أقلام فكرية

طه جزاع: مدارات فلسفية.. السياسة ومراتب المعرفة

يبني أفلاطون نظريته في المعرفة على أساس منهج محدد، يتمثل في الجدل الذي يعني فن المناقشة الهادفة للوصول الى الحقيقة، لأن المناقشة التي لا تهدف الى ذلك لا تعني الجدل مطلقاً، فالوصول الى الحقيقة هو الجدل الذي أراد أفلاطون تثبيته، وعلى الرغم من أن هنالك تراثاً فلسفياً سبق أفلاطون، احتوى على مناقشات جادة بشأن الجدل، تمثلت بهيراقليطس فيلسوف الصيرورة، والمدرسة الإيلية لاسيما عند زينون الإيلي الذي استخدم الجدل في الدفاع عن أفكار استاذه بارمنيدس في نفي الحركة، حتى عدَّهُ أرسطو مؤسساً لعلم الجدل، فضلاً عن استخدامه الجدل ايضاً لغرض تمويه الحقيقة عند السفسطائيين، الى أن جاء سقراط بطريقتيه، التوليد والتهكم.

 نقول على الرغم من كل هذه المحاولات استطاع أفلاطون أن يضع للجدل منهجاً ويقسمه الى شقين هما الطريق الصاعد والطريق النازل، وعد ذلك الطريق العلمي السليم الذي يتبعه طالب المعرفة للوصول الى الحقيقة التي تكمن في التدرج صعوداً من أولى مراحل المعرفة وصولاً الى معرفة مثال الخير في المعرفة العقلية. وبعد أن حدد منهجاً لطالب المعرفة، قسَّم المعرفة الى مراتب أربع هي المعرفة الحسية. المعرفة الظنية. المعرفة الاستدلالية. المعرفة العقلية. وقد ناقش أفلاطون موضوع المعرفة الحسية المتمثل في الظواهر المحسوسة، من لون وطعم ورائحة، وجميع عوارض الأجسام المتغيرة في محاوراته "مينون" و" فيدون" و" الجمهورية " و" ثياتيتوس" و" فايدروس"، متخذاً من التمييز بين الجسد والنفس، أساساً لنقد المعرفة الحسية، فكل ما يطرأ عليه تغيير في حالة وجوده، يضعه الى صف الجسم لأن نهاية الجسم التفسخ والانحلال، أما ما يبقى ثابتاً فهو ينتمي الى النفس، لأنها ثابتة، وقدم أدلة عديدة على خلودها. عليه فاِن الموجودات الطبيعية التي تمتلك صفات مشابهة لصفات الجسم فانها تنتمي إليه، والتي ليس لها مثل هذه الصفات فأنها تنتمي الى النفس . والمعرفة الحسية ترتبط بالموجودات الطبيعية ولا ترتبط مطلقاً بالنفس، والحس يرتبط بأدواته التي هي الحواس الخمس، المختلفة الوظيفة والنتيجة، وكل ما ندركه بحاسة لا نستطيع إدراكه بالحاسة الأخرى، وحتى الحاسة الواحدة هي الأخرى تتعرض للتغير، فالمريض يتذوق طعم النبيذ على نحو مغاير لتذوقه له في حالة كونه معافى كما جاء في محاورة ثياتيتوس. ثم ان عملية حدوث الإحساس تتم على وفق التفاعل الذي يجري بين حواس الإنسان وموجودات العالم الخارجي، أي أن هناك عنصرين يؤلفان العملية الحسية هما الفاعل والمنفعل، المُدرِك والمُدرَك، ولما كان الإحساس يقوم على هذا التفاعل، إذاً فإن أفلاطون لا يثق بتلك المعرفة التي نحصل عليها عن طريق الحس لإختلاف وظائف الحواس بعضها عن البعض الآخر ولقصور الحاسة الواحدة أحياناً، ولكون موجودات العالم الخارجي هي الأخرى متغيرة، لكنه وعلى الرغم من ذلك لا ينكر مطلقاً وجود هذه المعرفة، بل يعدُّها ضرورية، ولا بد أن يمر بها طالب المعرفة، ولا يمكن إلغاؤها، لأنها موجودة أصلاً  بل أن ما يريد قوله، هو عدم الاعتماد عليها وسيلة للمعرفة. وتأتي المعرفة الظَّنية بالمرتبة الثانية من مراتب المعرفة، وموضوعها الصور، وعالم الطبيعة والفن، وترتبط المعرفة الظَّنية بالوجـود المحسوس، ويوضح أفلاطون طبيعـة هذه المعرفـة في محـاورة " الجمهورية "، بل ينقدها أيضاً واصفاً الرجل الذي يقتصر عليهـا فقط انه يعيش " في حلم وهو بعيد أن يكون مستيقظاً، ذلك أن الحُكم كما يُعَّرفه هو أخذ ما يشبه الشيء، ليس على أنه مجرد شبيـه، بل على انه الشيء نفسه " مثلما يقول عزت قرني في كتابه " الحكمة الأفلاطونية ". والمعرفة الظَّنية هي تنظيم للمدركات الحسية في نظام يحدد القَبلُ والبَعدُ، ولما كانت هي تنظيم للمدركات الحسية، فانها ترتبط بالإدراك الحسي ولا ترتبط بالعقل، والإدراك الحسي معناه عملية ملء الإحساس بكلمات، وهذه الكلمات تصبح جزءاً من الذاكرة، والحس حادثة وصفت بكلمات، وهذا الوصف احتفظت به، والاحتفاظ يسهل عملية الحُكم، والحُكم ما هو إلَّا حُكمٌ من الإدراك الحسي، وهو أما صادق أو كاذب، ولتوضيح ذلك فان سقراط يؤكد في فايدروس: " يجب أن يفهم الإنسان بطريقة الإدراك الكامل بالكلمات نتائج أفعال الحواس والتي تمثل كلاً متكاملاً، وذلك عن طريق انعكاس الحواس وتذكر الأشياء، والتي تكون للروح البشرية وحدها القدرة أو القابلية على ذلك". أما في محاورة " ثياتيتوس " فيوضحه أفلاطون بمثال الشَمع، حيث يفرض انه يوجد في نفوسنا طبقة من الشمع متفاوتة النسب، فهي عند أحدنا مثلاً أغزر أو أخف منها عند الآخر، أو أكثف أو أنقى أو أصلب أو أكثر ليونة، ووظيفة هذه الطبقة الشمعية الاحتفاظ بما قد رأيناه أو سمعناه أو تصورناه عن طريق الإحساسات، وهذا الاحتفاظ يحفر بالشمع ببروز علامات ينقشها عليها "وما ينطبع فيه يكون لنا عنه ذاكرة وعلم طالما ظلت صورته موجودة، وما ينمحي ولم ينجح في الانطباع ننساه ولا نعرفه على الإطلاق". ويناقش حالات الحُكم الصادق والكاذب، والهدف من ذلك عدم الاعتماد على هذه المعرفة لأنها تعتمد على المحسوسات والمحسوسات متغيرة متبدلة، لذا فالأحكام المرتبطة بها هي الأخرى متغيرة ومتبدلة، والمعرفة الظَّنية ليست علماً لأن العلم صادق، بينما الظَّنُ يحتمل الصدق والكذب، والظَّنُ لا يُنقل الى الغير، لأن موضوعه متغير، وعلى الرغم من ذلك تبقى المعرفة الظَّنية هي الدرجة الثانية في سلم المعرفة، وعلى طالب المعرفة المرور عبرها الى ما هو أرقى منها. وتأتي بعدها المعرفة الاستدلالية التي يوضحها أفلاطون في محاورة الجمهورية عند نهاية الكتاب السادس معتمداً في توضيحها على مثال الخيط، الذي عدَّ فيه الجزء الأول من القسم الثاني يشمل حقائق الرياضيات، في الوقت الذي عدَّ فيه القسم الأول بجزأيه يشمل المعرفة الحسية والظَّنية، وهذا القسم لا بد من أن تعتمد عليه النفس كي تستطيع الرقي الى المعرفة الاستدلالية، لذا نجد أن عالم الهندسة والحساب يتكون من الأعداد الفردية والزوجية، ومن الإشكال والزوايا لأنهم يعدونها أموراً بينة في ذاتها، فهي معروفة لهم وللآخرين، ويحاولون من خلالها الوصول الى المربع المطلق والقطر المطلق والعدد المطلق، لكنهم لا يصلون اليه بحسب اعتقاد افلاطون لأن طريقة برهانهم او منهجهم مختلفة عن منهج الفيلسوف الذي يصل الى هذا اليقين عن طريق استخدامه طريقتي الجمع والقسمة لغرض التحديد والتصنيف، وبهذه الطريقة وبمعونـة الادراك للصور يصل الى معرفة المُثُل ونظامهـا الكلي وكما جاء في محـاورة " طيماوس". فضلاً عن ذلك فان أفلاطون أناط للرياضيات أهمية خاصة ودليل ذلك ما كتبه على باب الأكاديمية، وعدَّ العلوم الرياضية مواداً أساسية في تعليم تلامذته ومناقشته لتلك العلوم وتصنيفها على وفق اهميتها، اذ يبدأ بالحساب المقسوم على نوعين الحساب العملي والحساب الفلسفي، والهندسة بشقيها الهندسة الثنائية الأبعاد، المُسطحة أو البسيطة، والهندسة الثلاثية الأبعاد " المُجسمة " وعلم الفلك، وأخيراً الموسيقى. ويمكن القول أن أفلاطون عدَّ المعرفة الاستدلالية مرحلة وسطى بين الظَّن والعلم الحقيقي،  ولكنها أرقى من الظَّن لأنها كلية، مفيدة في الصناعات والفنون والعلوم، وموضوعاتها ليست المحسوسات ولا المُثُل، وإنما لها طبيعة متوسطة بينهما فهي أعلى من المحسوسات وأدنى من المُثُل، ثم أنه عدَّ كل ما كانت طبيعته غير حسية أكثر صدقاً مما هو حسيَّ، والطبيعة غير الحسية للأشياء هي وجودها الحقيقي، وهذه الطبيعة غير الحسية هي التي توصل الفيلسوف للانتقال الى المعرفة النهائية التي هي المعرفة العقلية. أما المرتبة النهائية التي يهدف إليها طالب المعرفة فهي المعرفة العقلية لأن موضوعها الوجود الخالد الأبدي غير المتغير، والعقل هو الأداة التي يستخدمها الفيلسوف في سبيل الوصول اليها  معتمداً على الجدل الصاعد الذي يمثل القسم الاول من اقسام الديالكتيك، وهذه المعرفة هي ركيزة العلم والفلسفة،  لذا كانت كل تحليلات أفلاطون وتشبيهاته في مثال الكهف والخيط وتدرج الجمال وتقسيمات المعرفة السابقة ونقده لها، تهدف للوصول الى هذه المعرفة، ويمكن بيان رأيه في طبيعة هذه المعرفة من خلال النصوص الآتية التي يوردها عزت قرني في " الحكمة الأفلاطونية: " فهي – أي المعرفة العقلية – أن يستطيع الفيلسوف الارتفاع الى الأشياء في ذاتها، وأن يراها في جوهرهـا " ،" وهي معرفة الوجود المطلق الثابت الخالد الواحد" ، و" حالة النفس فيها تكون تأملاً لتلك الموضوعات العقلية الثابتة الإلهية بحيث يصير الفكر هو نفسه إلهياً مُنَظماً على نسق الموضوعات التي يتأملها "، " فالنفس حينما تتجه الى ما يتغير ويخضع للكون والفساد ويتصف بالغموض، فإنها تضطرب وتنتقل بلا توقف من شيء الى آخر بين المتعددات ويبدو وكأنها غير قادرة على التفكير، أما حينما تُثَبت انظارها على ما ينيره ضوء الحقيقة والوجود فإنها عند ذلك تفهم وتعرف". وعلى هذا الأساس فان المعرفة العقلية هي معرفة الماهيات الثابتة غير المتصلة أبداً بالعالم الحسي، ونظراً لكونها غير متصلة بالعالم الحسي فهي صادقة صدقاً يقينياً لا يقبل اي نقاش  وصدقها قائم على موضوعها، وموضوعها هو الوجود الحقيقي الكائن من طبعه على حال واحدة في ذاته، والذي لا يتغير بل يبقى دائماً كما هو وتستمد منه الموجودات كافة التي تقع في رتبة أدنى منه وجودها .

- علاقة السياسة بمراتب المعرفة

تكمن العلاقة بين السياسة والمعرفة، في بيان غاية أفلاطون وهدفه من تقسيمات المعرفة الى هذه المرتبات الاربع بهدف تثبيت كون المعرفة الحقة الصادقة اليقينية هي المعرفة العقلية، وعندما يصل الى هذه الغاية، ينتقل الى السياسة لأنه يجعل من الفيلسوف الشخص الوحيد القادر على ادراك الكمال، أي الذي يدرك حقيقة الاشياء، أي المُثُل، فالفلاسفة هم وحدهم القادرون على ادراك الأبدي غير المتغير، ولما كان العاجزون عن إدراكه تائهين في بيداء التغير وتعدد الصور، فهم ليسوا فلاسفة، والتائهون هم الناس الذين تغريهم طبيعة المعرفة الحسية أو الظنية أو الاستدلالية، ويعتقدون بأنها المعرفة الحقة، وهم واهمـون ومختلفـون عن الفيلسوف الذي " يسوق كل عرق نابض في جسمه لإدراك الوجود الحقيقي " . وهدف الفيلسوف هو ادراك طبائع الاشياء، وعندما يدركها تتفجر في نفسه ينابيع الحكمة، ويحصل على الغذاء الحق، ويعرف معنى الحياة، عليه فهو افضل الناس جميعاً في الحكم، ولا يحكم غيره، لأن الفلاسفة يمثلون في رأى أفلاطون الصفوة المختارة من بين الناس. ونقتبس هنا بعض النصوص التي تؤكد ذلك، اذ يقول: " لا دولة، ولا نظام، ولا فرد، يمكن أن يبلغ، أو تبلغ الكمال، مالم تلق مقاليد الاحكام فيها الى ايدي الفلاسفة القلائل". " لا نهاية لتعاسة الدول، وشقاء سكانها ما لم تُقلد طبقة الفلاسفة مقاليد الادارة العليا في الدولة ويتعذر تحقيق النظام الخيالي الذي وصفناه". " أما الآن فأخاطر بهذا البيان قائلاً أنه يجب تنصيب اكمل الفلاسفـة حكـاماً ". وفي الكتاب الثاني عشر من القوانين، يبين أفلاطون ضرورة تدريب الحكام بالرياضيات، لأن هؤلاء الحكام الذين يتمتعون بتعليم رياضي فائق واطلعوا على العلوم الرياضية، هم القادرون فقط على تفسير الظواهر الطبيعية على انها جزء من الطبيعة، وليست من قوة خارج الطبيعة، عكس ما يراه الجاهل الذي لم يتعلم الرياضيات ويخاف هذه الظواهر، ويفسرها على أنها من قوى خارج الطبيعة، فضلاً عن إفهامهم الطبقات الاجتماعية الأخرى  بضرورة إطاعة الطبقة العليا وعدم التدخل في شؤون أي طبقة. واذا كان موقع الفلاسفة هو هذا، فهم اذاً وحدهم فقط الذين يستطيعون رعاية قوانين الدولة لأنهم " هائمون بكل انواع المعارف لتتجلى لهم حقيقة هذا الوجود الخالد الذي لا يغيره الزمن، ولا تسطوا عليه عوادي المحن". لاشك أن لفلسفة أفلاطون جذوراً وأصولاً تمتد الى بواكير الفكر الإغريقي ومدارسه اللاحقة، والأخلاق بوصفها جزءاً من أجزاء فلسفته هي الأخرى لها جذور فلسفية سابقة تمثلت في أقوال الحكماء السبعة الذين كانوا يهدفون الى إصلاح أخلاق مجتمعهم، وكذلك فكرة التناسخ عند المدرسة الأورفية التي تأثرت بها قبل أفلاطون المدرسة الفيثاغورية والتي أسهمت هي الأخرى في بلورة الجانب الأخلاقي في فلسفة صاحب الجمهورية. فضلاً عن ذلك فقد تأثر أفلاطون بالمدرسة السوفسطائية، وكان أعظم الأثر يتمثل بأفكار أستاذه سقراط مؤسس الفلسفة الأخلاقية في مسيرة تطور الفكر اليوناني، وكان أفلاطون في بدء حياته سقراطي النزعة في النظرة الأخلاقية، على الرغم من أفادته من صيرورة هيراقليطس وثبات بارمنيدس، وعناصر أمباذوقليس والعقل عند انكساغوراس. وقد افرد محاورات مستقلة للحديث عن الأخلاق، منها  "خارميدس" و" لاخيس" ، و" ليسيس"، وعليه يمكن القول أن أغلب محاوراته تتحدث عن الجانب الأخلاقي على الرغم من انه يجمع في كل محاورة موضوعات شتى، غير ان هناك طابعـاً عاماً او موضوعاً عاماً يمثل جوهر المحاورة. ذلك أن الدافعين السياسي والأخلاقي هما المنبعان الرئيسان للأفلاطونية من منشئها حتى نهايتها وكان أفلاطون منكباً على كتابة " القوانين" منهاجه الأخير لإصلاح المجتمع حين وافته المنية. لقد أصبحت أسس سقراط الأخلاقية جزءاً من ديانة لا يدرك حقائقها الجوهرية إلَّا فيلسوف على جانب كبير من الخبرة. لذلك فان أفلاطون في تعامله مع الإرث الأخلاقي السقراطي لم يكتشف السياسة فقط بل اكتشف الفكر الإنساني، ذلك الاكتشاف الذي مكَّن الحضارة الغربية عندما اندفعت في تطوراتها اللاحقة أن تخلق ما يسمى الآن المنطق العلمي كما يؤكد حامد ربيع في كتابه " أبحاث في النظرية السياسية ". 

***

د. طه جزاع

.....................

* الدراسة منشورة في موقع مراصد أيضا

 

في المثقف اليوم