قضايا
عبد الله الفيفي: ميزان الاعتدال في نقد الرِّجال!
بين النثر الأدبي في صدر الإسلام والشريف الرضي (7)
إنَّ باعث العاطفة الطائفيَّة، ودافع العصبيَّة الأُسريَّة، كانا وراء مشروع (الشَّريف الرَّضِي، ـ406هـ= 1015م) لتأليف كتاب «نَهْج البلاغة»، كما ذكر هو في مقدِّمته، لا شاغل البحث، وما ينبغي له من تحرِّي الصِّحة والتوثيق. ولقد أشار الشَّريف إلى اختلال الروايات، وتباينها، وأنَّه قد أعاد صياغتها «استظهارًا للاختيار، وغَيرةً على عقائل الكلام».(1) ولذا فإنك، إنْ تبصَّرتَ، وتيقَّظتَ من سَكرة الهوَى، ستُلفي أسلوب «النَّهْج» أشبه بأسلوب الشَّريف نفسه، منه بأسلوب (عَليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، -40هـ= 661م)، وإنْ قيل إنَّ الشَّريف متأثرٌ بأسلوب عَلي. ولكن من قال إنَّ أسلوب عَليٍّ، أو أسلوب ذلك الرعيل الأوَّل في الخَطابة، كان على هذا النحو، «العبَّاسي» البديعي المتصنَّع؟! ومن هنا، فلا نجاوز الحقَّ حين يتأدَّى بنا النقد الداخليُّ للنصوص، وإعمال النظر في القرائن التاريخيَّة والثقافيَّة، إلى تأكُّد الشَّكِّ في نِسبة معظم تلك النصوص إلى الإمام عَلي.
هكذا استهلَّ بنا (ذو القُروح) ركوب هذا الضرب من بحار البحث. قلتُ:
ـ ولقد تعلم، قرَّحَ الله شانئيك، أنْ قد تكلَّم كثيرون في شأن الشَّكِّ في نِسبة «النَّهْج» إلى (أبي الحَسَن).
ـ بل لقد اعترف (الشَّريف الرَّضِي) نفسه بأنه هو مؤلِّف «النَّهْج».
ـ يا سلام! اعترف؟ الاعتراف سيِّد الأدلَّة!
ـ هذا ما يوحي به (شوقي ضيف)، في كتابه «الفَنّ ومذاهبه في النَّثر العَرَبي»(2)، أنَّ (الرَّضِيَّ) قد اعترفَ بوضع «نَهْج البلاغة»! والحقُّ أنَّه إنَّما ذَكرَ أنَّه ألَّفَه، أي: جمعَه وصنَّفه. فحين يقول، مثلًا: «كتابنا الذي ألَّفناه ووَسَمْناه بنَهْج البلاغة»(3)، أو «كتابنا الموسوم بنَهْج البلاغة»(4)، فليس في هذا اعترافٌ بالوضع.
ـ لا سيِّد للأدلَّة، إذن؟! وليس إلَّا اعترافًا بالتأليف، بمعنى الجمع والتصنيف، لا بمعنى الوضع؟
ـ نعم. غير أنَّنا أحببنا خلال هذه المقاربات تفكيك النَّصِّ أسلوبيًّا وثقافيًّا وسياقيًّا، لتبيُّن التهافت في نَهْج مَن يَنْحَل (عَليًّا) كتابًا كاملًا، في سابقةٍ لا نظير لها من نَحْل النَّثر. وهي تُزري بنَحْل الشِّعر عند أساطينه، كـ(حمَّاد الراوية) و(خَلَف الأحمر). على أنَّك قد تجد للرَّضِيِّ مِن نَحْل الشِّعر أيضًا ما له!
ـ أيضًا! كيف؟
ـ في كتابه «خصائص الأئمة» يُورد أبياتًا ستةً، ينسبها إلى (حسَّان بن ثابت)، ليست في ديوانه المحقَّق، ولا تصحُّ له؛ بل هي ذات لغةٍ بعيدة كلَّ البُعد عن لغة حسَّان وأسلوبه. نُسِجَت على منوال أبياته ذات المطلع:
ثَوَى في قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشرَةَ حِجَّةً ::: يُذَكِّـرُ لَو يَلقَى خَليلًا مُؤاتِيا(5)
وجاء مطلع أبيات (الشَّريف)، المنسوبة إلى حسَّان، هكذا:
يُـناديهمُ يـومَ الغَديرِ نَبيُّـهُمْ ::: بِخُـمٍّ وأَسْمِعْ بالنَّبيِّ مُنادِيـا(6)
وهي أبيات ركيكة النَّسْج، لا نعلم أنَّه رواها لحسَّان غيره.
ـ يبدو أنَّه قد مَرَدَ على تقبُّل هذا، وأنَّ لديه من الروايات، نثرًا وشِعرًا، ما لم يعلمه إلَّا هو.
ـ لكن رواياته تأتي بلغة القرن الرابع الهجري، أو قل بلغة (الشَّريف الرَّضِي) لا غير!
ـ مع أنَّ حِفظ الشِّعر أسهل، وروايته أيسر.
ـ بَيْدَ أنَّ تزويره على الناس وارد، ما دام عمود الشِّعر قائمًا منذ الجاهليَّة إلى عصور الإسلام المتأخِّرة. وما هكذا النَّثر بحالٍ من الأحوال. لولا الغُرور بإجهاش العوامِّ تفاعلًا، وترديد أشباههم إعجابًا، بلا مُسْكة من عِلم، ولا فِطرة من حاسَّة نقديَّة. ولعلِّي بك- في ما ألمحتَ إليه من شكِّ الشاكِّين في عَزْو «النَّهْج» إلى الإمام (عَليٍّ)- تشير إلى أمثال (شمس الدِّين الذَّهبي، ـ748هـ= 1348م)؟
ـ ماذا قال؟
ـ قال في «ميزان الاعتدال في نقد الرِّجال»(7)، معرِّفًا بـ(الشَّريف المرتضَى): إنَّه «عليُّ بن الحُسَين العَلَوي الحُسَيني الشَّريف المرتضَى، المتكلِّم الرافضي المعتزلي، صاحب التصانيف. حدَّث عن سهْل الديباجي، والمرزباني، وغيرهما. ووليَ نقابة العَلَويَّة، ومات سنة ستٍّ وثلاثين وأربع مئة، عن إحدى وثمانين سنة. وهو المتَّهم بوضع كتاب «نَهْج البلاغة»، وله مشاركة قويَّة في العلوم. ومَن طالعَ كتابه «نَهْج البلاغة»، جزمَ بأنه مكذوبٌ على أمير المؤمنين (عَليٍّ، رضي الله عنه)؛ ففيه السَّبُّ الصُّراح، والحَطُّ على السيِّدَين: (أبي بَكْر، وعُمَر، رضي الله عنهما)، وفيه من التناقض، والأشياء الركيكة، والعبارات التي مَن له معرفةٌ بنَفَس القُرشيِّين الصحابة، وبنَفَس غيرهم ممَّن بَعدهم من المتأخِّرين، جزمَ بأنَّ الكتاب أكثره باطل.» وفي جملته الأخيرة مربط الفَرَس. ففيها إلماحٌ إلى تباين الأسلوب بين عصر (عَليٍّ) وبيئته وأسلوب (الشَّريف المرتضَى)، في القرن الرابع الهجري، وبيئته. وقد وردت كلمة «نَفَس» في المطبوع المحقَّق غير مضبوطةٍ بالشكل، وذلك تقصيرٌ وإخلالٌ من المحقِّق. فـ(الذَّهبيُّ) يشير هاهنا إلى «نَفَس القُرشيِّين الصحابة، ونَفَس غيرهم»، أي: طبائعهم، بما في ذلك أساليبهم وأساليب غيرهم. وكلمة «نَفَس» أعمق وأشمل من تعبيرنا بـ«أُسلوب». فللهِ دَرُّ الذَّهبيِّ، ما أدقَّ عبارته هذه! ولقد انتهى بنا البحث في هذه المسألة- بعد أن زعمنا ما تقدَّم- إلى الوقوف على آراء من شكُّوا شكَّنا، سابقين إلى إنكار نِسبة «النَّهْج»، إلى (عَلي). فقبل الذَّهبيِّ كتبَ (ابن خلكان، ـ681هـ= 1282م)(8): «وقد اختلف الناس في كتاب «نَهْج البلاغة» المجموع من كلام الإمام عَليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، هل هو جَمْعه أم جمع أخيه الرَّضِي؟ وقد قيل: إنَّه ليس من كلام عَليٍّ، وإنَّما الذي جَمَعَه ونَسبَه إليه هو الذي وضعَه، والله أعلم.» وممَّن تابع إلى هذا من المحدثين (أحمد حسن الزيَّات)(9)، حيث كتبَ: «ومن الناس من يميل إلى أنَّ أكثر كتاب «نَهْج البلاغة» من صُنع الشَّريف، لما فيه من التعرُّض للصحابة بالأذى والهجر، ولأن ما فيه من فلسفة الأخلاق، وقواعد الاجتماع، ودِقَّة الوصف، وتكلُّف الصنعة، ليس في إمكان ذلك العصر ولا في طبعه. والظاهر أنَّ الشَّريف جمعَ (كلَّ ما نُسِب) إلى الإمام، وفيه الصحيح والمشوب.»
وأجدني، إذن، من أولاء القوم الذين يميلون إلى هذا، لا للسبب الأوَّل- الذي ألمح إليه الزيَّات، متابعًا فيه ( الذَّهبي)، بلا توثيق- ولكن قبل ذلك للأسباب الفنيَّة والأسلوبيَّة، المتعلِّقة بالصنعة البيانيَّة، والصبغة الفلسفيَّة، والخوض في دقائق الطبيعة، ممَّا لم يأتِ لا في «القرآن»، ولا في «الحديث»، ولم يَثبُت بعِلم. ولم يكن (عليُّ بن أبي طالب)، عالمًا فيزيائيًّا، ولا حتى من أرباب الخيال العِلمي، أو قاصًّا متنبِّئًا، كـ(إدغار ألان بو Edgar Allan Poe، ـ1849)، مثلًا، الشَّاعر والقاصُّ والناقد الأميركي، المشهور بأدبه الغرائبي الغامض، في القرن التاسع عشر، الذي عُدَّ أوَّل من استعمل مصطلح «الانفجار الكوني العظيم». بل ما كانت حياة الإمام فارغةً لتلك التهويمات الكونيَّة، ولا التشقيقات الأحيائيَّة، والأمواتيَّة، حتى إنَّه قد انشغل بوصف الطاووس- وليس من بيئةٍ فيها طواويس أصلًا- وتصوير النملة، وتشريح الجرادة، وتأمُّل خِلقة الخفَّاش، إلى غير ذلك! بل إنَّ في ذلك ونحوه ممَّا جاء في «النَّهْج» ما قد يتصادم، أوَّل ما يتصادم، مع العِلم بالطبيعة، والعِلم بالأحياء.
ـ ومثل هذا يمكن أن يُقال عن المنسوب إليه أيضًا بعنوان «الجَفر الجامع والنُّور اللَّامع».(10)
ـ أفلا يُدرِك أولئك المغتبطون بتلك النصوص، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا واغتباطًا وإعلاءً من شأن الإمام، أنَّ في نِسبة الهراء من هذا وذاك إلى (عَليٍّ) جنايةً على مقامه الكريم أيَّما جناية؟!
[وللحديث بقايا].
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
..........................
(1) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 80- 81.
(2) يُنظَر: (القاهرة: دار المعارف، 1983)، 62.
(3) يُنظَر: الرَّضِي، الشَّريف، (1986)، حقائق التأويل في متشابه التنزيل، شرح: محمَّد الرضا آل كاشف الغطاء، (بيروت: دار الأضواء)، 5: 167.
(4) يُنظَر: الرَّضِي، الشَّريف، (1422هـ)، المجازات النبويَّة، تصحيح: مهدي هوشمند، (قم: دار الحديث)، 54، 79.
(5) (2006)، ديوان حسَّان بن ثابت، تحقيق: وليد عرفات، (بيروت: دار صادر)، 1: 94.
وقد أروده المحقِّق مكسور الوزن، هكذا: «ثَوَى بِمَكَّةَ بِضْعَ عَشرَةَ حِجَّةً». وهو في غير هذا التحقيق مستقيم الوزن، كما أوردناه: «ثَوَى في قُرَيشٍ بِضْعَ عَشرَةَ حِجَّةً». والعجيب أنَّ المحقِّق، قد رجع في تخريجه إلى ثلاثة كتب روته كلها بروايته المستقيمة، ومع ذلك أبقاه مكسورًا. وهو في شرح الديوان لـ(عبدالرحمن البرقوقي) صحيح الوزن.
(6) الرَّضِي، الشَّريف، (1434هـ)، خصائص الأئمة، تحقيق: محمَّد هادي الأميني، (مشهد: مجمع البحوث الإسلاميَّة)، 41.
(7) (د.ت)، تحقيق: محمَّد البجاوي، (بيروت: دار المعرفة)، 3: 124.
(8) ابن خلكان، (1968)، وفيَّات الأعيان وأنباء أبناء الزَّمان، تحقيق: إحسان عبَّاس، (بيروت: دار صادر)، 3: 313.
(9) (د.ت)، تاريخ الأدب العربي، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 286.
(10) طُبِع في (القاهرة: مكتبة الكليَّات الأزهريَّة، د.ت). وذُيِّل- كما كُتِب على غلافه- «لإتمام الفائدة بالشِّعْرَة [=الشِّعْرَى] اليمانيَّة، وهو علوم النجوم والطوالع والأبراج والطبائع، مجموع من أقول هرمس»!