اخترنا لكم

أنور مغيث: ديلوز.. الفيلسوف الرَّحّال

الفلسفة هى علم ابتكار المفاهيم. هذا هو تعريف الفلسفة الذى قدمه الفيلسوف الفرنسى جيل ديلوز. والمفهوم هو لفظ مكثف الدلالة يشير إلى ظاهرة معقدة ومتشابكة الابعاد. فأنت حين تستخدم كلمة العولمة تشير إلى تطور الرأسمالية وثورة الاتصالات وسهولة حركة الأشخاص ورءوس الأموال والسلع والأفكار، وإلى تزايد الاتفاقيات الدولية. وجاءت فلسفة ديلوز زاخرة بالمفاهيم المتدفقة التى تزيح بعضها بعضا فتكون خير تعبير عن الصيرورة بوصفها جوهر الوجود.

الوجود فى نظر ديلوز عبارة عن سطح بلا أعماق ملىء بالتجاعيد التى تخفى الكثير. عمليات الفكر هى تعامل مع طيات السطح فالتضمين implication والشرح explication والتعقيد complication كلها مشتقة من الجذر pli أى الطية.نحن أمام صفحة تخترقها مسارات لتدفقات رأس المال أو تدفقات الرغبة، ثم تتقابل فى نقطة التقاء لتنتشر من جديد فى اتجاهات أخرى وقد تغير حالها. يصوغ النظام العام هذه التدفقات فى إطار معيارى، أو يختارالمتمرد الخطوط التى يهرب بها من هذا النظام العام. إنه يرفض التوطين terrétorialisation ويقوم بعملية ترحيل déterrétorialisation. هذا التصور جعل ديلوز يحتفى بمفهوم الرحّال الذى ما أن يستقر على أرض حتى يحمل عتاده ويرحل. وحركة الرَحّال هذه فى الفكر أو فى الفن هى التى تسمح بالتجديد والإبداع الذى يواكب الصيرورة فى مقابل فكرة الثبات التى ليست إلا وهما من أوهام العقل.

فى كتاب، ضد أوديب، يعترض جيل ديلوز وفيليكس جوتارى على مفهوم فرويد عن الرغبة التى يصورها على أنها عبء ملقى على عاتق الإنسان وتصيبه بالمرض والتوتر ولا سبيل لاستعادة التوازن إلا بالتخلص منها، إما عن طريق التسامى أو طريق الإشباع. الرغبة عند ديلوز ليست فقداً وليست اندفاعا داخليا يريد أن يتخارج، وإنما تبدأ من الخارج وتولد من خلال لقاء. الرغبة ليست حاجة تتطلب الإشباع ولكنها إنتاج وإبداع. الفرحة التى تسببها الرغبة هى فرحة اكتشاف وليست فرحة إشباع.

المفهوم الشائع والخاطئ عن الرغبة ظهر لأن فرويد قصر الرغبة على الجنس، فى حين أن الرغبة تتجاوز ذلك. ويجدر بالإنسان أن يعمل على تأجيجها بدلا من إخمادها، ومن هنا يكون سعى الإنسان للتدخل فى العالم ليس نابعا من تصورات فكرية أو معايير أخلاقية ولكن من اندفاعات عاطفية. حملة ديلوز ضد التحليل النفسى جعلته ينظر إلى المحلل النفسى على أنه بمثابة القسيس الذى يتلقى الاعترافات ولكن فى مجتمع حديث، ويعتبر التحليل النفسى وسيلة لتحويل الأفراد إلى هاربين من رغباتهم، قائلا إن أريكة المحلل النفسى هى المكان الوحيد لمواجهة الواقع، هى الأرض الأخيرة للإنسان الأوروبى فى عالم اليوم.

وفى فلسفته للتاريخ يميز بين السياسات الكبرى والسياسات الصغرى. الأولى هى تغيرات تتم على مستوى الكتلة. والثانية تتم على مستوى الجزيئات. وهو مجاز يستعيره من الفيزياء، فأنت حينما تشطر صخرة يظل تركيب الحجر كما هو. أما حينما تتدخل فى إحداث تغيير فى الجزيئات الدقيقة على نحو ما يحدث فى علم النانو تكنولوجى فإن التغيير يكون جذريا. كذلك يكون الحال فى السياسة، فأنت حين تغير النظام من ملكى إلى نظام جمهورى، سوف يكون هذا تغييرا مبهرا مثل الألعاب النارية ولكن تظل الحياة اليومية للفلاحين والعمال كما هى. فى حين أنه عندما تمد خط سكة حديد إلى قرية معزولة أو تنشئ فيها مدرسة للبنات تكون قد أحدثت تغييرا أكثر جذرية. مثل هذه التغيرات البسيطة هى وحدها الحاملة لوعد تغيير حقيقى ملحوظ للعالم. ومن هذه النظرة جاء تأييده المتواصل الذى لا يلين لكفاح الشعب الفلسطينى، فهو الكفاح الذى من شأنه أن يغيّر بصورة جذرية الإطار المعيارى الظالم للعلاقات الدولية.

الجذمور rhizome هو جزء يقطع من ساق بعض النباتات ويستخدم فى إعادة إنباتها. ويستخدم ديلوز هذا المجاز ليشير إلى ضرورة التخلص من نزعة البحث عن الجذور أو الرجوع إلى لحظة الميلاد الأولى، وكذلك أيضا التخلص من التعلق بالوصول إلى النهايات وتحقيق الغايات، من هنا نقده لولع هيدجر ببواكير الفكر اليونانى، ونقده للانشغال بأطروحة نهاية الفلسفة. عبارات ديلوز: كونوا جذامير ولا تكونوا جذورا، وفلنبدأ بالوسط، تحولت إلى شعارات ملهمة للكثير من الحركات الطليعية الفكرية والفنية.

لم ينسب ديلوز نفسه إلى أفكار مابعد الحداثة ولكن انتاجه الفكرى اقترن بها. فخلال عقد السبعينيات كان ديلوز هو مرشد هذه الجماعة من اليساريين التى تتمسك بالرغبة وبنزعة الترحال وبالفرحة والاحتفال، وبالتدفق الحر والكلام والإذاعات الحرة. إنه الاعتراض الذرى المفتون بمواجهة الإرادات القوية للمسيطرين.

***

د. أنور مغيث

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الثلاثاء 15 من ذي القعدة 1446 هــ 13 مايو 2025 السنة 149 العدد 50562

 

في المثقف اليوم