قضايا

علي الطائي: حينما تلبس العاداتُ ثوبَ القداسة!!!

إنّ العقول حين تجمد، وتتقوقع داخل قوالب الزمان، فلا تسمح لنفسها أن تُحلِّق في فضاء الإبداع، أو أن تُعاين ضوء الفكر المتجدد. وإنّ الجمود يا رفيق الدرب، ليس مجرد سكونٍ بل هو احتباسٌ، يعيق العقل عن تحرره ويُقعده عن إدراك المعاني الجديدة.

إنّ الجمود الذي أصاب بعض العقول في مجتمعنا العربي ليس وليدَ لحظةٍ عابرةٍ، بل هو نتاجُ موروثٍ طويلٍ، ينساب في العروق كالنهر الذي حمل معه طميًا أثقل الأرضَ عن العطاء. هذا الموروث الشعبي، بما يحويه من حكاياتٍ وأساطير وعاداتٍ، قد تشابك مع الموروث الديني، فصار للناس كأنّه الميزان الذي يُوزن به الخير والشر، الصواب والخطأ. لكن، أيّ ميزانٍ هذا الذي لم تتغير موازينه منذ قرون؟

يا صديقي، كيف لعقلٍ أن ينمو إن كان مأسورًا بأغلال الماضي؟ وكيف لأمّةٍ أن تتقدم إن كانت تعيش بين دفتي كتبٍ صُفِّحت قبل مئات السنين؟ لقد انقلبت معاني الموروث من كونها قاعدةً للوعي إلى كونها سياجًا يحدُّ من الفكر.

فيا للعجب!

كيف لنا أن نأخذ الحكايات الشعبية التي قيلت في ليالٍ غاب عنها العلم، فنُلبسها ثوبًا من القداسة؟ كيف نصمت أمام نصوصٍ تملأها أساطير الأولين، ونرددها دون أن نتجرأ على السؤال؟

يا صديقي، إنّ الدين حين جاء، كان شعاعًا يبدد ظلمات الجهل، وكان الموروث الشعبي يضفي على الحياة طابعًا خاصًا، لكنه لم يكن ليعلو على الحقائق. ثمّ ماذا حدث؟ تطورت الحياة وتبدلت العصور، لكن بعض العقول بقيت حبيسةً لتلك الأزمنة، رافضةً أن تقبل حقيقةً بسيطةً: أن العقل قادرٌ على الإبداع كما هو قادرٌ على التذكّر.

فما السبيل يا رفيقي؟

إنّ السبيل يبدأ بالسؤال. السؤال الذي هرب منه كثيرون خوفًا من أن تهتز قناعاتهم. إنّ الموروث الشعبي والديني لا يُلغى، لكنه يُراجَعُ، يُمحّصُ، ثم تُعادُ صياغتُه بما يتناسب مع روح العصر.

ويا لها من مهمةٍ شاقة!

إنّ من يجرؤ على المراجعة، يُتهم بالخيانة، ومن يطلب الإبداع يُنعت بالكفر. لكن يا صديقي، لو تأملنا، لوجدنا أن الحضارة التي نباهي بها العالم اليوم لم تُبنَ إلا على أسسٍ من النقد والمراجعة.

إنّ الجمود آفةٌ قاتلة، تُميت الحاضر، وتُطفئ أمل المستقبل. وإنّ أولى خطوات التحرر تبدأ بفتح نافذة العقل على نور العلم، على أدب الحوار، على قبول الآخر.

يا صديقي، إنّ الكلمات التي ننطقها، والتقاليد التي نمارسها، ليست أكثر من مرآةٍ تعكس ما بداخلنا. فإن كنّا نريد لمجتمعنا أن يُشرق من جديد، فعلينا أن نُشرق أولًا في أعماقنا، أن نواجه أنفسنا، أن نعترف بالقصور، وأن نتجرأ على التغيير.

وختامًا يا رفيقي، لا تخف من الغوص في أعماق الفكر، فإنّ البحّار الذي يخشى الغرق لا يصل إلى الشاطئ الآخر. كن شجاعًا، كن طليق العقل، واستمسك بالحقيقة، فهي وحدها النجاة من مستنقع الجمود.

هذا زمانٌ يحتاج فيه الإنسان إلى أن ينهض من سباته، إلى أن يتحرر من قيد العادة، إلى أن يُعيد صياغة ذاته. فلا تترك نفسك أسيرًا، واجعل من فكرك جناحين، تُحلّق بهما نحو آفاقٍ أرحب.

فيا صديقي، انفض عنك غبار الماضي، وارسم مستقبلك بحبر الإبداع.

***

بقلم: د. علي الطائي

5-12-2024

في المثقف اليوم