قضايا
جمال العتّابي: التصحر.. هي الأرض قد طواها العطش
من أيما نبع تعشوشب القفار؟
من أيما سماء يهطل غيم؟
لم يعد (السواد) يرتعش بالسراب!
يا حادي العيس إلى أي مدى تفضي الخيول؟
إلى مدائن الطين الخراب التي تيبّست وجفّ ريقها ولا مطر؟ أم للأشجار التي لا مفرّ لها إلا أن تموت ميتة معجّلة؟ كما أراد صناع الموت بلا قراءة وبسملة، والأرض الظمآنة في غيابة للريح.
كان مغول اجتثاث (السواد) من أرض العراق يستدرجون النخيل فيقطعون جذوره ليسرقوا سعفه، ثم ينحروه من أعلى الرِقاب !
لم نتعلم بعد أبجديات الحروف الأولى ونحن نسمع حكاية تسمى : (الحزام الأخضر)، ولم ندرك بعد علاقة الحزام باللون، حتى أدركتنا الأعوام وقرأنا في الكتب المدرسية أن مشروعاً " حلماً " تخطط له الحكومات منذ قامت الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي تحت هذا العنوان، انه يعني باختصار : زراعة الأشجار الدائمية على أطراف الصحراء الممتدة من الشمال إلى الجنوب في غرب العراق، وكنا نقرأ كذلك في كتب التاريخ أن جيوش المسلمين حين قدموا إلى العراق رأوا سواداً، لكثافة الزرع في سهوله الخضراء وشدّة اللون فيه، فأطلقوا عليه (أرض السواد). ويلحّ علينا السؤال بين الحين والآخر عن معنى (الحلم) في بلاد يخترقها من الشمال إلى الجنوب نهران عظيمان، وروافد تنبع من اليمين واليسار، فاقترن اسمها بهذين النهرين وأصبحت تعرف البلاد منذ فجر التاريخ بـ ( وادي الرافدين، أو أرض ما بين النهرين). أرض تعيش على لهاث الندى وما يشتهي الطيبون.
نقرأ في صفحات التاريخ أن بلاداً حطّ فيها طوفان، يجيئها الخير في عقر دارها. ماذا جرى لتتحول هذه الأرض إلى مرتع وخيم للهوام؟ تغصّ بالدمع والآهات؟ والجفاف.
ونقرا أن هذه البلاد كانت إحدى المناطق التي ارتبط تطورها التاريخي بالزراعة المروية منذ أقدم العصور، وكان على الفلاحين التكيف مع البيئة والبقاء على قيد الحياة في الظروف الصعبة التي عاشها الانسان وهو يواجه مشكلات الأرض والمياه حين تتشابك الأسباب فيهجر الأرض المطر ليعم الجفاف والتصحر.
التصحر المتزايد سيترك آثاره الخطيرة على مجمل الواقع الزراعي، في ظل نظام سياسي يواجه أزمات حادة عديدة، الأمر الذي سيضاعف المصاعب والتعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية للبلاد.
المؤسف حقاً ان مبالغ خيالية تبددت وضاعت عبر مشاريع وهمية، أو لم تنفذ بسبب الفساد المتفشي في أجهزة الدولة من دون استثناء، وشيوع ظواهر الرشوة والسرقة والاختلاس في معظم مفاصل الحكومة، ان هذا العبث المتوحش بالمال العام ضيّع على البلاد فرصاً كبيرة في التنمية والبناء، وخلق فئات طفيلية أسرعت في الثراء بأساليب قذرة على حساب تعطيل أي مشروع إصلاحي تنموي.
تراجعت أعداد أشجار النخيل من 30 مليون نخلة إلى 9 مليون نخلة بسبب الحروب وبالأخص الحرب العراقية – الإيرانية، واتساع المدن العشوائي على حساب بساتين النخيل الكثيفة المحيطة بالمدن، جرى ذلك بأبشع صورة في المدن الكبيرة، وعلى وجه الخصوص العاصمة بغداد، إذ امتدت الجرّافات لتمسح مساحات واسعة من بساتين النخيل لحساب مشاريع الإسكان وبناء أبراج العمارات لصالح حفنة من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة في مشاريع غسيل الأموال التي تضخمت بشكل سريع في الآونة الأخيرة.
بدأنا نخشى أن الشمس لم تعد تضيء في وسط النهار حين يحجبها تراب العراق فتختنق الأنفاس وتضيق الصدور، آه.. يا ذا البلاد الممحلة التي ما استراحت بأعوامها السيئة!
هي الأرض قد طواها العطش لسوء الإدارات التي توالت في حكم البلاد، جفّت سواقيها واتسعت صحاريها وغزاها الجراد، ضاعت بين وهم ووعود وخراب، انهكها جلادو النخيل، أحالوا مدنها وأهوارها إلى مدن تشبه الطين أو تشبه القش، مدن تشبه العواصف الترابية، أو تشبه الملح عطشانة.
***
د. جمال العتّابي