قضايا

محمد سيف: الذكاء الاصطناعي.. لعنة الكاتب الحقيقي!

بادئ ذي بدء، وجَب أن أحدد نطاق النوع الكتابي محلّ الطرح في مقالي؛ تجنبا لأي تعسّف في التأويل، إذْ لست أتناول - على سبيل المثال - هنا نوعية الكتابات ذات الصلة ببيئة الأعمال من قبيل رسائل البريد الإلكتروني، والردود التلقائية، وغيرها الكثير، فتوظيف الذكاء الاصطناعي لتسهيل وإجادة الكتابة المهنية بات ركنا محوريا في بيئة العمل المعاصرة، وإنما أركز على الأعمال الكتابية التي يتم تصديرها بما هي كتابات إبداعية من حُرّ قلم صاحبها، وعلى رأسها المقالات والكتب.

لَـمِن نافلة القول توضيح كيف أنّ انبثاق عصر الذكاء الاصطناعي كان بمثابة طوقِ نجاة للكاتب المزيّف الذي تعوزُه مَلَكَة الكتابة، والفتحِ المبين لادّعاء امتلاك القلم لمن ليس من أهله لا من قبيل ولا من دبير، ومع الخيل يا شقراء! فالإنابة هي بمثابة العنوان العريض للعلاقة المشبوهة بين الكاتب المزيّف وبين تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فبمجرد إصدار أمر كتابي لكتابة مقال بعدد كلمات معينة في موضوع محدد وبتأطير معين، يحوزُ الكاتب المزيّف مقالا من سوق الذكاء الاصطناعي في غضون ثوانٍ، ثم كل ما عليه فعله هو أن يكلّف نفسه بتصدير مقاله المفترى باسمه لا غير! وبعد عدة مقالات وكتُب على هذه الشاكلة يكون مشمولا بضمير المخاطَب حين يشار للكتّاب، ولاحقا ينضمّ حتى لقافلة المثقفين والمفكرين!

ولكن إذا كان الأمر على هذا النحو، فالسؤال الذي يفرض نفسه في هذا الطرح هو: كيف يكون الذكاء الاصطناعي لعنة على الكاتب الحقيقي إذن؟ وهُنا أجدني مضطرا لأصدّر إجابتي بتمهيد قبل أن ألِجَ في صلب الموضوع، فإذا كانت الإنابة هي السمة الناضحة من علاقة الكاتب المزيّف بتطبيقات الذكاء الاصطناعي كما تم تبيانه آنفا، فإن الاستثمار المتّزن هو المحدد الدقيق لطريقة توظيف الذكاء الاصطناعي من قِبل الكاتب الحقيقي، فهو يتعاطى معه بما هو أداة مساعدة، لا تعدو حدودها نقد النص من حيث الصياغة والفحوى والتسلسل…إلخ، والعصف الذهني في توليد الأفكار المتفرّعة، واقتراح مرادفات ألصق بالسياق، ونحو ذلك من أوجه الاستثمار المعقول، الذي لا يعقبه انزياح دور الأداة إلى دور الفاعل بالكليّة كما هو الحال المقزّز لدى الكاتب المزيّف.

بعد هذا التمهيد الذي كان لا بد منه أجيب على السؤال المطروح السابق فأقول: في خضمّ اليُسر الذي مكّن شريحة واسعة من المدّعين من لَبوس الكتابة، فَقَدَ جمهور القراء ثقته - أو يكاد - في مصداقية عَزْو كثير من النصوص لأصحابها، وهذا له تداعياته الكارثية من حيث سلب السطوة التأثيرية للعمل الكتابي، وإن كان الكاتب الحقيقي ما قبل عصر الذكاء الاصطناعي له جمهوره الذين يعرفون أسلوبه الكتابي، وأقلّ - إلى حدٍ ما - تأثرا بنظرة الاتهام التي بدأت تسود وتلوكها الألسن هامسة، إلا أنّ هذا لا يشمل بالضرورة جمهوره المستقبلي المحتمَل طبعا! كما أنّ الكاتب الحقيقي الذي سيظهر في الفترة المقبلة أو ما زال برعما يحاول إيجاد موضع لنفسه، سيجد صعوبة بالغة في إثبات قلمه بسبب الاحتمالية المتزايدة لانتحال النصوص المولّدة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ومن الطبيعي ألا تعود نظرة المجتمع للإنتاج الأدبي للكاتب لسابق عهدها قبل عصر الذكاء الاصطناعي.

وللناظر المهتم بهذا القطاع يدرك - أيّما إدراك - البَون الشاسع بين إثبات الانتحال من كتابات الآخرين، وبين إثباته باعتبار العمل الكتابي منتَجا بالذكاء الاصطناعي، ففي الأول يكفي لإثبات الانتحالِ الإشارةُ لموضع النص الأصلي السابق زمنا على النص المنتحَل، بدرجة لا يتأتّى فيها قبول حجم التخاطر الصياغي بأي شكل من الأشكال، أما في الثاني فالأمر عسير جدا في الكتابات باللغة العربية، مالم يكن مكتوبا بشكل كلي أو شبه كلي بالذكاء الاصطناعي.

ومن الطبيعي - والحال كما بيّنت - أن تقوم المؤسسات الثقافية والإعلامية المعنية بنشر الكتب والمقالات بتصعيد وتيرة الفحص تجنّبا من تلطيخ سمعتها من نشر كتابات من إنتاج الذكاء الاصطناعي، ونتيجة لذلك ينكشف عُوار الكثير من الكتابات بما هي مُدّعاة ومختلَقة وليست نتاجا أصيلا، إلا أنه في عملية الغربلة هذه تُستبعد أيضا كتابات ذات أسلوب رصين عالٍ؛ لشبهة توليد الذكاء الاصطناعي، وهنا تكمن كُبرى لعنات الذكاء الاصطناعي المسلّطة على القلم الحقيقي إذْ يُجهِد ذهنَه لإبداع عمل كتابي فريد مُردِفا نهارَه بليله؛ بُغية أن يشارك العالَم ما يعِنّ في خاطره، ثم يعْلَق في غربلة مجحفة كرصاصة طائشة تصيب المتهم والبريء على حدٍ سواء.

وهذا الاستبعاد لبعض الأعمال الكتابية العميقة ناتج من قصور أدوات الاختبار وعدم دقتها، وارتفاع هامش الخطأ فيها فيما يتعلق بنصوص اللغة العربية، فتطبيقات الذكاء الاصطناعي ما هي إلا نماذج لغوية إلكترونية مبنية على البيانات المدخلة، والمتخصص يدرك حجم أخطاء هذه التطبيقات حين يتعلق الأمر على وجه التحديد باللغة العربية، وعموما فمجرّد سؤال هذه التطبيقات عما إذا كان نص عربي ما مولّدا بالذكاء الاصطناعي، لن يوصلنا إلى إجابة دقيقة أبدا، وثغرات الذكاء الاصطناعي جلية في إجاباته الخاطئة بشكل عام، وهذا أمر ليس بخافٍ بل مبرمجو هذه التطبيقات لا يجدون غضاضة في تأكيد ذلك، وعمل هذه النماذج اللغوية الذكية قائم على التعلّم الذاتي المستمرّ، فمثلا عند تصفّح (Gemini) برنامج الذكاء الاصطناعي المنبثق من شركة (Googl) تجد في أسفل الواجهة عبارة: (Gemini can mistakes, so double-check it) أي: انظر مليًا في الإجابات؛ فواردٌ جدا ارتكاب الأخطاء.

إنّ التهوّر في ردّ كتابات عميقة لشبهة توليد الذكاء الاصطناعي نذير شؤم حقيقي للكاتب الحقيقي وخصوصا الكتّاب قيد النشأة أو مَن يَقدُم منهم مستقبلا، ورعونة رفض كتاباتهم في ظل عدم وجود أدوات اختبارية تطمئن النفس إلى مستوى دقّتها ينتج عنه هجرة الأقلام إلى مؤسسات ثقافية وإعلامية أخرى، فتصدّق المثل العُماني القائل مُكرَهَةً لا طائعة: (نخلة المسفاة تْحِتّ بعيد) أي: رطب نخلة منطقة المسفاة تسقط بعيدا عنها، في إشارة إلى أن خيرها لغير منطقتها!، وقد تصل النتائج الوخيمة لإصابة الكتّاب الحقيقيين بإحباط شديد، فينكسر فيهم شيء لا يعود، فلا تقوم لإبداعهم قائمة، ناهيك عن احتمالية تفشّي ظاهرة الرداءة الكتابية؛ لسبب وجيه هو أنه لا يُشتبه في كتابات من هذا النوع بالشبهة المذكورة، فحين تصبح هذه الشبهة بلا أدلة دامغة هي المعيار فأبشر بكتابات هزيلة لا تساوي قيمة حبر كتابتها، وكأنّ جريرة الكتابة العميقة في ظل هذا الاتهام هو عمقها!

ولذا أدعو جادا المؤسسات الثقافية والإعلامية للإسراع في التعاون مع أهل الاختصاص بالذكاء الاصطناعي لوضع أدوات معيارية دقيقة إلى أقصى درجة ممكنة، بحيث يكون هامش الخطأ في أدنى مستوياته، وبهذا نضمن إلى حد كبير عدم ولوج كتابات منتحلة بالذكاء الاصطناعي، وكذلك في الوقت نفسه ردّ الاعتبار للكتابات الأصيلة ذات المستوى العالي من الرصانة اللغوية والسبك الصياغي والمحتوى الحقيقي.

مؤسفٌ ألّا تكفي الكاتب الحقيقي اللعنات التي تصليهم بها الحياة بين الفينة والأخرى - والكتّاب الحقيقيون على معرفة جيدة بلعناتهم - حتى تأتيهم لعنة بهذا الحجم، وكأنّ الكاتب الحقيقي تنقصه لعنة بما هي القشة التي تقصم ظهر البعير! ولكن كما هو الحال في نَفَس (الشيف) في الطبخ - على الأقل كما هو سائد في انطباعنا - فلكل (شيف) نفَسه الذي يُعرف به، هكذا الحال مع الكاتب الحقيقي، فرهانه على نَفَسه الأصيل في الكتابة، والكتابة الزائفة كزبد البحر يذهب جُفاء ولو بعد حين.

فطوبى للكتّاب المزيفين إنجازاتهم الكتابية المزيفة، فأقلامهم لا تبات ليلها فخورة، بل تصلى نار العار حين تخلو بنفسها بدون الأقنعة التي منحهم إياها الذكاء الاصطناعي، أما الكتاب الحقيقيون فليواصلوا التجديف بأقلامهم، فبحار الكتابة تَعرفهم بسيماهم!

***

محمـــد سيـــف

في المثقف اليوم