اخترنا لكم

محمد البشاري: شعبوية المثقف.. انحراف نحو التبسيط

ليست الشعبوية مجرد خطاب سياسي أو أداة في يد الزعماء الشعبويين، بل يمكنها أن تتسلل أيضاً إلى المجال الفكري، حيث لا يُتوقّع وجودها. فما يسميه بعض علماء الاجتماع «الشعبوية الفكرية» populisme intellectuel يشير إلى موقف يستخدم فيه المثقف هيبتَه الأكاديمية لتبسيط النقاشات المعقدة، وإنتاج ثنائيات جذابة، مع تجاهل الدقة والمساءلة النقدية. هذه الظاهرة، وإن بدت هامشيةً، تُلحق ضرراً بالغاً بجودة الحوار العام وبمسؤولية منتجي المعرفة في مجتمعاتنا.

من منظور فلسفي، ترتكز الشعبوية الفكرية على موقع «العلو المعرفي»، حيث يتقمص المثقف دورَ حارس الحقيقة في مواجهة «منظومة فكرية» مزعومة يصفها بأنها مهيمنة أو منحازة، سواء أكانت أكاديمية أم مؤسساتية أم أيديولوجية. وهنا، يظهر هذا المثقف بوصفه مقاوماً أو مهمشاً، بينما يستخدم قنوات التأثير الأكثر شهرة وانتشاراً لفرض قراءة أحادية للواقع. هذا النمط من الهيمنة الخطابية سبق أن نبّه إليه بيير بورديو في حديثه عن «القول المأذون»، والذي بوسعه فرض أطر تأويلية باسم الموضوعية، في حين أنه يُنتج تأثيرات اجتماعية وسياسية ملموسة.

أما من زاوية سوسيولوجية، كما نجد عند كريغ كالهون ونانسي فرايزر، فإن الشعبوية الفكرية تهدف غالباً إلى كسب «رأسمال من الصدى الشعبي»، من خلال تبسيط التعقيد الفكري. فهي لا تسعى إلى التوضيح بقدر ما تميل إلى التعميم، ولا إلى إثارة الأسئلة بقدر ما تسعى إلى تأكيد المسلّمات. العالم يُقسّم فيها إلى أخيار وأشرار، إلى مستنيرين ومضلّلين، إلى شجعان وخانعين. وتُميَّز هذه الشعبوية بخطاب يقوم على الثنائيات، والتعميمات الجارفة، والشكّ الدائم في البحوث التجريبية أو المناهج الدقيقة، مع النزوع إلى تثبيت الهويات والاختزال الفكري.

غير أن أكسل هونيث يذكّرنا بأن الاعتراف الفكري الحقيقي يتطلّب وساطةً نقدية مع الآخر، لا تصنيفه وشيطنته. فدور المثقف ليس في تأكيد قناعات الجمهور، بل في إدخال الشك حيث تسود اليقينيات، وفي إخضاع الفكر لحدوده الخاصة، وتجنّب إغراء السلطة المعرفية. والمعرفة، إن كان لها دور في المجال العام، فهو أن تُعلّمنا كيف نفكر ضد أنفسنا، كما قال ميشيل فوكو، أي أن نخرج من ردود الأفعال الهوياتية ومن الإغراءات الأخلاقية المريحة.

إن الشعبوية الفكرية تحول المثقفَ من ناقد إلى مؤدلِج، ومن باحث عن المعنى إلى موزّع للأحكام. وعندما يتحول المفكر إلى مهاجم ينقسم معه العالَم إلى «يمين» و«يسار»، أو يجعل من مفاهيم مثل «التقاطع» فزّاعة أيديولوجية.. فإنه يضلل النقاش ويجرّه نحو الابتذال.لكن هذا الانحراف لا ينشأ من العدم. فهو وليد الاستقطاب الاجتماعي، وانعدام الثقة في المؤسسات، والتحوّل في المشهد الإعلامي، حيث يغلب منطق الجاذبية على منطق العمق. المعرفة تصبح أداة تمييز واستعراض، والمثقف يتحول إلى شخصية هجينة تجمع بين الخبير والمحرّض، بين الرغبة في الشهرة وادعاء امتلاك الحقيقة.

لا يعني ذلك رفضَ كل أشكال الالتزام الفكري، فمسار الفكر حافل بمن جمعوا بين النقد والفضيلة. إنما المقصود هو مقاومة إغراء التبسيط، ورفض تحويل الأسئلة المعقدة إلى إجابات سريعة. المطلوب اليوم هو إعادة تأكيد أخلاقيات الفكر القائمة على بطء التحليل، واحترام التعدد، والابتعاد عن البطولة الزائفة.

وفي زمن تعلو فيه الأصوات وتنتشر الاختزالات، يصبح التفكير نفسه فعل مقاومة. إذ لسنا بحاجة إلى خطباء ملهمين بقدر ما نحتاج إلى مفكرين صبورين، يرفضون الانسياق، ويعيدون للمعنى هيبته.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 يونيو 2025 23:45

 

في المثقف اليوم