اخترنا لكم
السيد ولد أباه: الواقع العربي.. أزمات عميقة
أزمات المجتمع العربي عميقة ومعقدة وعصية على التشخيص والتجاوز، لكن الحكم عليها بالانحطاط المانع مطلقاً للتغيير هو ضرب من الموقف العملي الضمني والاختيار العقيم. وكما كان يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي لا بد من الجمع بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.
مقولة «الانحطاط» لا معنى لها في القاموس النظري لأدبيات التفكيك لكونها تصدر عن مقاربة تاريخية غائية ومثالية، إلا أنها هي النتيجة العملية لهذه الأدبيات، لكونها حالة غير قابلة للتجاوز أو الإصلاح.
هل نعيش في لحظة انحطاط أو لحظة أزمة؟ الفرق كبير بين المفهومين حسب تمييز الفيلسوف الفرنسي جان ليك ماريون، الذي يرى أن الانحطاط يكون في حال العجز عن تغيير المسار بحيث يفقد السياسي القدرة على التأثير على الوضع القائم، أما الأزمة فهي لحظة فارقة تفتح آفاقاً متباينة للفعل والحركة، ولذا فإنها مفعمة بالأمل والرجاء. في كتاباتنا العربية الرائجة الحديث يدور في الغالب عن الأزمات في مناحيها المختلفة: أزمة الثقافة والفكر، أزمة النظام الإقليمي، أزمة التحول الديمقراطي، أزمة التخلف، الأزمة الاقتصادية والاجتماعية..
ما تعنيه مقولة «الأزمة» في هذه المناحي هو الوعي بأن الأوضاع المختلفة للمجتمع العربي تعاني من التردي المتزايد والانتكاسة المتواصلة، بيد أن الأمل يظل قائماً للتغلب على هذه النقائص والانتكاسات في أفق تجديد الفكر وإصلاح النظم السياسية والمجتمعية المعطلة. في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، برز مصطلحان أساسيان في رصد أزمات المجتمع العربي هما: النقد والتفكيك. النقد ينطلق من سياقين نظريين متمايزين هما: نقد ملكة العقل والحكم بالمفهوم الكانطي؛ أي ضبط أدوات التصور والمعرفة، والنقد الإبستمولوجي المتعلق بمناهج النظر والتحليل ونماذج التطبيق الإجرائي في الظواهر الطبيعية والإنسانية.
ورغم أن المفكرين الراحلين محمد أركون ومحمد عابد الجابري أصدرا أعمالاً مهمة بعنوان «نقد العقل» (الإسلامي والعربي)، إلا أن الإشكالية الكانطية كانت غائبة في هذه الأعمال التي نحت، إما منحى أنثروبولوجياً (الأنثروبولوجيا المطبقة بالنسبة لأركون) أو منحى إبستمولوجياً (الإبستمولوجيا المطبقة على النمط الباشلاردي بالنسبة للجابري). النقد يحيل في منطقه العميق إلى إمكانية تجاوز الأزمة الفكرية القائمة، من خلال الكشف عن الهنات ونقاط الضعف، ومن ثم الوصول إلى الإدراك الدقيق للظواهر والتوصل إلى الحلول المناسبة للقضايا العالقة.
في استراتيجية نقد العقل، يكون المخرج هو التشخيص الصحيح وبناء الموقف العقلاني العلمي الذي هو البديل الناجع عن الانغلاق في الممارسات التراثية المعيقة للنهوض والتحديث. أما التفكيك، فلا يحمل هذه الشحنة المتفائلة، لكونه ينطلق من مسلمة استحالة الخروج من سلطة النص والمعنى وسطوة الحقيقة الدوغمائية، وليس ثمة مسالك للخلاص والتحرر.
مفاهيم التفكيك دخلت أساساً عن طريق أدبيات الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، التي اخترقت العلوم الإنسانية والكتابات الفلسفية، وقد تركزت في الفكر العربي المعاصر في مواضيع مثل نقد التنوير والحداثة والالتزام.. ما نلاحظه هو أن أفكار التفكيك وظفت أساساً في الخطاب العربي المعاصر ضد الأيديولوجيات التاريخانية والوضعية، أي ضد مشاريع النهوض والتحديث التي بلورتها النخب الفكرية والسياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر.
وهكذا نخلص إلى أنه في حين تظل المقاربات النقدية دائرة في أفق التحديث والتنوير، فإن الكتابات التفكيكية لا تفضي إلى أي أفق للتغيير الإيجابي أو الحلول الناجعة لأزمات المجتمع العربي.
ومع أن مقولة «الانحطاط» لا معنى لها في القاموس النظري لأدبيات التفكيك لكونها تصدر عن مقاربة تاريخية غائية ومثالية، إلا أنها هي النتيجة العملية لهذه الأدبيات، لكونها حالة غير قابلة للتجاوز أو الإصلاح. لقد كان الفيلسوف الألماني نيتشه من أهم من فكر فلسفياً في مفهوم «الانحطاط» الذي ربطه بالظاهرة العدمية الحديثة، ويعني بها سيادة التصور الأخلاقي للوجود وما ينجر عنه من تراجع الغرائز الحية وسيادة قيم الضعف والانتكاسة والجمود. وفي ما وراء الحرفية المباشرة لهذه العبارات، ما يقصده نيتشه هو أن الانحطاط ينبع من التشبث بالقيم السائدة من حيث هي معارف موضوعية ويقينية، بدلاً من اعتبارها قوى دافعة للفعل والنشاط والإبداع.
ما يبينه نيتشه هو أن الحضارة الأوربية المعاصرة قوضت كل إبداعاتها المعرفية والعلمية والإنسانية، من خلال اختزالها في حقائق موضوعية أو معايير قانونية عادلة، بما يفضي إلى تحصين الوضع القائم وكبح كل إمكانات تجاوزه. عندما تستخدم هذه المقولات التفكيكية في رصد وضع الانحطاط العربي، يتم في الواقع تثبيت حالة التردي الفكري والاجتماعي العربي عبر نفي إمكانات تغيير الواقع وتجاوزه إيجابياً.
ما نريد التأكيد عليه في نهاية المطاف، هو أن أزمات المجتمع العربي عميقة ومعقدة وعصية على التشخيص والتجاوز، لكن الحكم عليها بالانحطاط المانع مطلقاً للتغيير هو ضرب من الموقف العملي الضمني والاختيار العقيم. وكما كان يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي لا بد من الجمع بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 11 أغسطس 2024 23:45