قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية لِنص "مرآة" ونص "خارج الوقت"

للشاعرة التونسية آمال جبارة

تأتي قصيدتا «مرآة» و «خارج الوقت» للشاعرة التونسية آمال جبارة بوصفهما نصّين ينهضان على توتّرٍ داخلي بالغ الكثافة، يجمع بين الذاكرة بوصفها حمولةً وجودية، والزمن بوصفه سؤالاً مفتوحاً على المصير الإنساني. هذان النصّان لا يقدّمان تجربة فردية فحسب، بل يتيحان مجالاً واسعاً لقراءة هيرمينوطيقية وتأويلية تتجاوز البنية اللغوية إلى طبقاتٍ أعمق: الأنثروبولوجي، النفسي، الوطني، والميتافيزيقي.

فالمرآة في النص الأول ليست سطحاً عاكساً، بل بوابة عبورٍ إلى خزائن الذاكرة الجمعية، حيث يتحوّل «الوجه» إلى تاريخٍ يمشي داخل الذات. بينما الزمن في النص الثاني يتفكّك ويتعرّى من سلطته، فتعيش الشاعرة «خارج الوقت»، مكتفية بملء الفراغ بروحها، ومؤسِّسة خطاباً شعرياً يقلب علاقة الإنسان بالساعة، وبالوجود نفسه.

تبحث هذه الدراسة في الطبقات العميقة للنصين: مستويات اللغة، البنية الإيقاعية، الرموز الوجودية والوطنية، الأنساق المعرفية، البنى النفسية والدينية، إضافةً إلى التحليل السيميائي بمنهج غريماس لاستنباط منطق العلاقات بين الفاعلين داخل النص. كما تقارب الدراسة التجربتين من زاوية تاريخية-وطنية ونفسية-جمالية، مع إجراء مقارنة بين تجربة الذاكرة في «مرآة» وتجربة الزمن الخالي من السلطان في «خارج الوقت»، للكشف عن الهوية الشعرية المتخفية بين السطور، وعن نبض الذات وهي تواجه مراياها وغيابها في آن واحد.

1. مقدّمة منهجية سريعة:

نقْرأ النصَّين بوصفهما مجالات دلالية تَنشأ فيها «الهوية» عبر الذاكرة والغياب والزمن. المنهج الهرمينوطيقي يفكّ الشفرة النصية عبر دائرة الفهم–التأويل: المعنى ليس محجوزاً للنص وحده أو للقارئ وحده، بل ثمرُ مدَوَّرتهما. سنحوّل النصَّين إلى «أعمالٍ قادرة على الاستدعاء» لنسبر ما تحت الجلد الشعري: نبضات فقد، خطاب ديني/ وجودي، ومشروعية وطنية/ أسرية.

2. القراءة الهرمينوطيقية-التأويلية:

بؤرة السؤال: لمَ لا تعكس المرآةُ الوجهَ، بل الذاكرة؟ هنا المرآة تتحوّل إلى «آلتِ استدعاء»؛ ليست مرآةَ مظهرٍ بل مرآةُ تاريخٍ.

١ - دورِ السرد/ الاستدعاء: كل صورة (الجد، الجدة، الأب، الأم) تعمل كـ«حالةِ ذاكرة» تُكسب الذات امتدادًا خارج الحاضر. المعنى يتكوّن بتداخل الزمان الشخصي (طفولة الأب، آخر نفس للجدة) والزمكانية الجماعية (قيمة الذاكرة كحاجز ضدّ الغياب).

٢- الدلالة الوجودية: النص يشكّك في الحدّ الفاصل بين الحضور والغياب؛ الذات هنا ليست كيانا مستقلا بل «مرآة ذاكرة»—نتيجة تأويل ريكويري عن الهوية بوصفها سرداً.

3. الدراسة الأسلوبية (لغة، إيقاع، صور):

١- اللغة: جُمَل قصيرة نسبياً، صور مركّزة (خيط من خيوط الفجر، تخلع أساورها). اقتصار العبارة يعطي مكثّفًا دلاليًّا ويقارب قواميس الشعر الحديث.

٢- الإيقاع: انقطاعي/ تأملي؛ فقراءات الإيقاع تظهر تباينًا بين لحظات سكون (النظر إلى المرآة) ولحظات حركة (يمشي وحيدًا). هذا التباين يولّد توترًا داخليًا—وهو ما يمنح النصّ نبرةً موسيقية قائمة على فجوات المعنى لا على الوزن التقليدي.

٣- الصور الشعرية: تستند إلى استعارات حسّية بسيطة لكنها عميقة: «خيط الفجر» (رقة بدايات الزمن)، «أساور تُخلع» (فعل التحرّر/ الخسارة)، «شجرة رمان» (ثمر/ استمرارية/ أنوثة). الصور تعمل كمفاصل دلالية تربط العائلة بالأرض والذاكرة.

٤- التكرار والامتناع: التكرار الدلالي لـ«لم أرني/ عندما نظرت إلى المرآة لم أرني» يُثبّت موضوع الفقد والاغتراب الذاتي. الامتناع عن تسمية مباشرة للزمن/ المكان يوسّع أفق التعميم.

4. دراسة سيميائية (منهج غريماس: المحاور والأدوار)

نطبّق نموذج الغريماس: نحدّد الفاعل/ المرسل/ المتلقي/ الهدف/ المساعد/ المعارض داخل النص.

١- المرآة (الظاهر): المرسل؟ أم المرآة كمرسل/ مُحَفِّز لاستدعاء الذاكرة.

٢- الذات/ الناظر (المتلقي/ المطلوب): المتلقي الذي يطلب معرفة النفس ويواجه عدم التطابق.

٣- الذاكرة العائلية (الموضوع/ الهدف): ما يُسعى إليه—فهم الذات عبر الذاكرة.

٤- الصور (الجدّ، الجدة، الأب، الأم) (الفاعلون/ المساعدون): يقومون بدور الوسيط، كل صورة تقدم جزءًا من «الكينونة» الموضوعية.

٥- الغياب/ النسيان (المعارِض): العدوّ الذي يسعى النص لأن يسدّه—المرآة تعكس ذاكرة تصدّ الغياب.

٦- بصيغ مبسطة: (المبادر/ الساعي): الذات/ الناظر (المرغوب): صورة ذات مكتملة/ معرفة الذات.

٧- (المرسل): المرآة/ الحدث المشغّل (المتلقي النهائي): القارئ والنفس.

٨-: ذاكرة الأجداد، شجرة الرمان (رمز الاستمرارية)، الأساور (رمز الانتماء/ الاعتزاز).

٩- الغياب، النسيان، المنزل المفقود.

هذا التوزيع يوضح أن النص ليس مجرد انعكاسٍ داخلي بل عملية سعي مستمرة نحو استرداد الذات من خلال شبكة علاقات زمانية-عائلية.

5. دروس سيميائية إضافية: العلامات والرموز

١- المرآة: ليست مجرد سطح؛ هي جهاز تشظّي الهوية/ أداة الهرمينوطيقا الذاتية. في اللغويات السيميائية تمثل مؤشرًا على «حضور-غياب»، آلة تفكيك للزمن.

٢- خيط الفجر: بداية، أمل رقيق؛ لُغة الزمن البدئي.

٣- أساور الجدة: علامات انتماء، طقوسية، والحركة في خلعها تشي بتحرر أو تهادن للموت. أيضاً رمز للجسد المؤنث والذاكرة المادية.

٤- معصم نابض: تهديد بالاستبدال—الغياب الذي يتحول إلى حياة (منعكسًا على استمرارية الأجيال).

٥- اقتلعنا النسيان من قلبه: فعل عنيف لتعطيل الانقطاع؛ استعادة الذاكرة بالعنف الإنساني.

٦- شجرة الرمان: تقليدًا رمز للخصب، الوطن، والأنثى؛ زرعها الأم فعل استثمار في المستقبل/ ظلّ للصبر—صورة وطنية-أنثوية.

٧- ذاكرة تصد الغياب: خاتمة مفصلية: الذاكرة كحاجز واقٍ ضدّ الفناء.

6. القراءة النفسية-التحليلية:

١- عوالم الحزن والافتقاد: النص محكوم بعقدة فقد تُظهرها صور الأجداد والأب الملاحق لطفولته. عملية النظر إلى المرآة تفصح عن عدم التعرف على الذات؛ هذا يشبه مفهوم جاك لاكان الذي يركز على أن اللاشعور يتشكل كبنية لغوية، وأن اللغة هي أساس اللاشعور. هذا المفهوم يعبر عن «مرحلة المرآة» . ١- المرآة تكشف الهوية المشتتة، ولكن هنا الناظر يرى ذوات الآخرين بدل صورته، كأن مرحلة الكينونة تُبنى عبر الآخرين.

٢- الفقد كقوةِ تعريف: الأب الذي «اقتلعنا النسيان من قلبه» يحمل علامة جرح يبدأ في الأخذ/ الاسترداد—حالة نفسية بين الانفعال والاستسلام.

٣- الأم كبديل للأرض: زرع شجرة الرمان كرمز لتحوّل الأرض إلى أمّ/ مكان تعزية—يمتد أنشطار الشخصية نحو الأرض كغرابة علاجية (Winnicott: المكان الانتقالي).

٤- اللاوعي الجمعي: الصور العائلية تعمل كـ«تمثلات» جماعية تحافظ على السرد الأسري، وفق رؤى يونغ عن اللاوعي الجمعي.

7. الدراسة الوطنية-التاريخية (قراءة تونسية/ شمال-مغاربية):

١- الرمزية الوطنية: رغم عدم ذكر حدث سياسي محدد، النص يتحرك في مجال الذاكرة الجماعية: البيت المفقود، شجرة الرمان، الأجداد والآباء—عناصر تشكّل سرداً وطنياً ضمنيّاً عن فقدان الأماكن/ الأمان، وهو ما يتوافق مع تجارب المجتمع العربي/ المغاربي في مآسي الذاكرة (حروب، نزوح، تغيير مدني).

٢- شجرة الرمان: رمز شائع في الذاكرة المغاربية (الخصب، الهوية، الاستمرارية)، وقد تُقرأ كدلالة على الوطن الذي تُغرس فيه الأجيال.

٣- الغياب كختم للتاريخ: «منزل لم يعد موجوداً» يعكس تلاشي الأماكن/ الذاكرة المكانية بفعل التاريخ (هجرة، تدمير، تحديث قسري). هنا يمكن استحضار أفكار فرينان وبانوفيسكي عن الذاكرة التاريخية والرموز الوطنية.

٤- قراءة ثورية/ شهداء: إذا ربطنا النص بسياق ثوري (تونس/ الجزائر)، يصبح النسيان والغياب استدعاءً للشهداء والذاكرة الجماعية؛ المرآة تستدعي الأجداد كإحياء للذاكرة الوطنية.

8. التطابق مع آراء فلاسفة/ نظريات نقدية:

١- هايدغر (الوجود والزمن): نصّ «مرآة» يقرأ الوجود كديمومة عبر الزمن؛ الذات تُعرّف عبر تاريخها—وهي فكرة هايدغرية عن الانفتاح نحو الماضي والوجود-في-الزمن.

٢- جادامر/ ريكور (الهرمينوطيقا): دائرة الفهم والتأويل ظاهرة في النصّ: المعنى يتكوّن بتفاعل الذات مع المرآة/ التقاليد.

٣- لاكان (مرآة المرحلة): غياب الوجه مقابل ظهور الآخرين في المرآة يوافق فكرة الانكسار المرآتي والهوية المبنية عبر الآخر.

٤- أوغستين/ بودريار (الذاكرة والرمزية): البعد التشكيلي للذاكرة والرموز—المرآة كتمثيل للذاكرة التي تقلّب الحضور والغياب.

٥- فرانز فانون (الوعي الوطني/ الهوية): قراءة النص وطنياً تستفيد من فكر فانون حول الصدمة التاريخية وبناء الوعي الجماعي بعد العنف الاستعماري.

9. تفسير بعض المفردات الجوهرية:

١- المرآة: أداة استدعاء، صراع الهوية، واجهة زمنية (حاضر/ ماضٍ).

٢- خيط الفجر: بداية زمنية هشة؛ أمل رقيق.

٣- أساور: تملّك/ انتماء/ تقليد أنثوي؛ خلعها فعل فصل روحي من الجسد.

٤- معصم نابض: تهديد بالعودة للحياة/ محاكاة للذاكرة الحيّة—أو رغبة في تحويل الغياب إلى حضور جسدي.

٥- اقتلعنا النسيان: فعل عنيف ينزع الحالة السلبية (نسيان) بالقوة، أي استعادة الإرادة التاريخية.

٦- شجرة رمان: إناء خصوبة/ تاريخ/ استمرارية؛ زرعها فعل مقاوم للحضور.

10. مقارنة بين «مرآة» و«خارج الوقت» (أربعة مستويات)

أ. المستوى الانفعالي:

مرآة: حزن عائلي نسبيًا—حنين قابل للعودة من خلال الذاكرة.

خارج الوقت: انفعال أكثر شطحًا/ روحانيًا؛ الامتلاء بالفراغ يخلق طاقة عطوفة على الآخرين (توزيع الاسم على البؤساء).

ب. المستوى التخييلي-الصور:

مرآة: صور نسبية، عائلية، حسية ومكانية (منزل، معصم، شجرة).

خارج الوقت: صور زمنية مجردة (الفراغ، الدقائق، الساعة) وصور سلوكية (توزيع الاسم، توقيت الساعة كرمز للحرية).

ج. المستوى العضوي (الجسم/ الروح):

مرآة: الجسد حاضر بشكل متقطع (معصم، أساور)، الجسد يعكس تاريخ العائلة.

خارج الوقت: الجسد يتراجع لصالح حضور روحي/ زمني؛ «أعيش خارج الوقت» إعلان عن انفصال الجسم عن زمن السوق/ العمل.

د. المستوى اللغوي:

مرآة: لغة تصويرية مكثفة، تكرار نغمي («لم أرني»).

خارج الوقت: لغة تأملية تجري في فضاء المفاهيم، فيها تكرار فعّال («لا أنظر إلى الساعة أبداً»).

خلاصة المقارنة: كلا النصّين يسعيان إلى تحرير الذات من محاولات الزمن/ النسيان لاحتواء الهوية. «مرآة» تفعل ذلك عبر الذاكرة العائلية الملموسة، بينما «خارج الوقت» تختار الفراغ كموقع تحرّر وإعادة توزيع الاسم/ الذات.

11. ما تحت الجلد: نبض، توتر، رمز

النبض: نزعة مقاومة للغياب—الذاكرة كنبض مضادّ للفناء.

التوتر: بين الحاضر المفقود والذاكرة المستدعاة؛ بين الفرد والأسرة/ الوطن.

الرمز المركزي: المرآة كقلب النص: ليست انعكاساً بصرياً بل استدعاء ذاتيّ يُعيد ترتيب علاقة الفرد بماضيه وبأرضه.

12. مسارات بحثية وتوسعات:

1. تتبع التمثلات المكانية (البيت، الشجرة، المنزل المفقود) في ديوان الشاعرة آمال جبارة لتوضيح البنية الوجودية للمكان.

2. مقارنة بين نصوص مغاربية تفترض غياب الزمن والذاكرة كموضوع مركزي (تونس، الجزائر، المغرب).

3. تحليل سيميائي معمّق وفق جداول غريماس التفصيلية لإظهار تحوّلات الفاعل/ المفعول عبر النصوص المتعددة.

4. مراجعة نفسية باستخدام لاكان ويونغ على مستوى تفكيك صورة المرآة والرموز الأنثوية.

5. مقابلة مع الشاعرة آمال جبارة

من خلال قراءة ديوانها ونصوص أخرى تمكنت من استجلاء نية النصّ وعلاقة السيرة الذاتية بالرمز.

13. خاتمة:

«مرآة» و«خارج الوقت» نصّان يشتغلان على أزمة الهوية في زمن التفكّك: الأول عبر العائلة والذاكرة المادية، والثاني عبر الفراغ الزمني كمساحة تحرّر. المنهج الهيرمينوطيقي يكشف أن المعنى يتكوّن في اللقاء بين القارئ والنص، وأن الرموز (المرآة، الشجرة، الساعة) تعمل كجسور بين الفرد والجماعة، بين الحزن والمقاومة. قراءة سيميائية بغريماس تثبت أن النصوص ليست محادثات ذاتية فحسب، بل آليات استعادية تعمل على استرداد الذات من التاريخ والغياب.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

الشاعرة التونسية آمال جبارة

خارج الوقت

لا أنظر إلى الساعة أبدا

أعيش خارج الوقت

وأعرف أن الفراغ ممتلئ بي

لا شأن لي بدقة الدقائق

ولا بسعي الساعات الدؤوب

ولا يعنيني أمسي الذي هو حاضرك.

ولا غدي الذي هو أمسك

يعنيني الفراغ الذي يجر أناملي

نحو عزف...

اعرف أنه يملأ مكانا ما في هذا العالم

لا أنظر إلى الساعة أبدا .

أعيش خارج الوقت

أوزع اسمي على البؤساء

يتقاسمونه على حافة المطلق

وأمضي خفيفة في تمام التاسعة ليلا وتسع دقائق

بتوقيت ساعة رجلي المشاءة دائما في الفراغ

نص قصيدة مرآة:

نظرت إلى المرآة و لم أرني

رأيت جدي يتوكأ على خيط من خيوط الفجر الأولى

يوم قلبي

ويبتسم إلى الله

رأيت جدتي في آخر نفس لها تخلع أساورها من يدها .

تحاول أن تخبئها

خوفا من أن يحيلها الغياب إلى معصم نابض

لم أر وجهي

رأيت أبي وقد اقتلعنا النسيان من قلبه كما تقتلع الورود

يمشي وحيدا في يوم قائظ

باتجاه منزل لم يعد موجودا

كان يلاحق طفولته البعيدة جدا ولا يصل

رأيت أمي تغرس شجرة رمان

وتمكث بجانبها منتظرة أن تكبر وتمنحها ظلاً يليق بصبرها

عندما نظرت إلى المرآة لم أرني

رأيت ذاكرة تصد الغياب

 

في المثقف اليوم