قراءات نقدية

نورالدين حنيف: التشاكل الصوتي.. نسق النون نموذجا

في ديوان (قطاف خارج الموسم) للشاعرة المغربية زهراء الأزهر

تمهيد: لا نعتبر ديوان (قطاف خارج الموسم)* للشاعرة المغربية (زهراء الأزهر) إضمامةً من القصائد الهاربة من أتون الوجدان إلى آفاق التوثيق والنشر والسياحة الثقافية، بقدر ما نعتبره مشروعا فنياً تقترف فيه الشاعرة أعلاهُ فنّ الجمال داخل منظومة إبداعية تعجّ بالإشكالية، هي منظومةُ قصيدةِ النثر. تقترف الشاعرةُ هذا الفنّ برؤية خاصّة تتدرج عبر ثلاثيتها الإبداعية في إصداراتها: (رعشةُ يراع - في ظل كلماتك فقط - قطاف خارج الموسم.) والبقية تأتي.

و هذا التدرج لا يراكم الدواوين في خزانة الشاعرة من أجل تحقيق كمٍّ نرجسي في رفوف المكتبة المغربية الكبيرة بقدر ما ينبني في مفكّرتها كسيرورة دينامية وكصيرورة متحوّلة. الأولى تفيد الحركية في بوصلة الشاعرة الملتطقة باستمرار إمكاناتِ الإدهاش الإبداعي، كي تبعد مشروعها الفني عن آفة السكون والستاتيكية. والثانية تفيد الرغبة العارمة في التحول داخل الحساسية الشعرية الفردية والجمعية في نفس الآن، والتي تراقبها الشاعرة كوليد تخشى عليه من الشبه والتكرار، وذلك  في أفق واعد تصنع فيه الشاعرة قدر إدهاشها الممكن واللاممكن.

قد قلنا الممكن إشارة إلى إمكان القبض على الشاعرة (زز) داخل كماشات القراء ثم النقاد. وقلنا اللاممكن إشارة إلى شِعرها الآخر والقابع في سيمياء التأويل حيث يصبح المتلقي جزءاً من هذا المشروع وهو يُغْني النواة \ الأصل بمزيد من الإنتاج الأدبي في سياق (القطاف) عبر رؤىً غيرية متعددة.

المقاربة:

أ – قراءة في الإهداء:

كتبت الشاعرة (ز ز) في مطلع ديوانها ما يلي:

(كلمة لابد منها: إني حرمت الصمت على نفسي وجعلته بين أسطري محرّما) * - الديوان ص 3.

ترفض الشاعرة مقولة الصمت وتشجبها وتدينها على اعتبار الصمت حالةَ ظلم أكثر منه حالة موقف. وهي ترسل هذا البيان في إهدائها على ناصية الديوان إعلاناً واضحا ترغب فيه عن التسمية الرتيبة (إهداء) وتحوله إلى (كلمة لابدّ منها). وكأن الأمر يتعلق بحالة نفسية مضغوطة لا تجد الشاعرة بدّاً من إخراجا والصدح بها.

وفي هذه الكلمة الهامسة تناصٌّ مع الحديث القدسي " يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا... "1.

والشاعرة لا تقدم بهذا التدبيج ديواناً صامتا ً ومغلقا على ذاته. بل هي تقدم نقيض الصمت الذي نعتبرُه في هذا السياق تاريخا من الاختفاء والتواري خلف شتّى أنواع السلطة الضاغطة على صوت الأنثى عبر التاريخ. من هنا جاءت فكرة تحرير الأسطر الدالة مجازياً في جزئيتها على الكل، أي على الشعر. في أفق الإرهاص عبر ناصية الإهداء للخروج من حالة الخوف والسكون والظل إلى حالات الأمان والحركية والحضور والفعل، وذلك عبر ناصية الإهداء.

وفي عمق التأويل نقول: إن الشاعرة في هذا التناص مارستْ مكرا مشروعاً إذ امتطت صهوةَ الكينونة المتسامقة في شخص الذاتِ باعتبارها كائناً متعالياً ومتحكماً في نواصي إبداعه. وهذه صورة مستفزّة للتراث في شخص الفرزدق الذي كان يركن تحت سلطان أسطره، وكان يجد صعوبة في النظم إلى درجة أن خلع ضرس من أضراسه أهون عليه من قول بيت واحد. وهذا التعالي مشروعٌ أيضا ونلمسه في قناعة الشاعرة بامتلاكها لقرارت أسطرها، أو على الأقل هي تمنع هذه الأسطر أن تركن إلى الصمت، بله وأكبر من ذلك، فهي تحرّم على أسطرها ذلكم الصمت. إن من يمارس هذه القدرة على التوجيه لحروفه لا يمكن أن يكون متواجداً في صفوف حروفه، هو أكبر من حروفه وإلّا لما أمكنه أن يصدر قراره بالمنع وبالتحريم.

ب – مفهوم التشاكل:

لابد من الإشارة أولا إلى أن مفهوم التشاكل هنا هو مفهوم إجرائيٌّ قبل أن يكون شرطاً منهجيا. التشاكل مفهوم سيميائي غربي التنظير، ولو أن العرب تحدّثوا عنه في مضان اشتغالهم النقدي القديم. وهو اصطلاح يقوم في الأصل على جذر يوناني من كلمتين 

isos  -  وتعني متشابه ومتماثل

topos  -  بمعنى المكان

و قد استعمله  الناقد والباحث الفرنسي " غريماس " في مجال السرد مقترضا إياه من حقل العلوم الفيزيائية والكيميائية2. وهو أول من أدرج مفهوم التشاكل ضمن التحليل السيميائي للسرد، وبعد ذلك أصبح هذا المفهوم الإجرائي مرتكزا جوهريا في الكتابات النقدية تنظيرا وتظهيرا.

و يراه "غريماس" مجموعة متراكمة من المقومات والمقولات المعنوية التي تجعل قراءة الحكاية قراءة متشاكلة أي منسجمة3.

و يراه "راستي" تكراراً لوحدة لغوية مهما كانت. وإذا كان غريماس قد حصر التشاكل في المضمون فإن راستيي وسّع في دائرة المفهوم ليسري التشاكل على المضمون والشكل معا.

و يراه "محمد كمفتاح" تنميةً لنواة معنوية سلبا أو إيجاباً بإركامٍ قسري أو اختياري لعناصر صوتية ومعجمية وتركيبية ومعنوية وتداولية ضماناً لانسجام الرسالة4.

والخلاصة أن التشاكل يتعلق بوجود خصائص ومقومات دلالية وسيميائية مشتركة تجعل النص متسقاً ومنسجما ومفهوما على مستوى المعنى. أي أن هناك قواسمَ مشتركةً ومختلفةً تجعل نصا مفهوما ومنسجما قابلا لقراءته وتحليله. من هنا حديثنا عن التشاكل بالتمتثل والتشاكل بالاختلاف والتباين. هناك نص آخر يعتمد على اللاتشاكل باعتباره بنية مفككة قائمة على الاختلاف.

التشاكل في عمق المفهوم استمرارٌ لقاعدة سُلّمية للمقومات السياقية التي تمكّن من تحقيق تغيرات على مستوى التمظهر في اتجاه بنائي ظاهره هدم للتشاكل وباطنه بناء وتأكيد له.

و لنستوعب ذلك نأخذ مثالا استئناسياً من ديوان الشاعرة (زز). قالت في قصيدة (أنا والبحر) ص 107:

وها أنا قد أتيتُ إليك

تشدّ أذني عتبات ندائك

...

ثم قالت في نفس السياق:

جئتُ حيث أنت

جئتَني حيث أقفُ برذاذ مائك – الديوان، ص 107

وغرضنا هنا ينصبّ على تغيّر الوحَدَتَيْن اللسْنِيتيْن (أتيت وجئت)

و يعني ذلك أن التشاكل من زاوية أجرأته كأداة تحليلية يمكننا من ضبط استبدال المفردات والمقولات معجميا وسياقيا داخل النص أو داخل الخطاب، والتي باختلاف سماتها المتماثلة أو المتباينة تسهم في توليد الدلالة وتشكيل معاني النص، وتسعف الباحث كذلك في تصيّد الدلالات التي يحوم حولها النص.

هذه العملية ولو أنها تبدو دقيقة في اشتراطاتها المنهجية القائمة على استثمار البعد اللغوي في تداوليته، إلا أنها تمكّن القارئ أو المتلقي من ضبط ما يلي:

- البحث عن الانسجام الخطابي

- صحة المقروئية

- خلق وحدة النص الممكنة

أولاً: التشاكل الصوتي

في البدء، وجب الاحتراز من الانزلاق وراء تأويل الأصوات العربية وتأويل تكرارها في إطار ما يسمى برمزية الأصوات. ونعني بالرمزية الصوتية العلاقة بين الصوت والمعنى، وهي قضية لغوية قديمة أسالت حبراً كثيرا: فهناك من يقرّ بوجود علاقة بين الصوت ودلالته عليه وهناك من ينكر هذه العلاقة. ومع ذلك نحتفظ بالرأي المعتدل الذي يعترف للأصوات بقيمتها التعبيرية المشروطة بما يمليه سياق الحال والمقال. فكلنا نحفظ قوله تعالى (لقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) 5*. كما نحفظ قول الشاعر المتنبي:

فَقَلقَلتُ بِالهَمِّ الَّذي قَلقَلَ الحَشا    \\\   قَلاقِلَ عيسٍ كُلُّهُنَّ قَلاقِلُ6.

ندرك في المثالين وبوضوح تكرار صوت القاف في سياقين مختلفين: الأول يرتبط بغضب الله عز وجلّ، والثاني يتعلق بحزن الشاعر. وفي كلا المثالين تبدو الدلالات قويةً من خلال تكرار وحدة صوتية معيّنة. ولا نظن مختلفا واحدا يعترض هنا على العلاقة بين الصوت ورمزيته التعبيرية.

و في سياق تحليلنا للإجراء السيميائي الموسوم بالتشاكل ركزنا على الصوتي منه فقط نظرا لتراكمه الواضح في الديوان. وبدأنا بعملية إحصاء لبنيات حروف الرويّ وهو الحرف الذي تنبني عليه القصيدة، وبه تسمّى وإليه تُنسب. كأن  نقول لامية الشنفرى وسينية البحتري وهكذا دواليك.

أحصينا الديوان في إحدى وسبعين قصيدة خضعت أو أخضعتها الشاعرة لبنية تشاكلية صوتية مدهشة كالتالي.

الروي حجم التردد

روي النون 11 قصيدة

الراي 8

الهاء 8

القاف 6

اللام 4 

الباء 4

السين 3

العين 3

الكاف 3

الطاء1

الياء 1

وما تبقى من القصائد مثّل تشاكلا في سياق صوتي آخر لم تلتزم فيه الشاعرة بوحدة الروي وإنما تركت ذائقتها تنسج المخيال في نسق صوتي تشاكلي يعتمد على تعدد الأروية. ونمثل لذلك بقصيدة (أخلصت وما أحببت) فقد تناوب في دفقتها الموسيقية الأخيرة كل من روي القاف والدال والنون. وقصيدة (كلمات مروية) وفيها احتشم روي النون نسبيا في إلحاحٍ محتشمٍ بحضورٍ لم يتجاوز ثلاثة تردّدات. ثم لاحظنا في هذا المبحث ملاحظتين:

الأولى: اعتمدت الشاعرة على الروي الساكن في أغلب قصائدها، ونشزَ من ذلك عشر قصائد جاءت أرويتها متحركة أو مشبعة. والعدد 10 من 71 قصيدة يعدّ نشازا ولا يبني قاعدة. وتأكدنا من حضور هذا السكون المهيمن بالتأويل الإعرابي ومن مواقع المفردات داخل التركيب النحوي.

والسؤال هنا هو: لِمَ اختارت الشاعرة الرهان على ظاهرة السكون في الروي؟ ولمَ اختارت أن تكون الدفقة الموسيقية الأخيرة من كل سطر شعري ثانٍ ساكنة؟ إما بحرف رويّ وإما باقترانه بهاء السكت. أترك السؤال مفتوحا للإجابة عنه في غضون القادم من المقاربة.

الثانية: داخل هذه الهيمنة لوحدة الروي وحضور النشاز المكسر لهذه الوحدة يتبدى لنا اختيار الشاعرة التي تريد أن تجتهد في قصيدة النثر على مستوى الموسيقى أو الإيقاع، وعياً منها بأن قصيدة النثر بؤرة فنية لاستقبال كثير من الأسئلة الطارحة ذاتها باستمرار مادامت الرؤية النقدية العربية لم تتفق بعد على برّ ترسو فيه سفن البحث في إشكالية التجنيس.

و لقد اخترنا النسق الصوتي لحرف النون نظرا لتوفر شرط التراكم. وهو الشرط الأساس الذي يبني عليه كلٌّ من غريماس ومحمد مفتاح مفهوم التشاكل.  ثم أردفنا الإحصاء الأول إلى إحصاء آخر خرجنا فيه ومنه بالتشاكلات النونية التالية:

القصيدة النون صوتاً  ذاتيا النون تنويناً الروي

ظلت وتظل  37 مرة 6 مرات نون ساكنة

مرآة الروح  34 مرة 10 مرات نون + هاء السكت

قصيدتي السنوية 33 9 نون ساكنة

أخيّتاه 35 14 نون ساكنة

شمس النهار 14 4 نون مشبعة

تهاليل  25 6 نون ساكنة

على جناح فراشة 35 16 نون ساكنة

الرهان 32 9 نون ساكنة

أشواق 23 4 نون ساكنة

سمراء 26 14 نون ساكنة

أخلصت 30 9 نون مشبعة

و قد اعتمدنا الحرف مدخلا سيميائيا لقراءة ظاهرة التشاكل الصوتي في هذا الديوان، لا من باب البذخ القرائي أو من باب الترف الثقافي، ولكن لأن الكلمة هي الوحدة المعجمية المكونة للغة، والكلمة مادتُها الأساسية هي الوحدات الصوتية المتفاعلة لتشكيل كيان اللغة المنطوقة. إن الصوت يمثل المظهر الأول للحدث اللغوي ثم الحدث الشعري إذا ما قفز المبدع من البداهة إلى الخيال.

لكن العلاقة بين الصوت والمعنى ثم بين الصوت والدلالة علاقة شائكة ومعقدة ولا ينبغي لنا أن نقول إن صوت الصاد مثلا في القصيدة الفلانية يدل على القوة، وأن صوت الميم في أخرى يدل على الحزن، إلا إذا اشترطنا منهجية التراكم المشفوعة بالقراائن اللفظية والحالية. وفي سياق الديوان (قطاف خارج الموسم) وجدنا حرف النون صوتاً مهيمناً على مستوى:

- الحضور كوجود فونيمي ذاتي باعتباره وحدة صوتية متميزة عن غيرها

- الحضور كصوت ناتج عن التنوين

- الحضور في كل القصائد بتراكم اختياري أو لا اختياري

- الحضور كصوت مميّز في الصواتة العربية لدعم المعنى والدلالة

و الذي لا يختلف فيه الدارسون المتخصصون في الأصوات هو أن حرف النون صوت مختلف عن الاصوات العربية الأخرى، نظرا لميزته الإيحائية التعبيرية على مستوى الدلالة؟

و النون هو الحرف الخامس والعشرون في الترتيب الهجائي، والرابع عشر في ترتيب الأبجدية العربية. قال فيه ابن جنّي (النون حرف مجهورٌ أغنّ، يكون أصلا وبدلا وزائدا ) 7 *

ننتقل الآن إلى رصد ملامح التشاكل الصوتي لنسق النون في بعض القصائد، تمثيلا لا حصرا، وتأكيدا لهيمنة هذا النسق داخل رؤية الشاعرة الفنية والوجودية.

* المثال الأول: قصيدة (ظلت وتظل)

التوحيد بين أقنومي الوجود:

هيمن حضور نسق النون فيما يربو على 43 تردداً، يحكي في مقام القصيدة قفزا شعريا على مقولة التوتّر بين الرجل والمرأة إلى مرتبة تؤمن فيها الشاعرة بمقولة الوصل.

قالت: (مدّ لي جسراً إليك – الديوان، ص 30)

كما أن صياغة حرف النون داخل القصيدة يخدم هذا التخريجة عبر إضافة النون إلى مفردات الأمان والحنين ورماد السنين وموقع اليمين... وهذا الحضور الكمي يتجاوز الوظيفة التعبيرية كقيمة صوتية معزولة إلى قيمة دلالية تشي برغبة الذات المتكلمة في الهدم والبناء: هدم ميراث التوتر بين الرجل والمرأة وبناء علاقة جديدة تقوم على التكامل بدل التنافر، والتقارب بدل المسافة.

هكذا تسيرقصيدة (ظلّتْ وتظلّ) ويسير معها الديوانُ في اتجاه بناء عالمٍ  جمالي تقوم فيه الدلالة على على تنغيم أقنومي الوجود وتوحيدهما. وفيها تقفز الشاعرة برؤيتها الشعرية المختلفة على مقولة التوتّر بين الرجل والمرأة. وهي المقولة التي قهرها الشعراء طبخاً إما من زاوية الموضوع الضاغط، وإما من زاوية الموضة في التناول من أجل ارتداء عباءة الاختلاف. وأما شاعرتنا فاختارت التناغم بين الطرفين، لا ضعفاً ولا استجداءً للساحة الذكورية، وإنما قناعة فلسفية تعترف بوحدة الكينونة لا بتفرّقها وشتاتها وتنافرها.

*المثال الثاني: قصيدة (مرآة الروح)

يثيرنا في هذا النسق ذلكم التشاكل التركيبي بين النداء والاستفهام الاستنكاري  والأمر الخارج عن معناه البلاغي إلى دلالة الالتماس داخل نسق النون، الذي تردد 43 مرة.

 قالت الشاعرة:

أيها المريدون ماذا تريدون؟

أنصتوا لنبضةٍ عارمةٍ مرنة.- الديوان، ص 40

يخيّم على المقطع الصغير صوت النون وهو يتردد ستّ مرات، بين نسق صوتيٍّ ذاتيٍّ (ثلاث مرات) ونسق التنوين (ثلاث مرات). مما يشي بحضوره القويّ داخل تركيب لا يتجاوز ثمانِ مفرادت. أفعمتْها الشاعرة بهالة النون المعبّرة والذاهبة فنيّاً مذاهِبَ الإدهاش في التلقي الجمالي. وبين إرادةِ المخاطب المبنية داخل سيمياء الشك وبين يقينِ النبض العارم والمرن، تتأتّى للقارئِ إمكاناتُ تأويل الكلامِ في عدّةِ اتّجاهات، منها مساءلة المخاطب الغافل عن حقيقة الأشياء المعزولة في وهمه عن إمكان النبض الماثِلِ في ذهن الشاعرة باعتباره أساساً في الوجود... النبضُ هو الوجود.

*المثال الثالث: قصيدة (قصيدتي السنويّة)

تردد فيها نسق النون الصوتي 42 مرة.

و الأمثلة هنا وافرة نذكر منها قول الشاعرة:

يا موسم القحط أدبِرْ

دعنا نعانق الحنين

فقوافلنا ظمأى

افتح بابً للمتعبين

...

فجسد المدينة متعب

و وجهها شاحبٌ حزين – الديوان، ص 52

النون حاضرة وبانية لنسق الدلالة الداعية إلى الوصل بدل القطيعة. سواء تعلق الأمر بالإنسان (المتعبون) أو تعلق الأمر بالمكان (المدينة)...

 *المثال الرابع: قصيدة ( أُخيّتاه)

 وفيها حضر صوت النون بمعدل 49 مرة، وهو رقم مثيرٌ وفاتح لأكثر من سؤال خاصة إذا علمنا أن القصيدة لا تتجاوز 22 سطرا شعريا. بمعنى أنها قصيدة مركزة يبدو فيها النون مخيِّما على الترددات الصوتية للقول الشعري. ومما زاد في قوة دلالاتها النونية أن الموضوعة فيها تُقارِب رثاءً عامرا بالحزن.

النون هنا قالب صوتي استطاع باقتدارٍ شعريٍّ أن يحتضن حالة الفقد وحالة الصبر:

قد يجفّ الدمع من عيني وليس

يخفّ لواعج القلب الحزين

يا صاحبة القلب الحنون فداك نفسي

فدمعي يسيل بجرح سخين

و حسبنا من هذا الفيضِ غيضٌ من التمثيل والاستشها. وما على الراغب في معاينة هيمنة هذا النسق إلا قراءة الديوان واستخلاص معانيه في هذا الاتجاه الذي لا أظنه عبورا أبدعته الصدفة، بقدر ما هو حضورٌ أبدعته ذائقة شاعرة تمكر بالكلمة مكراً جميلا وتبعث فيها من روحها أشكال النغم الناطق بشتى الدلالات.

خاتمة:

مارستِ الشاعرة رؤيتها الفنية في بناءٍ شعريّ متكامل وأتحفتْنا بعمل متناغم هو الديوان (قطاف خارج الموسم). دبّجتْ فيه موقفها الفني من الوجود ومن عناصر هذا الوجود، ومن  طبيعة الإبداع وحدّدت موقفها من مجموع قضايا راهنة فيها مرونة وتحدٍّ للمألوف بشكل حوّلت فيه ديوانها من سيماء الشبه والتكرار إلى شكل من أشكال الفرادة وهي تصوغُ رهانها الشعري داخل ثقافة الاختلاف. وضعتْ فيه أشواقها وآلامها وآمالها وحنينها وحتى معانقاتها الخارجة من شرنقات الذات إلى الموضوع في شخص القضية الفلسطينة. إنها في آخر المطاف شاعرة تكلمتْ من مساحة جرحٍ نقيّ لم يغرقها في سوداوية معتمة بقدر ما فتح لها وأمامها بواباتِ الإشراق الشعري الموصوف في نسق النون.

نلفت النظر إلى أن قراءة الدلالات داخل نسق النون وحده بمعزل عن باقي مكونات الخطاب الشعري هي قراءة قاصرة عن تمثل الديوان باعتباره وجوداً فنيّاً يحتاج إلى إحاطة شاملة كي نستنطق أبعاده في غير ليٍّ لأعناق التأويل. إن تظافر المكونات القولية في فن القصيد هو ما يبعث في الديوان حياةً جديدة يبنيها القارئُ خارج دوائر الشاعرة في لحظات إبداعها والذي لا يمكن أن يحاصرنا في سيمياء رؤيتها الفنية فقط. وتبقى التخريجات الدلالية النازحة من بطن صوت النون قاصرة حتى يزكّيها القارئ الباعث في الديوان وفي القراءة النقدية معاً شكلاً من أشكال حياةِ التأويل الممكن. ذلك أن استخلاصنا للدلالة في هذا المقام هو استخلاص يعيش في وضعٍ تأجيليٍّ ريثما ينضاف إليه استخلاص آخر وآخر وثالث وهلمّ جرّا...

***

نورالدين حنيف أبوشامة\ المغرب

....................

إحالات:

* الديوان: زهراء الأزهر، قطاف خارج الموسم، مطابع الرباط نت  2022، الطبعة الأولى

1 - الحديث عن أبي ذر الغفاري، ورواه مسلم

2 - توجد مركبات ذات صيغ جزئية واحدة، ولكنها تختلف في التركيب أو في توزيع الذرات. وهذا الاختلاف جعل المركبات الكيميائية توصف بالمتشاكلة. فالتشاكل في التصنيف الكيميائي يطلق على الوحدة والتوازن والتجانس والتناظر والتشابه والتماثل، ويعني أيضا الانتماء إلى حقل أو مجال أو مكان معين.

3 - محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، المركز الثقافي العربي، 1986  ص 20

4 - محمد مفتاح\ تحليل الخطاب الشعري\ ط1- مدار التنوير للطباعة والنشر\ بيروت 1985\ ص 52

5 - سورة آل عمران، الآية 181

6 – ديوان المتنبي\ تحقيق عبدالرحمن المصطاوي \ دار المعرفة\ بيروت \ ط 1983  ص 34

7 - أبو الفتح عثمان ابن جني الموصلي، سر صناعة الاعراب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2000، ص 2 \ 107

 

في المثقف اليوم