اخترنا لكم

محمد البشاري: التصوف بين الروح والعقل.. دروس من تراث الأولياء

في عالم يزداد تعقيداً، حيث تتزاحم النزعات المادية مع التوجهات العقلانية الجافة، يصبح البحث عن بوصلة روحية أمراً لا مفر منه. لا يُطلب من الإنسان أن يعيش في عزلة زاهداً، ولا أن يغرق في واقع لا روح فيه، بل يحتاج إلى منهج يجمع بين التزكية القلبية والانضباط الشرعي، بين العمل الدنيوي والتجربة الروحية.
ومن هنا يأتي التصوف، لا كملاذ هروب من الواقع، بل كمدرسة تسعى إلى تهذيب النفس، وتهذيب الفكر، وإعادة توجيه الإنسان نحو ذاته الحقيقية. لم يكن التصوف في أبهى تجلياته إلا طريقاً للصفاء والتوازن، كما جسّده كبار الأولياء الذين لم يغرقوا في التأملات المجردة، بل كانوا مصلحين، وعلماء، ومرشدين للمجتمع.
عندما نتحدث عن التصوف المنضبط، لا بد أن نبدأ بذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني، الذي مثّل نموذجاً فريداً في الجمع بين العلم والعمل، الزهد والمجاهدة، التربية والإصلاح. لم يكن الرجل مجرد شيخ طريقة، بل كان عالماً فقيهاً، خطيباً مفوهاً، يواجه الغلو والانحراف بالقرآن والسنة. في بغداد، لم يكن مجلسه مجرد ملتقى للذكر، بل كان مدرسة لإحياء القلوب، وتنقية العقول، وتطهير السلوك. كان يؤكد دوماً أن التصوف ليس تحلّلاً من الشرع، بل امتثال أعمق له، ينطلق من ظاهر الشريعة إلى باطن الحقيقة.
كان يحذر من التصوف الذي يُقصي العقلَ أو يبرر الجهل، وكان يرى أن التصوف الحق هو ذلك الذي يقيم ميزان القلب والعقل معاً. في المغرب، على ربى جبال الريف، عاش الشيخ عبد السلام بن مشيش، الرجل الذي ترك أثراً عميقاً رغم قلة ما نُقل عنه. كان صوفياً متجذراً في القرآن والسنة، منفتحاً على العالم دون أن يتخلى عن يقينه. لم يكن زاهداً منعزلاً، بل كان مربياً ومرشداً، تتلمذ على يديه الإمام أبو الحسن الشاذلي، الذي سيحمل راية التصوف السني المتزن في العالم الإسلامي. كان ابن مشيش يرفض الإفراط في التأويلات الغامضة، ويرى أن أقرب الطرق إلى الله هو السير في نور الكتاب والسنة.
وبهذا التوجه، أسس لمنهج في التصوف يجعل التقوى أصلاً، والمعرفة سلاحاً، والوسطية طريقاً، دون أن يغرق في ظلام الجمود أو أن يتوه في فضاءات الغلو. أما في مصر، فقد كان الشيخ أحمد البدوي مثالاً آخر على هذا التصوف المنضبط الذي يجمع بين التأمل الروحي والانخراط في قضايا الأمة. لم يكن مجرد شيخ في زاوية منعزلة، بل كان رمزاً للمقاومة الروحية، وبناء الشخصية المسلمة القوية. لم تكن طريقته انسحاباً من الواقع، بل كانت مدرسة للتهذيب النفسي والاستقامة الأخلاقية. كانت حياته دليلاً على أن التصوف الحقيقي لا يعني السكون، بل هو حركة مستمرة نحو الله، وإصلاح دائم للنفس والمجتمع. لذا، ظل البدوي إماماً روحانياً، وقائداً أخلاقياً، ومنارةً للهداية في مصر وما حولها. ما يجمع هؤلاء الأولياء هو أنهم لم يجعلوا التصوف مجرد مشاعر وجدانية معزولة، بل حولوه إلى مسار متكامل يمزج بين المعرفة، والعمل، والإصلاح. كانوا يرون أن التصوف ليس بديلاً عن الفقه، بل هو عمقه الأخلاقي، وليس بديلاً عن العقل، بل هو تكميله الروحي. كانوا يعلمون أن المجتمع لا يصلح إذا طغى فيه التصوف المنحرف الذي ينفصل عن النصوص، ولا إذا غاب التصوف تماماً فصارت الروح فارغة من المعنى. ولذا، أصبح منهجهم مرجعاً لكل مَن يبحث عن إيمان عميق لا يلغي العقل، وروحانية صافية لا تنفصل عن الشريعة.
إن حاجة المجتمعات اليوم إلى التصوف المنضبط تتجاوز مجرد البحث عن السكينة الفردية، بل تمتد إلى إيجاد منظومة فكرية وروحية قادرة على مواجهة الأزمات. لقد أثبت التاريخ أن الأمم التي لا تمتلك بعداً روحياً متوازناً تسقط في أحد نقيضين: إما الجمود الذي يخنق الإبداع، أو الانحلال الذي يضيع الهوية. بين هذا وذاك، يظل التصوف الحقيقي صمام أمان يحقق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، بين الإيمان والعقل، بين الفرد والمجتمع. وكما فعل الجيلاني وابن مشيش والبدوي، يبقى التحدي اليوم هو أن نعيد إحياء هذه الروح الصaوفية بمنهج يجمع بين صفاء القلوب ووضوح العقول.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 19 مارس 2025 23:34

في المثقف اليوم