قراءات نقدية
عيّال الظالمي: النصوص الثقافية العائلية

النص الثقافي في الشعر العراقي المعاصر (4)
تعتبر الأسرة أهم خلية يتكون منها جسم المجتمع البشري إذا صلحت صلح المجتمع كله، وإذا فسدت فسد المجتمع كله، في كنفها يتعلم النوع الإنساني أفضل أخلاقه، تتوحد الاسرة بأبنائها في ظل المقومات الربانية من سكن القلب واطمئنان النفس وراحة الضمير حيث تضفي على أبنائها خصائصها ووظيفتها، عندما بدأت بقراءة مجموعة (عن الشط واهله) وهذه العلاقة الوثيقة بين الماء الحياة في شط الشامية ومجتمعها الذي نمى كأشجارها على جرفيه منذ أن تكونت القرى قرب الماء، وجدت الشاعر بدأها بوالد المدينة السابقة ليحيي المدينة الحالية وهذا الوالد الروحي يحمل مكانة اجتماعية ودينية مؤثرة في علم دراسة الإنسان، أنه (السيد صاحب الشرع والد الشامية) بهذا العنوان الكبير، أرى مقدار احترام المدينة وولاءها وطاعتها، فهو القاضي في نزاعاتها، والحامي عن حقوقها، والطبيب لمرضاها في شتى الأمور، والراعي لأزقتها كمدينة ينثر الامان والطمأنينة بين أبنائها عملاً وتصرفاً، وفيصل الكلمة المطاعة، فيصفه:
سيفرُح المعصوموَن
أن ابنَـُهم المضيءَ
كان أباً كريماً لمدينة عظيمة
أَو ليس الذي يركب جواَد الحسين حسينا
أوَ ليس الذي
يـُقطُّر ابناءَهُ شهداءً حسيناَ
أَو ليس الذي تعشُقهُ الشوارعُ
وتقبِّلُ يَدهُ الحارات حسين؟
فللغة الخطاب التسائلي وقوعه ضمن التشبيه، وهي نتيجة لما يحدث في حياة هذا الرجل الذي يأخذ مكانته من نسبه الممتد بشجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، منها يجد المساحة للتشبيه بين أب الشامية وجدِّه الحسين عليه السلام، ذلك الثائر الذي يقوم أبناء الطائفة وأشياع والده في تخليد ذكرى معركة استشهاده في كل عام منذ ألف واربعمائة عام، كدأب عقائدي لا ينقطع، ويقوم هذا الأب بتمثيل دور المجاهد العظيم أبا الأحرار فيزداد مكانة لأنه أولى من كل الشخصيات بتأدية دور الحسين الشهيد عليه السلام، فيكسب بذلك تعاطف ومحبة الناس في مدينته الصغيرة التي يؤمها يوميا في منهجه التفقدي لها، وهو أيضا المضحي بأولاده الشهداء الثلاث على يد جلاوزة النظام السابق، كما يذكرهم النص ففي هذه السردية السائلة كمياه النهر لتأريخ السيد الشرع، ينقل لنا الشاعر معنى الاحترام المتبادل والمحبة المتبادلة بين المدينة ووالدها، وكما يقول جان مايسون: (لا يدفع ثمن الحب إلّا الحب)، وهناك والدة للمدينة في حكاية احترام وتقدير وحنان طاغي لهذه الوالدة العصية على النسيان، فهي تحضر في ذاكرة المدينة أم الشامية (أم ديوان) أم الجميع حيث عقمت المدينة وحكومتها أن تلد مشفى لنسائها، فكانت الولادات على يد هذه الأم التي اخرجت الكثير إلى النور:
توبخين التي يعسُر طلُقها
فتبتسُم
ابتسامةَ الرضا
ويهدُر الأمل
مع مفردات الدعاء،
مؤخراتنا الصغيرةُ
تحتملُ ضربات كفيك
لنصرَخ أوَل مرة
ويستمُر صراخنا
الى أن نعوَد
الى بطن أكبر
أستشف على أنها القابلة الوحيدة في المدينة، فهي التي ولدوا اغلب أبناء الشامية على يديها، وهي التي توبخ المعسرات كي يطْلقْنا أولادهن وتضربهم كي يصرخوا حتى يعودوا امواتاً بعد عمر مَنَّ به الخالق جلَّ في علاه ليسلموا إلى (عم المدينة) ودفانها الذي يواريهم الثرى وأثر مفرداته وتوصياته بهؤلاء الشباب غداة الحروب ونهايات الحياة المختلفة، فهو الحاني على الشباب حين يستشهدوا والمتأثر لرحيلهم المبكر، فيدعوا حفاري القبور الرأفة بهم وتوسيع قبورهم بقولٍ حنيناً مؤلم النبرة، شفيق المنتقى من المفردات.
فهذه الوالدة (أم ديوان) أخرجتهم من لجة الظلمة ذات لحظات مفرحة ومؤلمة وقت لا كهرباء ولا مستشفيات ولا طبيبات مختصات يساعدن الأمهات في لحظات الإنجاب سواها، ولها آراء وحِكَم وأقوال في تأريخ المدينة ذات عصر كانت لها آذان تسمع وألسن تردد مقولاتها، بعضها تهكمية تنال وتطال الحكومة التي لم تكن يوما راضية عن تصرفاتها وعن رجالاتها الذين لا يملكون مكانة اجتماعية في تأريخ المدينة، وهي ترى انهم لا يستحقون الحظوة والأمر والتحكم والسيطرة على مدينة حرَّة حكمت بالمحبة والصدق والأمانة وصلة الرحم والاحترام بين رجالها، فتقول باللهجة الشعبية:
قولتَك المشهورةَ
(يا حيف الهدانات تحكم مذاريب)
فتضحك الشوارعُ
التي اعتادت
رؤياك مسرعة.
وما تعني الجملة بأن الحكم تحول من الرجال أصحاب الحظوة والصدارة في مجتمع الشامية (المذاريب) إلى منهم دون الرجال، من المتسكعين والفارغين والمتهتكين العاجزين (الهدانات)، وهنا يؤيدك الجميع، لأن أنسنة المكان يدل على المجتمع الذي يعيش ويمر على هذه الشوارع، فالعيون اعتادت عليك وانت تسرعين لنجدة الأمهات عند الولادة وتركبين خلف ولدك على دراجته دون وجل أو خجل، فأنت يد المساعدة وطيف من الرحمة والسعد للبيوت بزيادة أعداد الفقراء التي تعدو على شوارع المدينة.
مجمل قول أرسطو في الشعر "على أنه أي الشعر أوفر حظّاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التأريخ "، فهو تعبير عن الحياة الإنسانية غير المجردة وكما هي على طبيعتها وبهذا أنتقل إلى مجموعة (حكايات الولد الخرافي) للشاعر (محمد السويدي) أبن مدينة الشرقاط، أجد أن نصوصه عن الأب الروحي ماثلة كما هو الأب عند معن، وعلى الرغم من أن الشرقاط في شمال الوطن والشامية في منتصف الوطن ألا أن آباء المدن في العراق هم هم، والعوائل العراقية تتشابه وأولادها يتشابهون وربما العرب بفوارق قليلة يقول ابن خلدون: (العائلة هي عماد أي مجتمع، وهي الأساس الثابت والمتين الذي تبنى عليه الأمم والحضارات؛ فالأسرة هي حجر الزاوية، وقد جعل مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون للأسرة دورا محوريا في بناء الدولة، فهي من وجهة نظره الأساس الذي تبنى عليه العصبية، والعصبية بمعناها الواسع هي أساس الدولة) ففي قصيدة (حكاية الشيخ وهب): وهو عبدالله الوهب، يروي الشاعر لصغار المدينة عن هذا الأب الروحي واصفاً اياه:
في بلادٍ قريبة يا صغاري
عاش شيخ وحوله أبناءُ
سار في هذه الأزقة وعظاً
وعليه عمامةٌ خضراءُ
إذاً هذا الوهب الذي وهبته الدنيا لمدينة الشرقاط كان واعضاً يحمل الخير في جنباته يرعى الجميع، ويقدم النصيحة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحمل قدسية تختلف عن السيد الشرع بعض الشيء ويشبهه بشيء وهي العمامة الخضراء، وبما ان هذا اللون الذي يدل على الحياة والنماء وجمال الأرض فقد التصق دينيا بانه راية سلام وطمأنينة ففي الوسط والجنوب يدل على صلة النسب بآل محمد عليهم أفضل الصلاة والتسليم، وفي المناطق الشمالية والشرقية يدل على الخلق الديني الرفيع الذي يجلُّه عامةُ المجتمع باعتباره دلالة على عمامة آل رسول الله صلى عليه
وآله وسلم، فيقول الشاعر:
كان يعطي الطيور وقتاً
لتمضي بأمانٍ
فقيل عنه السماءُ
هؤلاء الطيور ليسوا طعاماً
لحروبٍ فكلهم أصدقاءُ
إن تغب دجلة يطمئن القرويين
سوف يأتي الماءُ
فهنا عرّفَ ان دور عبدالله زراعة الأمل في قلوب الصغار بمراعاة الطيور سواءً كان يقصد الشاعر بكلمة طيور الشباب او الطيور على انهم ليسوا طعاما للحروب وأنهم احبة واصدقاء مهما اختلفوا في ألوانهم وأشكالهم للحفاظ على الوحدة الوطنية، وان الحياة لابد ان تسير وفق منظور الوطن للجميع، وان ماء الحياة يقدم من شتى المنافذ قد يكون من السماء غيثا، ولا يهم ان عملت الأيادي الخبيثة على قطعه في دجلة الخير، او قطعه بزراعة الفتن بين الشعب، فالماء سر الحياة والحياة لا تتوقف عند منعطف من الشر، وخاصة أن الشاعر عانى من الطائفية حين أفشتها أيادي الكفر بين العراقيين، فهذا الأب الروحي للمدينة قادر على تربية أولاده الصغار في العمر أو العقول بالوعظ والنصيحة والحكمة لكي يكبروا ويحملوا القيم الكبرى للانسانية.
محمد الشاعر يختلف عن معن الشاعر في نصوصه الثقافية، فمحمد يتحدث وينتج عن لسانه، عن لغة خطاب مباشرة منه، ومعن يمتاح من معين تراثي، وحين ينقل محمد خطاب عن أمٍّ تخاطبه هو، ليكون الراوي العليم (مما حكته لي أمّي) كان متأثراً جداً وقلقاً جداً، ما يراه يسكنه داخلياً ويقظ مضجع تطلعاته، هو لا يفكر في تأريخ مدينته ولا يتعامل مع ماضٍ، بل مع حاضر يراه مهشماً وإن مضت أيامه عن وقت قريب، وما يأتي رجاءٌ، لا أقول تمني، حين يضمّن غداً الغيبية، هذا ما يرجوه وليس الضمان في تحقق الحدث، ربما يستشف من قراءة عن أمس، لأن الزمان كما يقال يعيد نفسه:
نم يا صغيري نامت اليقظاتُ
وتدثرت بغلافها الصفحاتُ
هذه الهدهدة في مهد الحياة بصوت الأم القادم من التراث العراقي بأغنية الطفولة الماثلة في ذاكرة جميع الشعب (دل اللول، يا الولد يبني) هنا هو الأم، هو الذي يخاطب قلبه، أو عقله لكي يجعله يهدأ، المستقبل لله، ما عليك سوى ان تدع ما ليس لك طاقة على صنعه لخالقه، فما قرأته وعلمته أو تعلمته إتركه الآن فتلك الصفحات من الحياة أغلقت أبواب غلافها واصبحت من التأريخ، وستأتي صفحات لتِدَوَّن وهكذا، إنه خطاب نفسي قانط، ولكن لا حيلة، فعليه أن يثق بأن (ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها يغير الله من حالٍ إلى حالِ) يقول:
لا تقصص الأحلام
قد تبتزنا حربٌ عجوز قادها الأموات
هذه هي (الحرب العجوز) القلق الدائم، فالحروب منذ ان ولدت على يد أبني آدم، وهي تكبر ولا تشيخ، لا تُنهَك بل تتجدد مع الأجيال بولادات أكثرها معسرة فتكون حلا لليائسين، وقدرا للراحلين، ونكاية للحالمين، الذين لا يريدون دار العناء، فطلب النوم قصير، وربما غفوة دون استيقاض مع حرب فتية، يشعلها من يرحل قبل أن تكمل أسبابها، ويموت قبل أن تحل أوزارها، وهنا يبدأ بقص حكاية الأم ووصاياها وتحذيره من أن يبوح ويخبر الصبيان بأحلامه، وكيف أنه فقد الحبيبة وفقد الأمل المتمثل بالشمس، لا تبوح بحبك الذي ذهب للرهبان فما عليك بُدٍّ من الاعتراف بعشقك ولا صلاة، فالأم عند (محمد السويدي) مبتدعة بكل ما تحمل من صور النصح والإرشاد، هي فكرية من صنعه، شخصية مبتكرة متواجدة في عقله الباطن، قد تكون المدينة، وقد تكون الحلم، وقد تكون الصراع الذي يهيمن عليه من جراء تعرضه وأهله ومدينته للحروب ومنها الطائفية وغول الدولة الإسلامية المفتعل، لتحطيم العراق وأحلام أبنائه، لهذا ينشد أن يكبر هو وبلاده لا فرق بينهم لكي يتجاوزوا المحنة من أجل الغد المنشود، فلسان حاله ما قاله جاك ريف ر: 0 كلنا نموت، الملك من الضجر والحمار من الجوع وأنا من الحب) وحصل التجاوز ومازال الغد واقفا خلف العارضة، فتبقى الأماني المستعصية فينشد لغدٍ:
فغداً ستكبر يا بُني
وحينما تغدو كبيراً تكبرُ الكلمات
ويمتلك (محمد السويدي) عمّاً للمدينة وهو (الشيخ مرعي) هذا العم على عكس عم (معن غالب) فذاك دافن للاجساد المثقوبة، والمنتهية الصلاحية في الحياة، والمنهي للتطلعات حيث الغياب الأبدي، وهذا الذي اخذ حكايته من والده، (حكى لي والدي عن ملّا مرعي) هذا العم مخضر الخطى، يصاحب الخير والنماء، كذاك اسمه يوافق الرعاة والعشب والرعية، فهو الصائن المصون، والمحمي، ويخبره بأن له بالمدينة طيور تلتقيه على ألسنة الفروع وأغصان الشوارع فيها:
ففي شرقاطه كانت طيورٌ
هنالك تلتقيه بكل فرع
تطمئنه على سير الأغاني
وتدرس عنده احكام شرع
متحضر متنور هذا المُلَّا، يطمئن على المتناقضات، تارك الخلق للخالق، بمدينته تنوع فكري ما بين الذين يطمئنونه على أن الأغاني لم تكن مقعدة، وهي تسير لمحبيها، ولكنها وفق المنشأ الصحي لها لأن هذه الطيور النقية الفتية تدرس وتطلع على الشرع، وتأخذ أكيد وتطبق ما يجيزه وما ينهى عنه، وهذا العم يدرأ الحرب بالحياة التي يتصورها الشاعر على أنها أغنية، لأن الحرب لا نفع من قيامها.
***
عيّال الظالمي