولها إلى استعارات متعددة الدلالات. "القبور الصغيرة" لم تعد مجرد مقابر، بل رمزاً لكل ما يُدفن حياً: الكرامة، الذاكرة، الطفولة. "الباص المحطم" يتحول من وسيلة نقل إلى جسد طافٍ لحكاية تشرد جماعي. هذا التحويل هو جوهر التأويل الشعري.
2. المباشرة كخيار جمالي: قد يبدو الأسلوب مباشراً وصادماً أحياناً، لأن طبيعة الصدمة تتطلب صراحة. لكن هذه المباشرة ليست سذاجة فنية، بل هي خيار مقصود يعكس فظاعة الواقع. ومع ذلك، فهي مباشرة مُؤَوَّلة، حيث يتم إفراغ المفاهيم المألوفة (كـ "لاجئ"، "ثورة") من معناها وإعادة ملئها بدلالات جديدة. فالعبارة: "افتحوا لنا الطريق لنعيش مع الوحوش" هي قلب للمفاهيم؛ فـ "الوحش" هنا يصبح ملاذاً من وحشية البشر أنفسهم.
ثالثاً: اللااكتمال السياسي كسمة جمالية
تمثل قصيدة النثر في الديوان انعكاساً لطبيعة الواقع السوري. فاللااكتمال الذي تمثله الثورة المنهارة والوطن المشظى يتحول إلى سمة جمالية في القصيدة. النصوص لا تقدم حلولاً أو خواتيم مغلقة، بل توقف اللحظة المفجعة في منتصف طريقها، محافظة على طاقة التأويل مفتوحة. القصيدة، كالوطن، لم تعد تحتمل الإجابات الجاهزة، وهذا ما يجعلها نابضة بالحياة وقابلة للقراءة من قبل أي قارئ، بغض النظر عن معرفته بتفاصيل المشهد السوري.
رابعاً: تقييم الديوان: بين قوة الصدق وعمق الرؤية
1- قوة الديوان: تكمن في صدقه الإنساني وقدرته الفائقة على تحويل الزمن الرديء إلى مادة شعرية خالصة. لقد نجح في:
أ- تجنب الخطابية: لم يتحول الديوان إلى منشور سياسي، فحتى في أكثر نصوصه واقعية، حافظت اللغة على غموضها الشعري وإيحاءاتها.
ب- تجنب الانفصام: لم ينفصل هم الذات عن هم الجماعة، بل تم تأويل معاناة الجماعة لتصير جزءاً من جرح الذات الشاعرة، مما يخلق تكاملاً عضوياً نادراً.
ج- إثراء التأويل: قدم نصوصاً لا تنغلق على معنى واحد، تبقى قابلة للقراءة من قبل من يعيش التفاصيل، ومن هو بعيد عنها لكنه قريب من ألمها الإنساني الكوني.
2- في مواجهة النقد: قد يرى بعض النقاد أن اعتماد الأسلوب الواقعي المباشر يجعل بعض القصائد أقرب إلى "الخبر الصحفي"، مطالبين بمزيد من الانزياحات اللغوية المعقدة. لكن الرد على هذا يتمثل في أن "المباشرة المؤولة" في هذا الديوان هي أسلوب مقصود وليست عجزاً تقنياً؛ فهي تستمد شرعيتها من فظاعة الواقع المراد توثيقه وتحويله إلى استعارة، مما يثري النص بدلاً من أن يفقره.
الخلاصة: وعاء للزمن الرديء
"قبور صغيرة" لماهر شرف الدين هو مشروع شعري متكامل، يثبت أن قصيدة النثر يمكنها أن تكون "وعاءً للزمن الرديء" دون أن تتنازل عن شرطها الجمالي. إنه يجمع بين قوة الوثيقة التي تحفظ الألم من النسيان، وعمق النص التأويلي الذي يستنطق المأساة ليكشف عن أسئلة الوجود الأكثر إيلاماً. قيمته لا تكمن فقط في جماليته الشعرية، بل في كونه صرخة إنسانية خالصة، وشهادة ستظل حية على مرحلة دموية من التاريخ.
***
بهيج حسن مسعود - سوريا







