قضايا

حاتم حميد محسن: صعود وسقوط العولمة.. الصراع من أجل الهيمنة (1-2)

لقرابة أربعة قرون، كان الاقتصاد العالمي في مسار من التكامل المستمر لم تتمكن حربان عالميتان من إخراجه من مساره. هذه المسيرة الطويلة من العولمة غذّتها الزيادة السريعة في مستويات التجارة الدولية والاستثمار مقترنة بحركة الناس الواسعة عبر الحدود القومية والتغيرات الدراماتيكية في النقل وتكنلوجيا الاتصالات.

طبقا للمؤرخ الاقتصادي برادفورد ديلونج Bradford DeLong، ارتفعت قيمة الاقتصاد العالمي (مقاسة بالسعر الثابت لعام 1990) من 81.7 بليون دولار امريكي عام الى 1650الى 70.3 ترليون دولار امريكي عام 2020 بزيادة 860 ضعفا. الفترات الأكثر كثافة للنمو توافقت مع فترتين عندما كانت التجارة العالمية ترتفع بسرعة: الأولى اثناء "القرن التاسع عشر" بين نهاية الثورة الفرنسية وبداية الحرب العالمية الأولى، ومن ثم عندما اتسع تحرير التجارة بعد الحرب العالمية الثانية، من أعوام الخمسينات الى الازمة المالية العالمية عام 2008.

حاليا هذا المشروع الكبير هو في تراجع. العولمة ليست ميتة لكنها تموت. هل هذا سبب للاحتفال ام للقلق؟ وهل تتغير الصورة مرة أخرى عندما يغادر ترامب البيت الأبيض وتغادر معه تعريفاته الكمركية المقلقة؟ كمراسل اقتصادي للبي بي سي من واشنطن ولفترة طويلة يعتقد ستيف شيفير Steve Schifferes الباحث في مركز بحوث الاقتصاد السياسي في جامعة لندن ان هناك أسباب تاريخية حقيقية للقلق حول مستقبل خال من العولمة – حتى حالما يغادر ترامب منصبه.

التعريفات الكمركية لترامب فاقمت مشاكل العالم الاقتصادية لكنها ليس السبب الأصلي لها. في الحقيقة، اتجاهه يعكس حقيقة كانت تبرز لعدة عقود لكن الإدارات الامريكية السابقة وحكومات أخرى كانت تتحفظ في الإعتراف بها: وهي، انحدار الولايات المتحدة باعتبارها المحرك الاقتصادي الأول للنمو في العالم.

في كل عصر من عصور العولمة منذ أواسط القرن السابع عشر، سعت دولة واحدة لتكون القائد العالمي – تحدد قواعد الاقتصاد العالمي للجميع. في كل حالة، هذه القوة المهيمنة امتلكت القوة العسكرية والسياسية والمالية لفرض تلك القواعد – وأقنعت الدول الأخرى بعدم وجود مسار مفضل للثروة والقوة. لكن الان، وفي ظل انزلاق الولايات المتحدة في عهد ترامب الى الانعزالية، لا توجد قوة أخرى جاهزة لتأخذ مكانها وتحمل الشعلة في المستقبل المنظور. البعض يختار الصين التي تواجه العديد من التحديات الاقتصادية، بما فيها افتقارها لعملة دولية – وكدولة حزب واحد ولا تمتلك تفويضا ديمقراطيا للحصول على القبول كقوة جديدة مهيمنة في العالم.

وبينما أنتجت العولمة دائما العديد من الخاسرين بالإضافة للرابحين – من تجارة العبيد في القرن الثامن عشر الى إزاحة عامل المصنع في غرب وسط أمريكا في القرن العشرين يبيّن التاريخ ان عالما منزوع العولمة ربما اكثر خطورة وسيكون مكانا غير مستقر. المثال الأقرب جاء اثناء سنوات الحروب الداخلية، عندما رفضت الولايات المتحدة ارتداء عباءة العولمة التي تُركت بعد انحدار بريطانيا كقوة مهيمنة في القرن التاسع عشر. في عقدين بدءً من 1919 انحدر العالم الى فوضى اقتصادية وسياسية. انهيار سوق الأسهم وفشل النظام المصرفي العالمي قاد الى بطالة واسعة وزيادة في عدم الاستقرار السياسي، مما خلق ظروفا لصعود الفاشية. التجارة العالمية انكمشت بشدة عندما وضعت الدول حواجز تجارية وبدأت حروب عملة منهزمة ذاتيا في أمل عبثي لإعطاء دفعة لصادرات دولهم، لكن ما حصل هو على عكس ذلك حيث توقف النمو العالمي.

وبعد قرن، اصبح عالمنا المجرد من العولمة هشا مرة أخرى. ولكن لمعرفة ما اذا كان هذا يعني اننا محكوم علينا مستقبل فوضوي وغير مستقر، علينا أولا استكشاف ولادة ونمو والأسباب الكامنة وراء الزوال الوشيك لهذا المشروع العالمي الاستثنائي.

النموذج الفرنسي: المذهب التجاري، النقود والحرب

في أواسط القرن 1600 برزت فرنسا كأقوى قوة في اوربا، وكانت فرنسا هي اول منْ طوّر نظرية شاملة لكيفية عمل الاقتصاد العالمي لمصلحتها. وبعد أربعة قرون، انتعشت عدة مظاهر لـ "التجارية" mercantilism تحت إدارة ترامب، والتي يمكن تسميتها (كيف تسيطر على الاقتصاد العالمي عبر إضعاف منافسيك). نسخة فرنسا للتجارية كانت مرتكزة على فكرة ان الدولة يجب ان تضع عوائق تجارية لتقييد مقدار ما تبيعه الدول الأخرى لها، بينما تدفع بقوة صناعاتها الخاصة لتضمن انها تستلم نقودا (على شكل ذهب) اكثر مما تدفع.

إنجلترا وهولندا تبنّيتا سلفا بعض هذه السياسات التجارية، أسستا مستوطنات حول العالم تدار بواسطة شركات احتكارية قوية سعت الى تحدي واضعاف الإمبراطورية الاسبانية التي ازدهرت بعد الاستحواذ على الذهب والفضة في أمريكا. مقابل هذه الامبراطوريات البحرية، امتلكت الامبراطوريات الأكبر في الشرق مثل الصين والهند الموارد الداخلية لتوليد عوائدها الخاصة، بما يعني ان التجارة الدولية – رغم انتشارها الواسع – لم تكن حاسمة لازدهارها.

لكن فرنسا كانت اول من طبق التجارية منهجيا عبر مجمل سياسات الحكومة – بقيادة وزير المالية القوي جان بابتيست كولبيرت(1661-1683) الذي مُنح سلطات غير مسبوقة لتقوية مالية الدولة الفرنسية في ظل الملك لويس الرابع عشر. اعتقد كولبيرت ان التجارة ستطور خزائن الدولة وتقوي اقتصاد فرنسا بينما تُضعف الدول المنافسة لها:

انه ببساطة، غياب او وفرة النقود لدى الدولة هو الذي يصنع فرقا في قوتها وعظمتها.

وفق رؤية كولبيرت، التجارة لعبة صفرية. كلما زادت فرنسا من فائض التجارة مع الدول الأخرى، كلما زادت سبائك الذهب التي تحصل عليها ويصبح منافسوها أضعف لو حُرموا من الذهب. في ظل إدارة كولبيرت، ابتكرت فرنسا الحمائية وضاعفت الرسوم الكمركية على الواردات ثلاث مرات لكي تجعل السلع الأجنبية باهضة الثمن. وفي نفس الوقت، هو قوّى صناعات فرنسا المحلية عبر تقديم اعانات ومنحها احتكارات. المستعمرات والشركات التجارية للحكومة كانت تأسست لضمان استفادة فرنسا من التجارة المربحة للسلع مثل التوابل والسكر والعبيد.

أشرف كولبيرت على التوسع الفرنسي في الصناعات لتمتد الى مجالات مثل صناعة الأقمشة المطرزة والزجاج، واستيراد الحرفيين المهرة من إيطاليا ومنح هذه الشركات الجديدة احتكارات. هو استثمر كثيرا في البنية التحتية مثل قناة دو ميد وزاد من حجم الاسطول الفرنسي والبحرية التجارية ليتحدى منافسيه بريطانيا وهولندا.

كانت التجارة العالمية في هذا الوقت استغلالية للغاية، تستلزم الاستيلاء القسري على الذهب ومواد الخام الأخرى من أراضي مكتشفة حديثا مثلما كانت تفعل اسبانيا مع مستعمراتها الجديدة في العالم الجديد في أواخر القرن الخامس عشر. ذلك كان يعني أيضا الاستفادة من التجارة في البشر، مع مكاسب ضخمة جرى الاستيلاء عليها وارسالها الى الكاريبي والمستعمرات الأخرى لإنتاج السكر والغلات الأخرى. في هذا العصر من التجارية، قادت الحروب التجارية في الغالب الى حروب واقعية شُنت عبر العالم للسيطرة على طرق التجارة والاستيلاء على المستعمرات. بعد إصلاحات كولبيرت، بدأت فرنسا صراعا طويلا لتحدي الامبراطوريات البحرية المنافسة لها، بينما انخرطت أيضا في حروب الفتح في اوربا القارية. فرنسا في الأساس تمتعت بالنجاح في القرن السابع عشر في كل من الأرض والبحر ضد الهولنديين. لكن في النهاية، لم تكن شركتها المملوكة للدولة في جزر الهند الفرنسية منافسا قويا لمنافسيها الهولنديين والبريطانيين - شركات الهند الشرقية - التي حصدت أرباحا هائلة لمساهميها وحققت عوائد لحكوماتها.

في الحقيقة، ان الأرباح الهائلة التي حققها الهولنديون من تجارة التوابل في الشرق الأقصى يوضح لماذا لم يترددوا بتسليم مستعمرتهم الامريكية الصغيرة مقابل طرد البريطانيين من موقعهم الصغير في جزر التوابل الخاصة بهم والتي تسمى الان اندونيسيا. في عام 1664 اعيدت تسمية ذلك الموقع بـ نيويورك.

وبعد قرن من الصراع، نالت بريطانيا تدريجيا الهيمنة من فرنسا، في الاستيلاء على الهند واجبار منافسيها الكبار التنازل عن كندا عام 1763 بعد حرب السبع سنوات. فرنسا لم تنجح ابدا في مواجهة القوة البحرية البريطانية. الهزيمة المدوية للأساطيل بقيادة هوراشيو نيلسون في بداية القرن التاسع عشر، مترافقة مع هزيمة نابليون في واترلو من جانب تحالف القوى الاوربية رسمت نهاية زمن فرنسا كقوة اوربية مهيمنة.

لكن بينما فشل النموذج الفرنسي للعولمة في النهاية في محاولته السيطرة على الاقتصاد العالمي، ذلك لم يمنع الدول الأخرى – والان الرئيس ترامب – من اعتناق مبادئه.

فرنسا وجدت ان الرسوم الكمركية وحدها لا تكفي لتمويل حروبها ولا النهوض باقتصادها. نسختها الواسعة للتجارية قادت الى حروب لا متناهية انتشرت حول العالم، عندما انتقمت الدول اقتصاديا وعسكريا وحاولت السيطرة على الأقاليم.

لاحقا وبعد اكثر من قرنين، ظهرت نسخة موازية غير مريحة في عهد ترامب وما رافقها من حروب التعرفة الكمركية. انها أيضا تبيّن ان المزيد من الحماية كما اقترحها ترامب سوف لن تكون كافية لانعاش الصناعات الامريكية المحلية.

النموذج البريطاني: تجارة حرة وامبراطورية

ان أيديولوجية التجارة الحرة صيغت لأول مرة من جانب الاقتصادي البريطاني ادم سميث وديفيد ريكاردو مؤسسا الاقتصاد الكلاسيكي. هما جادلا بان التجارة ليست لعبة محصلتها صفر، كما اقترح كولبيرت، وانما كل الدول يمكنها الاستفادة المتبادلة منها. طبقا لكتاب سمث الكلاسيكي، ثروة الأمم 1776: "اذا استطاع البلد الأجنبي تجهيزنا بسلعة ارخص مما نستطيع صنعه بأنفسنا، فمن الأحسن شرائها منه بجزء من منتجاتنا المصنعة، والتي يتم استخدامها بطريقة تجعلنا نتمتع ببعض المزايا".

بريطانيا باعتبارها اول بلد صناعي خلقت في عام 1840 قوة اقتصادية مرتكزة على التكنلوجيا الجديدة لقوة البخار، نظام المصنع، وسكك الحديد. سمث وريكاردو جادلا ضد خلق احتكاريات الدولة للسيطرة على التجارة، واقترحا أقل مستوى من التدخل في الصناعة. منذ ذلك الوقت، أثبتت عقيدة بريطانيا في منافع التجارة الحرة قوتها وانها اكثر استدامة من أي قوة صناعية كبيرة حين تجسدت بعمق في كل من السياسة والخيال الشعبي.

هذا الالتزام الصارم وُلد من الصراع السياسي المرير في أعوام 1840 بين المصنّعين ومالكي الأرض حول قوانين الذرة الحمائية. مالكو الأراضي الذين سيطروا تقليديا على السياسة البريطانية دعموا الضرائب العالية التي حققت لهم المنافع لكن أدت الى أسعار عالية للسلع الرئيسية مثل الخبز. ان الغاء قانون الذرة عام 1846 غيّر راديكاليا السياسة البريطانية، بما يعني تحوّل السلطة الى الطبقات المصنعة – وفي النهاية الى اتحاد طبقتهم العاملة حالما حصلوا على حق التصويت.

في ذلك الوقت، دعوة بريطانيا لحرية التجارة اطلقت العنان لقوتها التصنيعية للسيطرة على السوق العالمي. التجارة الحرة تم تأطيرها كطريقة لرفع مستوى معيشة الفقراء (على النقيض تماما من ادّعاء ترامب انها تؤذي العمال) وامتلكت دعم الطبقة العاملة القوية. عندما طرح المحافظون فكرة التخلي عن التجارة الحرة في الانتخابات العامة عام 1906، عانوا من هزيمة مرة هي الأسوأ الى عام 2024.

بالإضافة الى التجارة، كان العنصر الأساسي في دور بريطانيا كقوة عالمية مهيمنة جديدة هو صعود مدينة لندن كمركز مالي عالمي. العنصر كان احتضان بريطانيا لنظام الذهب الذي وضع عملتها الباوند في قلب النظام الاقتصادي العالمي الجديد عبر ربط قيمته الى كمية ثابتة من الذهب، بما يضمن عدم تغيير قيمته . وهكذا، اصبح الباوند الوسيط العالمي للتبادل.

هذا شجع على تطوير قطاع مصرفي قوي مدعوم من بنك إنجلترا كمقرض ملاذ أخير جدير بالثقة في الازمات المالية. النتيجة كانت طفرة كبيرة في الاستثمار العالمي، فتح مدخلا الى الاسواق الأجنبية لمصلحة الشركات البريطانية والمستثمرين الافراد.

في أواخر القرن التاسع عشر، هيمنت مدينة لندن على الاستثمار المالي العالمي في كل شيء من خطوط السكك الأرجنتينية وصناعة المطاط الماليزية الى مناجم الذهب في جنوب افريقيا. مستوى الذهب اصبح رمزا لقوة بريطانيا في الهيمنة على الاقتصاد العالمي.

ان دعائم الهيمنة البريطانية على الاقتصاد العالمي كانت قطاع تصنيع عالي الفعالية، والالتزام بحرية التجارة لحماية صناعتها في الوصول الى الأسواق العالمية، وقطاع مالي متطور جدا استثمر رأس مال حول العالم وحصد فوائد تنمية اقتصادية عالمية. لكن بريطانيا أيضا لم تتردد باستعمال القوة لفتح الأسواق الأجنبية – مثلا، اثناء حرب الافيون عام 1840، كانت الصين مجبرة لفتح أسواقها للتجارة المرفهة للأفيون من الهند المملوكة لبريطانيا.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، دمجت الإمبراطورية البريطانية ربع سكان العالم، وبذلك وفرت مصدرا رخيصا للعمل وضمنت المواد الخام بالإضافة الى سوق كبير للسلع البريطانية المصنعة . لكن ذلك لم يكن كافيا لقادتها الجشعين: بريطانيا أيضا تأكدت ان الصناعات المحلية لم تهدد مصالحها – عبر اضعاف النسيج الهندي مثلا واستغلال العملة الهندية.

في الحقيقة، العولمة في هذا العصر كانت حول الهيمنة على الاقتصاد العالمي من جانب قلة من القوى الاوربية الثرية، بما يعني ان الكثير من التنمية الاقتصادية العالمية اختُزل لحماية مصالح تلك القوى. في ظل الحكم البريطاني بين 1750 و 1900، هبطت حصة الهند من مخرجات الصناعة العالمية من 25% الى 2%.

لكن بالنسبة لأولئك الذين هم في قلب الإمبراطورية البريطانية العالمية الرسمية، مثل مقيمي لندن من الطبقة الوسطى، كان هذا وقتا هادئا – كما أشار الى ذلك الاقتصادي البريطاني جون ما ينرد كنيز:

"بالنسبة للطبقة العليا والوسطى، الحياة مُنحت بأقل كلفة وبأقل ازعاج، راحة وهدوء، ووسائل مريحة تتجاوز نطاق الأثرياء . سكان لندن يمكنهم اجراء طلب عبر التلفون يرتشفون شاي الصباح وهم في السرير، مختلف المنتجات من كل الأرض، يتوقعون تسليمها مبكرا عند عتبة الباب."

نموذج الولايات المتحدة: من الحمائية الى الليبرالية الجديدة

بينما تمتعت بريطانيا بقرن من الهيمنة العالمية، اعتنقت الولايات المتحدة الحمائية لفترة طويلة بعد تأسيسها (عام 1776) اكثر من كل الاقتصادات الغربية الكبرى. ان ادخال التعرفة الكمركية لحماية ودعم الصناعات الامريكية الناشئة جرى تجسيده لأول مرة في عام 1791 من جانب اول وزير خزانة لأمة ناشئة وهو الاسكندر هاملتن – مهاجر كاريبي . حزب اليمين تحت حكم هنري كلاي وخليفته، والحزب الجمهوري، كانوا كلاهما داعمين لهذه السياسة في الشطر الأكبر من القرن التاسع عشر. وحتى عندما نمت الصناعة الامريكية لتطغي على كل الاخرين، احتفظت حكومتها بأعلى الحواجز الكمركية في العالم.

ارتفعت نسبة الكمارك الى 50% في أعوام 1890 بدعم الرئيس وليم ماكينلي، لمساعدة الصناعيين ودفع تقاعد سخي لـ 2 مليون من المحاربين القدماء وعوائلهم - جزء أساسي من ناخبي الجمهوريين. ليس صدفة ان الرئيس ترامب زيّن البيت الأبيض بصورة لهاملتون وكلاي وماكينلي – كلهم داعمون للحمائية والرسوم العالية.

جزئيا، كانت مقاومة أمريكا الطويلة لحرية التجارة لأنها لديها القدرة للحصول على التجهيز الداخلي للمواد الخام اللامحدودة، بينما نمو سكانها السريع المتحفز بالهجرة وفر اسواقا داخلية غذت نموها ولم تواجه منافسة اجنبية.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة اكبر منتج للستيل واكبر نظام سكك حديد في العالم وكانت تتحرك بسرعة لاستغلال التكنلوجيا الجديدة للثورة الصناعية الثانية – المرتكزة على الكهرباء ومحرك الوقود والكيمياويات. مع ذلك كان فقط بعد الحرب العالمية الثانية ان تولت الولايات المتحدة دور القوة العظمى العالمية – جزئيا بسبب انها كانت البلد الوحيد على جانبي الحرب التي لم تعان من ضرر كبير في اقتصادها وبنيتها التحتية.

وفي اعقاب التدمير العالمي في اوربا واسيا، كانت هيمنة الولايات المتحدة سياسية وعسكرية وثقافية بالإضافة الى مالية – لكن رؤية الولايات المتحدة لعالم معولم كان فيها اختلاف هام عن سابقتها بريطانيا.

الولايات المتحدة تبنّت اتجاها عالميا مرتكزا كثيرا على القواعد و على خلق منظمات عالمية تضع تعليمات ملزمة وتفتح الأسواق العالمية للتجارة الامريكية والاستثمارات الوليدة. انها أيضا سعت الى السيطرة على النظام الاقتصادي الدولي عبر استبدال الباوند الإسترليني بالدولار الأمريكي في التعاملات العالمية.

خلال أسبوع من دخولها في الحرب العالمية الثانية، وضعت الخطط لتأسيس هيمنة مالية عالمية أمريكية. بدأ وزير الخزانة الأمريكي هنري مورغنتان Henry Morgenthan العمل لتأسيس صندوق للاستقرار بين الحلفاء – قواعد للترتيبات المالية لمابعد الحرب التي تكرس الدولار الأمريكي. هذا قاد الى خلق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في مؤتمر برتن وودز عام 1944 في نيوهامشير – مؤسسات فرضت الهيمنة بواسطة الولايات المتحدة التي شجعت الدول الأخرى على تبنّي نفس النموذج الاقتصادي سواء في حرية التجارة او المشروع الحر. الدول الحليفة التي كانت في نفس الوقت تجتمع لتأسيس الأمم المتحدة لضمان السلام العالمي، كونها عانت من التأثيرات المدمرة للكساد الكبير والحرب، رحبت بالتزام الولايات المتحدة لصياغة نظام اقتصادي مستقر جديد.

وكاقتصاد هو الأكبر والاقوى، كانت هناك القليل من المقاومة لخطة أمريكا في نظام اقتصادي عالمي جديد وفق صورتها الخاصة. الدافع كان سياسيا بقدر ما هو اقتصادي: الولايات المتحدة ارادت اعطاء منافع اقتصادية لضمان الولاء لتحالفها الأساسي ومواجهة التهديد الشيوعي المتوقع – في تعارض تام مع رؤية ترامب التجارية الحالية بان جميع الدول "تخدع" الولايات المتحدة، وان قدرتها العسكرية تعني انها ليست بحاجة للتحالف.

وبعد ان انتهت الحرب، اصبح الدولار الأمريكي، مرتبطا بالذهب بسعر ثابت 35 دولار لكل اونسة لضمان استقراره، ليلعب دوره كعملة رئيسية للعالم الحر. استُخدم في تعاملات التجارة العالمية وأيضا احتُفظ به في البنوك المركزية كاحتياط عملة معطيا للاقتصاد الأمريكي امتيازا مفرطا. ان القيمة المستقرة للدولار أيضا جعلت من السهل للحكومة الامريكية بيع سندات الخزينة للمستثمرين الأجانب بحيث يمكنها بسهولة اكبر اقتراض النقود وإدارة العجز التجاري مع البلدان الأخرى.

الظروف تهيأت لعصر الهيمنة الامريكية السياسية والمالية والثقافية، حيث شهدت زيادة في المنتجات ذات الاعجاب العالمي مثل ماكدونالد وكوكا كولا بالإضافة الى طابع التسويق الأمريكي في شكل هوليود.

ان رؤية الولايات المتحدة للعولمة كانت أوسع واكثر تدخلا من النموذج البريطاني لحرية التجارة والامبراطورية. بدلا من امتلاك امبراطورية رسمية، ارادت فتح مدخلا لكل العالم الاقتصادي والذي سوف يزود الأسواق العالمية بالمنتجات الامريكية والخدمات.

ان الولايات المتحدة اعتقدت انها بحاجة لمؤسسات اقتصادية عالمية لحراسة هذه القواعد. لكن كما في الحالة البريطانية، منافع العولمة لاتزال غير متساوية. بينما ازدهرت دول اعتنقت النمو المنقاد بالتصدير مثل اليابان وكوريا وألمانيا، نرى دولا أخرى غنية بالموارد لكنها فقيرة برأس المال مثل نيجيريا التي بقيت في الخلف.

من الحلم الى اليأس

مع ان الأسطورة الامريكية نمت باستمرار، لكن في السبعينات اصبح الاقتصاد الأمريكي تحت ضغط متزايد وبالذات من المانيا واليابان الذين تجاوزتا اهوال الحرب وقامتا بتحديث صناعتهما.

الرئيس نيكسون وفي ظل هذه التهديدات والنمو في العجز التجاري، أعلن عام 1971 وبشكل مذهل عن خروج أمريكا من نظام الذهب مما اجبر الدول الأخرى على تحمّل كلفة التكيّف مع ازمة العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي عبر إعادة تقييم عملاتها. كان لهذا اثر عميق على النظام المالي العالمي: خلال عقد، معظم العملات الكبرى تخلّت عن سعر الصرف الثابت واستبدلته بنظام عائم، مما انهى اتفاقية برتن وودز لعام 1944.

ان انهاء سعر الصرف الثابت فتح الباب لهيمنة الأسواق المالية financialization على الاقتصاد العالمي، والتوسع الهائل للاستثمار العالمي والاقراض – معظمه بواسطة شركات مالية أمريكية. هذا اعطى دفعا لحركة الليبرالية الجديدة التي سعت لإعادة كتابة قواعد النظام المالي العالمي. في أعوام 1980 و 1990 أصبحت هذه السياسات تُعرف بإجماع واشنطن: وهي مجموعة من القواعد تتضمن فتح الأسواق للاستثمار الأجنبي وتحرير الاعمال والخصخصة التي فُرضت على الاقتصادات النامية في الازمات مقابل استلام مساعدات من منظمات الولايات المتحدة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

في تلك الاثناء، أدت زيادة الاعتماد على التمويل وقطاعات التكنلوجيا العالية في الولايات المتحدة الى زيادة مستويات اللامساواة وتعميق الاستياء في أجزاء كبيرة من المجتمع الأمريكي. كل من الجمهوريين والديمقراطيين احتضنوا النظام العالمي الجديد، محددين سياسة أمريكية لتفضيل تحالفها المالي العالي التكنلوجيا. في الحقيقة، الديمقراطيون كانوا هم اللاعب الأساسي في إعادة تنظيم القطاع المالي في التسعينات.

في تلك الاثناء، تسارع انحدار الصناعات الامريكية، كما تصاعدت الفجوة بين دخول أولئك في المناطق النائية التي يتركز فيها التصنيع، والمقيمين في المدن الكبرى.

وفي عام 2023، كان ادنى 50% من المواطنين الأمريكيين استلموا فقط 13% من اجمالي الدخل الشخصي، بينما 10%(القمة) استلموا حوالي نصف (47%). فجوة الثروة كانت اكبر، الـ 50% في الأسفل يستلمون فقط 6% من اجمالي الثروة، بينما ثلث (36%) من الثروة يستلمها فقط 1% في القمة. ومنذ عام 1980 الدخل الحقيقي لمن هم اسفل 50% لم ينمو بالكاد لمدة أربعة عقود. النصف السفلي من سكان أمريكا كان يعاني من تصاعد "الموت بسبب اليأس" وهي العبارة التي صاغها الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل انجوس ديتون Angus Deaton لوصف نسبة الوفيات العالية من تعاطي المخدرات والانتحار والجريمة بين الشباب من الطبقة العاملة الامريكية. ان ارتفاع تكاليف الإسكان والرعاية الصحية والتعليم الجامعي كله ساهم في المديونية العالية ونمو اللااستقرار المالي. وفي عام 2019، وجدت احدى الدراسات ان ثلثي السكان الذين قدموا طلبا على الإفلاس ذكروا قضايا طبية كسبب رئيسي.

ان انحدار التصنيع الأمريكي تفاقم بعد قبول الصين في منظمة التجارة العالمية، زيادة العجز التجاري الأمريكي وعجز الموازنة. النخب السياسية ورجال الاعمال كانوا يأملون من تلك الحركة ان تفتح أسواق الصين للبضائع الامريكية والاستثمارات، لكن التحديث السريع في الصين جعل صناعتها اكثر تنافسية من نظيرتها الامريكية في عدة حقول.

في النهاية، هذا العصر من التمويل الكثيف للاقتصاد العالمي خلق سلسلة من الازمات المالية المحلية والعالمية، مسببا الضرر لاقتصاديات العديد من دول أمريكا اللاتينية والاقتصادات الاسيوية. هذا بلغ ذروته في ازمة عام 2008 المالية، بفعل الإقراض المتهور من جانب المؤسسات المالية الامريكية. الاقتصاد العالمي اخذ اكثر من عقد للشفاء عندما صارعت دول مع النمو البطيء وانتاجية متدنية والقليل من التجارة قياسا بما قبل الازمة.

الانتقال من سيء الى أسوأ

ان ترامب اول رئيس امريكي حديث يفهم تماما العزلة المؤثرة التي شعر بها العديد من ناخبي الطبقة العاملة الامريكية الذين اعتقدوا انهم تُركوا خارج نمو الاقتصاد الأمريكي الهائل لما بعد الحرب والذي نفع كثيرا الطبقات الوسطى في المناطق الحضرية. اقوى المناصرين لترامب كانوا دائما ناخبين من الطبقة المتوسطة الدنيا من المناطق الحضرية الذين لم يحصلوا على تعليم جامعي. مع ذلك، سياسات ترامب الأساسية سوف لن تحقق لهم الكثير في النهاية. التعريفات الكمركية العالية لحماية الوظائف الامريكية وطرد ملايين المهاجرين غير الشرعيين وتفكيك الحمايات للأقليات عبر فرض برامج التنوع والمساواة والتضمين (DEI)، وخفض جذري لحجم الحكومة ستكون له نتائج اقتصادية سلبية في المستقبل، ومن غير المحتمل جدا إعادة الاقتصاد الأمريكي لموقعه المهيمن السابق.

وقبل وقت طويل من تقلده رئاسة الولايات المتحدة، كره ترامب العجز التجاري الأمريكي الكبير واعتقد ان التعريفات الكمركية ستكون سلاحا أساسيا لضمان استمرار الهيمنة الاقتصادية الامريكية.

الجزء الاخر الهام من ايديولوجيته في (أمريكا أولا) كان رفض الاتفاقات الدولية التي كانت جوهر سياسة أمريكا للعولمة بعد الحرب. في دورته الأولى للرئاسة (ترامب كونه لم يتوقع الفوز) كان غير مستعد للسلطة. لكن في الدورة الثانية أمضت مراكز أبحاث المحافظين سنوات تطرح سياسات مفصلة وحددت الموظفين الرئيسيين الذين يمكنهم تنفيذ تحولا راديكاليا في سياسة الاقتصاد الأمريكي.

وفي ظل حكم ترامب الثاني، رأينا عودة للرؤية التجارية التي تذكّرنا بفرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. إعلانه بان الدول التي حققت فائض تجاري مع الولايات المتحدة "كانت تخدع الولايات المتحدة" كان صدى للعقيدة التجارية بان التجارة لعبة صفرية (ما يكسبه طرف يخسره الاخر) بدلا من رؤية القرن العشرين التي صاغتها الولايات المتحدة في ان العولمة تفيد الجميع بصرف النظر عن التوازن الدقيق في التجارة.

ضرائب ترامب وخططه الكمركية التي امتدت لتمنح الاعفاء الضريبي للأغنياء جدا بينما تقلل المنافع للفقراء من خلال قطع المساعدات الاجتماعية والتضخم المندفع بالضرائب، سوف يزيد اللامساواة في الولايات المتحدة.

وفي نفس الوقت، كان تمرير قانون Big Beautiful Bill الذي شرعه الكونغرس يُتوقع ان يضيف 3.5 ترليون دولار لدين الحكومة الامريكية – حتى بعد الخفض في اقسام الحكومة التي ادارها ايلون ماسك والتي فُرضت على العديد من اقسام الإدارة، هذا يضيف ضغطا على سوق سندات الخزانة الامريكية في قلب النظام المالي العالمي، ويرفع تكاليف تمويل العجز الأمريكي الهائل بينما يُضعف تصنيفها الائتماني. ان استمرار هذه السياسات يهدد بإفلاس الولايات المتحدة والذي ستكون له نتائج مدمرة لكل النظام المالي العالمي. مع كل ما يشاع من تعظيم بطولي لترامب ومساعديه، فان سياسته الاقتصادية هي تجسيد للضعف الأمريكي وليس القوة. الرئيس يبدد بسرعة المصداقية الاقتصادية والقناعة التي بنتها الولايات المتحدة في سنوات ما بعد الحرب، بالإضافة الى هيمنتها الثقافية والسياسية. بالنسبة للناس الذين يعيشون في أمريكا وأماكن أخرى، هو يصنع موقفا سيئا واكثر خطورة – بما في ذلك للعديد من أنصاره المتحمسين.

قيل حتى بدون الاضطرابات المجتمعية والاقتصادية لترامب، فان نهاية عصر الهيمنة الامريكية سيحدث حتما. العولمة ليست ميتة لكنها تموت. السؤال المقلق الذي يواجهه الجميع الان، هو ماذا سيحدث بعد.

***

حاتم حميد محسن

........................

The conversation,28 oct 2025, The rise and fall of globalization: the battle to be top dog

* الجزء الثاني من المقال سيكون بعنوان: لماذا سيكون الانهيار المالي العالمي القادم أسوأ بكثير في ظل بقاء الولايات المتحدة على الهامش؟

 

في المثقف اليوم