اخترنا لكم

علي العميم: المؤثرات الثقافية اللاإسلامية عند «أبو سليمان»

قلت في مقال «الزحيلي والمودودي» إن الفكر الإسلامي الإصلاحي في العالم العربي حين ترجم كتاب «الجهاد في سبيل الله» إلى العربية عام 1950، كان مستقراً على القول بأن الأصل في الجهاد هو الدفاع لا الهجوم والتوسع. المودودي في كتابه هذا نقضَ هذا القول المستقر في الفكر الإسلامي الإصلاحي في الهند وفي العالم العربي.

سيد قطب كانَ أول منظِّر إسلامي في العالم العربي أشاع قول المودودي في الجهاد، ونوّع عليه، وذلك في الطبعة المنقحة من كتابه «في ظلال القرآن» الصادرة عام 1961. وفي كتابه التلخيصي الوجيز «معالم في الطريق» الصادر عام 1964. ثم عشّش هذا القول ثم باض وفرّخ في عقول كثير من الإسلاميين العرب، واستوطن فيها، وتفشّى في بعض كتبهم.

إنَّ مجيد خدوري في كتابه «الحرب والسلام في القانون الإسلامي» لم يتعرض لمفهوم الجهاد عند الإسلاميين الحركيين، ولا يلام على هذا، فالطبعة الأولى من كتابه هذا كانت في عام 1940. وأعاد طبعه عام 1951. والطبعة التي رجع إليها وهبة الزحيلي في كتابه «آثار الحرب في الفقه الإسلامي» كانت طبعة عام 1955.

وهبة الزحيلي مع أنه كتب رسالته للدكتوراه «آثار الحرب في الفقه الإسلامي» في أول الستينات الميلادية إلا أنَّه يلام قليلاً على إغفاله مفهوم الجهاد عند تلك الفئة الإسلامية، لأن كتاب المودودي «الجهاد في سبيل الله» وكتابه الآخر «نظرية الإسلام السياسية» كانا من بين مراجع رسالته.

أما عبد الحميد أبو سليمان، فقد أغفل ذلك عامداً متعمداً، لحاجة في نفسه، ألمعت لها في خاتمة المقال السابق.

استوقفني قوله: «والحياد مقابل التحايد». استوقفني هذا القول، لأن الحياد هو مفهوم قانوني ومفهوم سياسي. أما التحايد في اللغة العربية إلى الآن فليس له إلا المعنى اللغوي. ففعل «تحايد» معناه تجنب، تحاشى، ابتعد. وفي السياق الذي استعملت فيه كلمة «التحايد» يصبح معنى هذه الكلمة هو التظاهر بالحياد أو ادعاءه.

واستوقفني هذا القول؛ لأنَّ الذي يقابل «الحياد» في اللغة العربية وفي اللغة الإنجليزية هو «الانحياز» وليس «التحايد».

كنت قد ذكرت في المقال ما قبل المقال السابق أنَّ عبد الحميد أبو سليمان في رسالته للدكتوراه «النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية» التي أنجزها عام 1973، لم يحدد نوع «المؤثرات الثقافية اللاإسلامية» التي كانت -حسب تفسيره- أحد سببين أعاقا مفهوم المساواة في الإسلام. وكنت قد ذكرت أنه حدّد نوعها أول مرة في العام الذي حصل فيه على درجة الدكتوراه من أميركا. وثاني مرة عام 1979، وثالث مرة عام 1986.

الآن سأعرض ما يعنيه بـ«المؤثرات الثقافية اللاإسلامية» التي هي بالنسبة له مقولة تفسيرية حصرية، تمتد من أحداث الفتنة في خلافة عثمان إلى وقتنا الحاضر، وفي المقال المقبل سأوضح أن تفسيره تترتب عليه -منطقياً- شبهة كبرى تمس الجانب الإلهي والجانب النبوي في رسالة الإسلام، هو لم يقصدها. وسأبين كذلك تهافت تفسيره لنهاية الخلافة الراشدة ولبداية الخلافة الأموية.

في اللقاء الثاني للندوة العالمية للشباب الإسلامي، وكان عنوانه «قضايا الفكر الإسلامي المعاصر» المنعقد في الرياض ما بين 17 و27 ديسمبر (كانون الأول) عام 1973، ألقى بحثاً كتبه كان عنوانه «السياسة والحكم في الإسلام».

قال في هذا البحث: «ونستطيع أن نضع أيدينا على بدايات الأزمة وأصولها التاريخية إذا دققنا النظر في الفتنة الكبرى التي ذهب ضحيتها حكم المدينة ونظامها السياسي ودم الخليفة الراشد عثمان بن عفان. فالأمر لم يكن كما يتخيل الكثيرون أنه ثورة أفعال بعينها، وأخطاء بذاتها وقع فيها عثمان أو غير عثمان، وإلا فما كان لعهد معاوية بن أبي سفيان أن ينعم بالاستقرار لأمور هي أنكى من كل ما يمكن أن يتهم به عهد عثمان، فالسبب في جوهره لم يكن إلا بداية طفو مفاهيم وقيم في نفوس القبائل والشعوب التي وصلت إلى جسد الجيوش ومراكز القوى في المجتمع الإسلامي، ولم تكن قد نالت من التربية والتعليم والتجرد مثل ما نال جيل المدينة، الذي ربّاه الرسول عليه الصلاة والسلام».

وفي اللقاء الرابع للندوة العالمية للشباب الإسلامي، وكان عنوانه «الإسلام والحضارة ودور الشباب» المنعقد في الرياض ما بين 18 و25 مارس (آذار) عام 1979، ألقى بحثاً كان عنوانه «الأسباب التاريخية لانحراف المجتمعات الإسلامية والمنطلقات الإسلامية لتصحيح البنية المعاصرة».

قال في هذا البحث: «وتبقى الحقيقة أن تحولاً أساسياً، في ميدان فاعليات الأمة وإمكاناتها المعنوية، قد حلّ بها بزوال عهد الصدر الأول والخلافة الراشدة وعلاقاتها الاجتماعية، رغم امتداد الدفع المادي وطرح ثماره خلال العهود الأولى اللاحقة لعهد الصدر الأول.

ولكن كيف حدث هذا التحول؟

في تصورنا أن ذلك التحوّل بدأ بانضمام أفراد القبائل العربية من غير المهاجرين (من قريش) والأنصار (من الأوس والخزرج) إلى صفوف الجيش الإسلامي في مسيرته نحو الشمال، لمواجهة الخطر الداهم من قبل الإمبراطوريتين العظيمتين في ذلك الوقت؛ الرومانية والفارسية. وجنود الأعراب لم تكن لهم من الرؤية العقائدية والتربية الإسلامية ما كان لجيش بناء دولة المدينة بقيادة الرسول عليه الصلاة والسلام».

في كتابه «أزمة العقل المسلم» الصادر في عام 1986، قال: «والسبب الذي أدَّى إلى الفتنة وسقوط الخلافة الراشدة هو التغيير الذي حدث دون التفات كافٍ إليه، أو قدرة على تلافيه، ألا وهو تغيُّر القاعدة السياسية التي ارتكزت إليها القيادة والخلافة الإسلامية الراشدة، فبعد أن كان الأصحاب و(كوادر) الأصحاب هم قاعدة دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقامت على أكتافهم دولة الخلافة الراشدة بكل ما يمثله الأصحاب من نوعية وتوجه وإعداد ونضج وتربية، وفي زحمة الأحداث وتدافعها... فإننا نجد أن المجال قد أفسح واسعاً لتدفق رجال القبائل من الأعراب، وعلى ما كانوا عليه في ذلك الوقت من عصبية وجهالة من مضاربهم في أطراف البوادي للانضمام إلى جيش الفتح، مع تقلُّص دور الأصحاب المتضائل بسبب السن والاستشهاد. لقد مكّن هذا في النهاية للأعراب من جيش الدولة، بكل ما حملوه معهم، إلى جانب معالم الإسلام العامة من المفاهيم القبلية والعصبيات، والذين لم تخضع نفوسهم لما خضع له الأصحاب من تربية وتدريب وتوعية على مدى سني الدعوة والمعاناة، وعبر عقود بناء الدعوة والمجتمع المسلم بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوائل الخلفاء الراشدين». وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الأحد - 19 ربيع الأول 1446 هـ - 22 سبتمبر 2024 م

 

في المثقف اليوم