قراءة في كتاب

أمجد نجم الزيدي: جماليات القبح.. تهشيم المفاهيم التقليدية للجمال

يعتقد البعض بان من الافضل ان يكون قبيحا في بعض الاحيان

على أن يكون جميلا

ويبدو لي من دون شك،

لو أنَّ هيلين اليونان وباريس طروادة

كانتا قبيحتين،

لقلّت متاعب اليونان

ولم تعاني طروادة من حصار أو دمار متعاقب.

الشاعر الايطالي أورتينسيو لاندو (Ortensio Lando)

***

تذكرنا أعمال السيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو Umberto Eco   بأنَّ السعي وراء الجمال لا يكتمل دون الاعتراف بنظيره المناقض له، وهو (القبح)، حيث يأخذنا إيكو في كتابه المثير (عن القبح On Ugliness) عبر متاهة معقدة في الإدراك البشري، محاولا تهشيم المفاهيم التقليدية للجماليات، وليجبرنا على مواجهة الجانب الأخر الذي نتغافل عنه، أو نسيء فهمه.

يعتبر هذا الكتاب جزءا متمما للمشروع الذي بدأه إيكو بكتابه (عن الجمال On Beauty)، والذي كان يبحث فيه عن جوهر الجمال وصوره، عبر حقب تاريخية مختلفة وثقافات متنوعة، بينما كرس كتابه الأخر (عن القبح) إلى ما يضمره مفهوم القبح ويستتر تحت قشرته، إذ يتعامل معه ليس بوصفه مناقضا للجمال فقط، وإنما كمفهوم واسع له خصوصيته الثقافية والفلسفية، من خلال تحليل الأعمال الفنية، والمصادر التاريخية، والنصوص الأدبية، والذي يحرضنا على إعادة النظر بما نتبناه كأحكام جمالية، يقول إيكو (قد يبدو قناع طقوس الأفارقة مرعباً للغربيين، بينما بالنسبة للسكان الأصليين قد يمثل الآلهة الخيرة، وعلى العكس ربما يمكن أن يشعر المؤمنون في بعض الديانات غير الأوربية بالاشمئزاز من صورة تعذيب المسيح ونزيفه وإذلاله، بينما هذا القبح المادي الظاهر ربما يثير الشفقة والعطف في المسيحية)، حيث نلاحظ هنا إنَّ مفهومي القبح والجمال يرتبطان بالسياق الثقافي الذي يبني تصورات الشعوب عن هذين المفهومين، ويحدد مدى الاستجابة ونوعها.

يخطو تحليل إيكو للقبح فوق عالم الجماليات المادية، ويركز على البشاعة الموجودة في الفن والأدب عبر التاريخ، فأنَّها -وفقا لإيكو- تتحدى المعايير الجمالية التقليدية، وتدعونا إلى التشكيك في افتراضاتنا حول الجميل والحسن، أي أنَّها وسيلة للتدمير، تعطي للفنانين والأدباء وسيلة لمجابهة الاعراف والصور النمطية التي يخزنها المجتمع، بالإضافة إلى التحريض على التفكير، والاستجابات التي تتجاوز حدود الجمال التقليدي، ولكن هناك معايير أخرى قد تبني مفهوما أخر للقبح، إذ يقول إيكو (لا يعزى الجمال أو القبح في أكثر الأحيان إلى معايير جمالية، بل إلى معايير سيسيوسياسية، هناك فقرة لماركس يشير بها إلى أنَّ حيازة المال قد تعوض عن القبح، "للمال خاصية تمكنه من شراء أي شيء، والاستحواذ على كل شيء، إذا فالشيء البارز هو امتلاك الثروة.. لذلك فما أنا عليه وما أستطيع فعله لا يتحدد مطلقاً بناء على فردانيتي، أنا قبيح لكن بإمكاني شراء أكثر النساء جمالاً، لذا أنا لست قبيحاً، منذ أن الغى المال تأثير القبح وقواه المثبطة، كفرد أنا أعرج، لكن المال يعطيني أربعا وعشرين ساقاً، لذا أنا لست أعرجاً...")، أذن فكلا المفهومين ومعاييرهما متغيرين، تتحكم في تشكيلهما سياقات ثقافية وتاريخية، وهي التي تقولب نظرتنا لهما ضمن محددات ثابتة وأحكام مسبقة، إذ يشير إيكو في موضع أخر إلى إنَّ هناك سياقات ممكن أن تتلاعب بهذين المفهومين، كهيمنة المال، أو السلطة والقوة (إذا وسعنا الأن هذه الملاحظات من المال إلى السلطة عامة، فيمكننا أن نفهم بورتريهات ملوك القرون الغابرة، والذين خلدهم وبتفان الرسامون المتملقون، الذين لم تكن في نيتهم التأكيد على العيوب، وربما بذلوا قصارى جهدهم لتجميل ملامحهم، فليس هناك من شك أنَّ مثل هؤلاء الشخوص البارزين يصدموننا بكونهم قبيحين جدا (وعلى الأرجح يعتقد أنهم كذلك في حياتهم الخاصة) لكن قوتهم هي التي أعطتهم هذه الكاريزما وهذا السحر، لذا رأتهم رعيتهم بعيون عاشقة)، إذن فكلا المفهومين خاضعين لسياقات ومعايير سسيوثقافية وتاريخية، يمكن أن تفرض علينا تصوراتها وأحكامها.

مر مفهوم القبح بعدة تحولات وأعيد تشكيله عبر عصور مختلفة، منذ العصور الكلاسيكية إلى الزمن الحاضر، حيث ينقل أمبرتو إيكو عن الكاتبة الإيطالية باتريسيا بيتيلا (Patrizia Bettella) في كتابها (المرأة القبيحة The Ugly Woman) تحديدها لـ( ثلاث مراحل لتطور ثيمة المرأة القبيحة، ففي العصور الوسطى كان هناك العديد من البورتريهات للمرأة المسنة، التي ترمز للانحلال الجسدي والأخلاقي، بالمقابل مع الثناء الكنسي على الشباب كرمز للجمال والنقاء، أما في عصر النهضة فأصبح قبح المرأة موضوعا للتندر، ينطوي على ثناء ساخر لنماذج لا تتوافق مع المعايير الجمالية السائدة، بيد إننا وصلنا أخير وفي عصر الباروك إلى إعادة تقييم إيجابية لعيوب المرأة بوصفها عناصر جذب)، وهذا التحديد يجعلنا نلاحظ المنظور المتغير للقبح، تبعا لتغير الحساسية الجمالية، والسياق الثقافي والتاريخي، والذي يؤثر في تشكيل أفكارنا عن هذا المفهوم وتصورنا عنه، إذ (لا يمكننا إلا أن نفترض أن اذواق الناس العاديين، بطريقة أو بأخرى، تنسجم مع أذواق فناني عصرهم، إذ لو دخل أحد الزوار الفضائيين إلى معرض الفن الحديث، ورأى وجوه النساء التي رسمها بيكاسو، وسمع المتفرجين يصفوهن بـ (الجمال)، فربما سيأخذ فكرة خاطئة بأن رجال عصرنا وفي الحياة اليومية يجدون ان المخلوقات الانثوية بالوجوه التي يرسمها بيكاسو جميلة ومرغوبة)، لذلك فإن هذا المنظور المتغير مرتبط بالزمان والمكان، والسياقات الثقافية المهيمنة والتي تشكل الوعي وتتحكم بالأدراك الجمالي لمفهومي الجمال والقبح.

يمكن لنا أن نعد كتاب أمبرتو إيكو (عن القبح On Ugliness) بوصفه تحريضا فكريا على كسر الحدود التقليدية للأحكام الجمالية المسبقة والقارة، وإعادة اكتشاف ما لا ينسجم مع تصوراتنا ومفاهيمنا، فالأدراك الجمالي للإنسان يجب أن يتعامل مع الجمال والقبح على حد سواء، إذ يقول إيكو (القول بأن الجمال والقبح نسبيان، بالنسبة لأزمان وثقافات مختلفة (وحتى لكواكب مختلفة) لا يعني أنَّ اولئك الناس لا يحاولون دائماً رؤيتهما وباحترام وفق نموذج ثابت)، إذ يكشف إيكو في كتابه هذا عن مدى تحيزنا في التعامل مع هذه المفاهيم، المرتبطة بالجمال والقبح، بسبب هيمنة الأحكام الجمالية القبلية المبنية على صورة مثالية خاصة، والتي تدعونا إلى وجوب مجابهتها بتفكير نقدي وفهم شمولي.

***

أمجد نجم الزيدي

في المثقف اليوم