قضايا
أياد الزهيري: من مشتتات القوة ومغيبات الوعي
في الآونة الأخيرة برزت علينا الكثير من مظاهر القبور والأضرحة لشخصيات حقيقية وغير حقيقية، يدعي مبدعيها إنها لشخصيات ذوي كرامات. السؤال أين كانت هذه القبور والأضرحة مغمورة؟، ولماذا خرجت الآن للظهور والعلن؟، وأين كان الناس عنها؟ أسئلة تنتظر أجوية علمية، ولكن كشخص تعنيني هذه المظاهر، وماتأؤل له، وماذا تعبر عنه كظاهرة أجتماعية، وماهو تأثيرها السلبي على عقيدتنا كمسلمين، أثارت أهتمامي، وفضولي معاً، لاشك إن بروز، وانتشار هكذا ظاهرة هو تعبير عن حالة نفسية وثقافية وأجتماعية وعقائدية لجماعة من الناس تتصف بالأعتلال المجتمعي، والسفه الثقافي، فهي تعبر عن حالة نفسية لأنها تكشف عن حالة من القلق واليأس من واقع يعتقدون بصعوبة معالجته، وقد أصابهم حالة من اليأس والأحباط الشديد من أصلاحه،كما أن هناك شعور من الخذلان وعدم الثقة من مجتمع لايبادر بجدية وأخلاص الى أصلاح ماينبغي أصلاحة على كل المستويات، سواء كان يتمثل بجانب صحي،أم جانب أقتصادي، أو عاطفي، أم سياسي. هذا الشعور المشبع بالأحباط، والمملوء بالعجز، قاد في اللجوء إلى منقذ، ولو كان ميتاً في قبره ينجده فيما هو يكابده من معاناة، ومشاكل عصيبة، يسبق هذا التوجه الذي تحرضه الحاجة الملحة هو الإشاعة المكثفة والقوية من قِبل أدعياء تكمن وراءهم طموحات مادية، ومساعدة جمهور جاهل، ويائس يشترك في البحث عن نجدة تنجده من مشاكل أستعصت عليه فَخُيل له، وبفرط زخم مايتملكه من أمل الظفر بالحل، أجمعوا هؤلاء الحائرين، بالإيمان بهذا صاحب القبر أو المقام، طبعاً من غير الأنبياء والأئمة الطاهرين، على إنهم من يحقق مبتغاهم، مع سرد سرديات عن حالات يُدعى إنها حصلت لأناس آخرين في زمن ما، حققت لهم هذه المزارات آمالهم. هذه المزارات المتناثرة على أرجاء وطننا لاشك إنها تحقق للبسطاء من الناس حالة من الاطمئنان النفسي، الذي هو بالحقيقة مقدمة ضرورية لأي حالة يقتضي علاجها سواء كانت نفسية أم عضوية، لكنها بنفس الوقت أصبحت مشروعاً أقتصادياً مدراً لكثير من الأموال لأصحاب وسدنة هذه القبور والمزارات، حتى باتوا من الذين يُشار لهم بالبنان في الغنى والثراء الفاحش، أضافة لما تجلبه من مقام ووجاهة أجتماعية، كما إن هذه الظاهرة لها دلالاتها الأجتماعية والتي تعبر عن بؤس ثقافي خطير، وأجتماعي أخطر،حيث هي كذلك نتاج مايمارسه أصحاب مهنة الطب من ممارسات تتسم بالجشع المادي، الذي وصل الى حد التوحش،وممارسة للدجل الطبي بأبشع صوره، ومن الضروري بمكان أن لا نقتصر بالأسباب على ما ذكرنا أعلاه، بل هناك مسألة في غاية الأهمية، وهو العامل السياسي، وما عكسه على الناس من مصائب وويلات خاصة في العهود الدكتاتورية، وما تعرض له الناس من ظروف صعبة وقاسيه على مستوى حالات الأضطهاد والمعاملات المجحفة والأليمة، وما زجووا به من حروب وويلات وما رافقه من الموت الزوؤام، وظروف أقتصادية قاسية وبائسة تمثلت بالقحط والجوع والحرمان، وبسبب القصور، وعدم القدرة على أزاحة كابوس الدكتاتوريات الجاثمة على صدور المضطهدين والفقراء والبائسين من الناس، وبفعل قسوة اجرام السلطة من قِبل السلطات الدكتاتورية عليهم، أختفي الأمل لديهم من حالة الخلاص التي تحررهم مما هم عليه، فيلتجأ الإنسان إلى ممارسات وتوجهات غير مثيرة لغضب السلطة، أو أثارة حفيظتها، وذلك باللجوء الى هذه المزارات، والتي تكون معظمها في مواقع نائية وبعيدة عن عيون رجال السلطة ورجالاتها، لكي يبثون عندها شكواهم،ومظالمهم من عبث وجبروت وظلم السلطان، ومن جور وعقوق الولد بالنسبة للأمهات،ومن أهمال وقسوة الزوج بالنسبة للزوجات، حتى أصبحت هذه المزارات ملاذ لكل من لا ملاذ له،وليس هناك من وسيلة تنجده فيما هو يعاني منه ويقاسي من مرارته، كما لا يمكنني أن أغفل عامل مهم، وهو البعد الأسطوري لبعض هذه الأضرحة والمقامات،وخاصة كمثل عليها بما يُسمى بمقام الخضر، والذي تهفو اليه النساء على ضفاف الأنهار لطلب الحاجة، وهذا النوع من الأعتقادات لها جذور تلمودية قديمة، تمتد الى العصور السومرية القديمة، ولكنها لبست مع الزمن لبوس مقدس، والتي لها قصة طويلة لا مجال لذكرها في هذا المقام، لحد هذه النقطة تعرفنا ولو بشكل أجمالي على جذور هذه الظهورات من المزارات الممتدة في معظم بلداننا العربية والإسلامية، وخاصة بالعراق، ولكن بنفس الوقت لا يمكنني أن أغادر الموضوع في تتبع أسبابه،من دون الأشارة الى حالة مستجدة ذات مغزى ودافع سياسي، حيث نتذكر في ثمانينات القرن الماضي برزت بعض الشخصيات فجأة على المستوى الشعبي كشخصيات ذات بُعد قدسي، وهي لم تكن كذلك من غير دفع وتوجه حكومي مدروس، لغرض حرف البوصلة عن توجهات تعتبره الحكومة خطرة عليها، فتعمد الحكومة الى ممارسة الأحلال والأبدال لرموز يمكن التحكم بها، والسيطرة عليها،بل وتوجيه الناس من خلالها لما تريده الحكومة، ويتفق مع توجهاتها، ويخدم أهدافها،أو على الأقل تخفيف من زخم التوجه نحو مزارات وشخصيات محترمة يشكل التوجه إليها حالة من الخطر على السلطة الحاكمة، وقد حصلت هكذا ظواهر كما في ظهور بعض الأسماء من السادة كظاهرة سيد مالك في جنوب العراق. لاشك هكذا نوع من الظواهر لم تكن بمنأى عن عيون ودراسات أجهزة المخابرات في العالم، وخاصة في دول هي محل أهتمام دول أخرى طامحة بثرواتها، أو في محاولة لتجنب صعودها،بما تظن إن تقدمها يمثل خطر وجودي عليها، كما هو الحال في العراق، وما يمثله من قوة تمتلك كل مقومات النهوض لصناعة بلد متقدم، يمكن أن يفرض وجوده على المنطقة ويشكل خطر على كيان، كالكيان الصهيوني، فتعمد أجهزة المخابرات لتلك الدول على أحداث كل مايعمل على تمزيق نسيج كل مجتمع يُراد توهينه وتمزيقه، وصناعة المزارات المزيفة واحدة من هذه الوسائل الفعالة، وذلك لتشتيت الأنظار وتفتيت التجمعات عن الحالات الأصيلة بأبتداع أخرى مزيفة، تستقطب جزء غير يسير من أتباع الأولى إلى الحالة الثانية لأضعاف الأولى، لما رأوا بما للأولى من جاذبية وقوة كبيرة على التحشيد وشحذ الهمم بالتحدي مثلاً لمحتل أجنبي أو دكتاتور وطني، وكلنا نحن العراقيون نعرف كيف كانت صلاة الجمعة في مرقد الأمام الحسين ع من أثر على رفع الزخم وقوة التحديد بالتصدي للصناعة الأمريكية داعش، وكيف كان للأمام الحسين ع ومبادئه الثورية من شحذ همم الرجال، ورفع معنوياتهم، في التصدي لوحوش داعش الأرهابية وطردهم من العراق، وتحرير العراق منهم، وأبطال أخطر مخطط كاد يُطيح بتاريخ ووجود بلد يضم أقدم حضارة على وجه الأرض، وأطفاء فتنة الطائفية المقيته، وتكرر الأمر في سوريا، حيث كان لمرقد السيدة زينب من أثر تحشيدي وتضحوي بالدفاع عن سوريا، ودفع عنها مشروع التقسيم، وانتهى المشروع الى الفشل، والآن زحف الشر على لبنان، ولم يتصدى للعدو الصهيوني إلا الجموع التي جمعتها المراقد الحقيقية والمقدسة، فأنصار المراقد الحقيقية هم اليوم من يقاتلون نيابة عن هذه الأمة التي أستسلم أكثر رجالها وجل حكامها، حتى بات هؤلاء المقاتلين وحدهم حماة كرامة هذه الأمة، ولكن هذا لا يخفي عن عيون أجهزة المخابرات ومراكز بحوثها للبحث بالوسائل التي تشتت هذه الجماهير وتبعثر قواهم وأضعاف عزمهم، ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفة نقاط ضعفهم، وتشخيص مراكز قوتهم، فوجدوا الأثنين معاً، فجاءت حملات التشويش،والتقسيط، والتشكيك بكل القيم والأشخاص من ذوي الشأن، ولم يستبعدوا تكنيكاً جديداً قديماً ولكن بزخم أكبر وهو تشجيع بناء المزارات والمقامات المزيفة،أملاً بتوزيع وتفريق هذه الطاقة الجبارة، في تشتيت ولاءاتها، وتوزيع أنتماءاتها لفك عضدها وتدمير شملها، فخرجت علينا أسماء شخصيات ومراقد ومقامات ما أنزل الله بها من سلطان، وأصبح بدل الواحد مئات، حتى أصبحت ظاهرة تثير الحزن والرثاء. أنا ليس ممن يعلق كل شيء عن المؤامرة ولكني لا أنكرها، ولا أتغافل من يشتغل عليها، فهناك مراكز متخصصة تبرع وتجتهد في صناعة ظواهر مؤذية ومعرقلة لمسيرة حياتنا، ينبغي الأنتباه لها، ولا يكون ذلك إلا بالوعي والإيمان الحقيقي، فمعرفة الحقيقة كفيل بسد الطريق على كل الخرافات والمزيفات والخزعبلات، التي مصدرها جهلنا، ودسائس الآخر المعادي لنا.
***
أياد الزهيري