اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: من التّفكير إلى المفكّر

التفكير لغة تأمل وتدبر ونظر، والمفكر مَنْ جعل عادته التفكير، وجعل من القلم وسيلة لتقييد تأملاته وتدبّراته ونظره وتقليب أوجه النظر في المسائل بمفارقتها وإشكالياتها ومغابنها المعتمة. فأي تفكير لأي مفكر؟

لا يختص التفكير بفئة من النّاس، فالجميع يفكر، وكلما عظمت تجارب الإنسان واتسعت معرفته كلما دقّ تفكيره وأصاب المرمى. والحكيم ذو التّجربة يكون دوماً مطلوباً للاستشارة وتقديم أوجه الحلول عندما تتشابك الطّرق ولا تعرف وجهة المقصد، إنها حياة الحكماء عبر التاريخ في المدن القديمة والبوادي القاصية، وقد كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، نموذجاً حيّاً لهذا الضرب من الحكماء، وكانت حكمته الثرّة والغزيرة مهاد التفكير النّاضج في إمارات الخير.

ومن ثم فلا يخلو تجمع إنساني من شخص، أو أشخاص يفكرون له وبه ومعه. وقديماً اعتبر ابن رشد أن المدينة الإسلامية يجب ألا تخلو من فقيه مجتهد وفيلسوف، فيلسوف يقدّم للنّخبة من المدينة الأطر النظرية والعملية التي تشرف بهم نحو السّعادة المدنية، ومجتهد يقدم للجمهور الأطر العقدية والأحكام الفقهية، الظّاهرة والباطنة، التي تهديهم سعادتي الدّنيا والآخرة.

ولا يزال مجتمعنا الحديث بحاجة إلى هذه المثُل البشرية لما تتميز به من عمق فهم للحاضر واستشراف بصير للمستقبل. يمتاز عالمنا المعاصر بكثير من الغبش في الرؤيا، فالأفكار تتداخل فيه وتضطرب، والأحداث تتمازج فيه وتتموج، والخطوب فيه تدلهمّ وتتناسل، مما يجعل الحاجة إلى الفهم حاجة ضرورية وماسة من أجل فعل رشيد وقول سديد، وهل هناك أفضل من الفيلسوف والمفكر والفقيه المتنوّر المجتهد من أن يقدم المصباح المنير، لأن أهم خاصية تتميز بها هذه النّماذج الثلاثة هي «اتخاذ مسافة» من الأحداث كانت واقعية أو فكرية، إنها ليست مسافة مكانية مِلاكُها عزلةٌ وتعال، إنها مسافة اعتبارية كان فيثاغورس هو أول من قعّدها عندما شبّه الحياة بالألعاب الرياضية الأولمبية وجعل القاصدين إليها ثلاثة أصناف من البشر، صنفٌ للّعب والفوز، وصنفٌ للتّجارة والربح، وصنفٌ آخر يذهب فقط للمشاهدة والفهم، وهذا هو المفكر الفيلسوف، يَقصُر نظرَه على التّأمل ليجعل المبهم واضحاً، والغامض منكشفاً، في فضاء واسع هو فضاء الممكن.

إن المفكر هو زرقاء يمامة أمَّته، يُبشر ويُنذر، يُبدع ويُلهم، وهو صمّام أمنها من كل قبح ذميم ومن كل غلوّ مقيت. إنّ «غفوة العقل تنتج وحوشاً»، كما عنون الرسّام الإسباني «غويا» إحدى لوحاته، ولا تحصين فكري أنفع من تفكير سديد، ولا مناعة فكرية أجدى من مفكر يصدُق مدينتَه.

بالتفكير تتحرر النّفس من الأفكار الخاطئة، على مذهب ديكارت، وبفعل التفكير يرتبط المفكر بالحاضر حرصاً على فهمه والإمساك بدلالاته، ومن هنا يقوم العقل برحلة نحو عوالمه المجهولة انطلاقاً من عوالم له معلومة، ويتّخذ العقل من التأمّل والتدبّر والنّظر أجنحته في هذه الرحلة الممتعة، وهو بذلك وثيق الصلة بالفلسفة، أو ليست الفلسفة في عمقها سوى متعة تفكير، وبحث عما يجلب السّعادة، ما دام المفكر مهووس بما يمور في حاضره، وحريصاً على فهمه وسبر أغوار معناه من أجل «لذة عيش»؟

لا جرم أن للتّعليم دوراً كبيراً في التّوجيه إلى الفكر وتوليده في نفوس النّاشئة، لتحقيق مناعتهم الفكرية بتمكينهم من الأدوات التي يميزون بها الصواب من الخطأ، ولا يتم ذلك إلا بالتّرغيب فيه أولاً، وبتعليمهم المناقشة وفن القول، على مذهب سقراط، ثانياً. فإن يكون الإنسان إنساناً يعني أن يكون مفكراً، والتفكير والإرادة لا ينفصلان، وليس هناك من وسيلة لتقوية الصلة بينهما سوى التعليم الفلسفي النّاضج الهادف.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 14 نوفمبر 2025:20

في المثقف اليوم