اخترنا لكم
محمد البشاري: الحاجة إلى تجديد الفقيه.. دروس من مناظرات ابن حزم والباجي

في قلب الأندلس، حيث كان الفكر الإسلامي يشهد ازدهاراً غير مسبوق، برزت مناظرات فقهية وفكرية بين اثنين من أكثر علماء الإسلام تأثيراً، ابن حزم الظاهري، وأبو الوليد الباجي. لم تكن هذه المناظرات مجرد سجالات نظرية، بل كانت تعبيراً عن رؤى متباينة حول أصول التشريع الإسلامي، وسبل استنباط الأحكام، وحدود التأويل في فهم النصوص الشرعية. مثلت هذه المواجهات الفكرية أحد أبرز معالم الجدل الفقهي في العصر الإسلامي الوسيط، وأسهمت في إثراء الحوار حول قضايا لا تزال تحظى بأهمية مركزية في الفكر الإسلامي حتى اليوم.
عُرف ابن حزم بنزعته الظاهرية، التي تقوم على التفسير الحرفي للنصوص الشرعية، ورفض التأويل والاستدلال العقلي خارج إطار الدليل النصي المباشر. وُلِد في قرطبة في القرن الرابع الهجري، وتلقى علومه في بيئة علمية غنية، لكنه اتخذ مساراً فكرياً خاصاً جعله على خلاف مع كثير من علماء عصره. لم يكن رفضه للاجتهاد العقلي مبنياً على رفض العقل ذاته، بل كان يرى أن فتح باب القياس والمصالح المرسلة قد يؤديان إلى إدخال مفاهيم غير منضبطة في التشريع، ما قد يحيد بالشريعة عن نقائها الأصلي. على النقيض منه، كان أبو الوليد الباجي يمثل المدرسة المالكية، التي تعتمد على القياس والاستحسان والمصالح المرسلة كأدوات لاستنباط الأحكام في القضايا المستجدة. درس في المشرق الإسلامي، وعاد إلى الأندلس محملاً بمعرفة عميقة جعلته أحد أهم المدافعين عن أصول الفقه المالكي، كما اشتهر بمنهجه الجدلي القوي الذي وظفه في مناظراته مع ابن حزم. كانت رؤيته أكثر انفتاحاً على اعتبار المقاصد الشرعية، ودورها في تحقيق العدالة والاستقرار الاجتماعي، مع التأكيد على ضرورة التوازن بين النص والمصلحة. إحدى أبرز القضايا التي دارت حولها مناظراتهما كانت مسألة الإجماع، حيث رفض ابن حزم مفهوم الإجماع بمعناه التقليدي، معتبراً أن ادعاء إجماع الأمة بأسرها أمر غير واقعي، خصوصاً مع تفرق العلماء في أنحاء العالم الإسلامي. رأى أن الاعتماد على الإجماع قد يكون ذريعة لتجاوز النصوص القطعية أو تحجيم الاجتهاد الفردي. في المقابل، دافع الباجي عن حجية الإجماع، معتبراً أنه يمثل توافق الأمة على حكم معين، ما يحقق استقرار الفتوى ويمنع الفوضى التشريعية.
أما القياس، فقد كان من أشد القضايا إثارة للخلاف بينهما. اعتبره ابن حزم وسيلة غير منضبطة قد تؤدي إلى إدخال أحكام لا تستند إلى نص صريح، ما قد يشوه جوهر الشريعة. رفض القياس بشكل قاطع، معتبراً أن النصوص الشرعية وحدها كافية، وأن إدخال القياس قد يؤدي إلى استنتاجات خاطئة. في المقابل، رأى الباجي أن القياس أداة ضرورية لاستخراج الأحكام في المسائل الجديدة، وأنه مبدأ اعتمده الصحابة والتابعون في اجتهاداتهم. امتد النقاش إلى مسألة المصالح المرسلة، وهي الأحكام المستنبطة، بناءً على تحقيق مصالح شرعية دون وجود نص صريح يؤيدها أو يمنعها. رفض ابن حزم هذه المنهجية، معتبراً أنها تفتح الباب أمام التشريع وفق الأهواء، ما قد يؤدي إلى تحريف مقاصد الشريعة.
أما الباجي، فكان يرى أن المصالح المرسلة وسيلة ضرورية لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية، شريطة أن تكون متوافقة مع القيم الأساسية للإسلام. لم يكن سد الذرائع بعيداً عن دائرة الجدل بينهما، إذ رفضه ابن حزم، معتبراً أن الأفعال يجب أن تُحكم بناءً على ذاتها، لا على ما قد تؤول إليه من نتائج محتملة. رأى أن تحريم بعض الأفعال بدعوى أنها قد تؤدي إلى الحرام هو تضييق غير مبرر للنصوص الشرعية.
في المقابل، دافع الباجي عن مبدأ سد الذرائع، معتبراً أنه وسيلة لحماية المجتمع من الانحرافات المحتملة، وأنه يمكن أن يكون أداة وقائية تضمن عدم الوقوع في المحظور. تميزت هذه المناظرات بأنها لم تكن مجرد خلافات أكاديمية، بل كانت تعكس رؤيتين متباينتين لكيفية فهم النصوص الشرعية والتعامل مع تطورات المجتمع. لم يكن هناك غالب أو مغلوب، بل كان هناك إثراء فكري وحوار علمي ساهم في تطوير الفكر الفقهي الإسلامي. رغم حدة الجدل، إلا أن كليهما كان يدرك أهمية النقاش العلمي الجاد، وأثره في إثراء الفقه الإسلامي.
في إحدى مناظراتهما، حاول الباجي إحراج ابن حزم بسؤاله عن تفاصيل دقيقة في الفقه المالكي، فرد ابن حزم ببساطة: «نحن نترك ما لا نعلمه إلى من يعلمه»، في إشارة إلى احترامه لتخصصات المذاهب الأخرى، رغم رفضه لمنهجها. يعكس هذا المشهد روح الاحترام المتبادل التي ميزت كثيراً من مناظرات العلماء في التاريخ الإسلامي، حيث كان الاختلاف قائماً على البحث عن الحقيقة، وليس على التشكيك أو الاتهام. تمثل مناظرات ابن حزم والباجي نموذجاً فريداً للحوار الفقهي في الإسلام، حيث تصارعت أفكار واتجاهات مختلفة في بيئة علمية مفعمة بالحيوية. كانت هذه المواجهات الفكرية منطلقاً لكثير من النقاشات الفقهية التي أثرت في المدارس الفقهية اللاحقة، وأسهمت في تشكيل منظومة الاجتهاد الإسلامي التي بقيت قائمة حتى يومنا هذا.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 11 مارس 2025 23:57