اخترنا لكم

فهد سليمان الشقيران: حول هوسرل ونظريته مرة أخرى

من الضروري فهم أسئلة هوسرل قبل قراءة أجوبته، فهو يقتحم العقول باستفهامات مزلزلة. يسأل هوسرل –مثلاً- عن مدى استقلال «السيكولوجيا» عن المنطق، ووضع أسئلة ضرورية سماها أسئلة النزاع التقليدية المتعالقة مع تحديد المنطق، وهي: هل المنطق فنّ نظري، أم فن عملي بمعنى أنه صناعة؟ وهل هو علم مستقل عن غيره من العلوم وبخاصة عن السيكولوجيا أو الميتافيزيقا؟
وهل هو فن صوري أي يشتغل كما يفهم عادة بمجرد صورة المعرفة؟ أم عليه أن يهتم بمادتها أيضاً؟ وهل له سمة فن قبلي وبرهاني؟ أم فن أمبريقي استقرائي؟ وعلى أهمية تلك الأسئلة بترتيب التسلسل للمنطق الذي سيكون مختبر الحقيقة، فإن هوسرل وبحذق يحذّر من الانحياز لهذه النزاعات التقليدية، بل بالأحرى القيام بتوضيح الفروق المبدئية التي تلعب فيها، والطريق للمنطق المحض بتحديد تعريف للمنطق يكون مقبولاً بشكل «شبه كلي».
والارتباط بين ظاهراتية هوسرل والميتافيزيقا يمكن اختصاره بتحليل فتحي إنقزو الشارح والمتخصص بهوسرل حيث يعتبر: «أن الفينومينولوجيا وإنْ بدت في غير حاجةٍ إلى النظر في الجوهر الميتافيزيقي لموقفها الأصلي، فإنها تفضي إلى تعيين هذا الموقف تعييناً ميتافيزيقياً صريحاً بتحديد مضمون الفلسفة ومقاصدها بحسب أقسام الميتافيزيقا التقليدية، وبحسب أنموذجها الأنطولوجي أساساً من حيث هي أصلاً تجديد لهذه المقاصد بحسب الوضع الذي أفضت إليه (البحوث المنطقية) وحدوده، ومهدت له الأعمال العينية في الظاهراتية المتعالية». ثم يشير إلى إشكالية في ظاهراتية هوسرل: «حيث تبين حاجة الفلسفة إلى تأوّل ذاتها تأوّلاً ميتافيزيقياً في مقامها وفي بنيتها، وفي حاجة الأشياء التي تختص بالنظر فيها إلى قاعدة أنطولوجية قصوى، تشتق منها مبررات التشريع النظري للعمل الفلسفي ولنسق الفلسفة عموماً».
«الظاهراتية» أو الفينومينولوجيا، هي مدرسة فلسفة تعتمد على دراسة الموضوعية أو الواقع كما يُعاش ويُختبر بشكل ذاتي. وهي أيضاً الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية، ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل الظاهرة وأساس معرفتنا بها.
لم يكن طريقاً سهلاً ذلك الذي اختطّه هوسرل في منهجه الفينومينولوجي، فقد أعاد في الجزء الأول من مباحثه المنطقية قراءة المنطق الذي استندت إليه فلسفات ديكارت وكانط ولايبنتز، محارباً الميدان النظري القبْلي المغلق على نفسه، معتبراً النزاع على التعريفات هو في حقيقته نزاع على العلم نفسه. أثرت فينومينولوجيا هوسرل على الفلسفة في القرن العشرين، وأيقظت أسئلةً خلقت فلسفاتٍ خاصةٍ كما حدث مع مارتن هيدغر، والذي أهدى إلى أستاذه كتابه الرئيس: «الكينونة والزمان» قائلاً: «مُهدى إلى أدموند هوسرل، إجلالاً وصداقةً».
خاض هوسرل عشرات المعارك ضد النزعات السيكولوجية والحيوية والتاريخانية وسواها، لقد حارب من أجل منهجه للعودة إلى الأشياء نفسها، إلى الماهية إلى ما قبل التأسيس القبلي لنقض كلاسيكيات المنطق المحض، ومطالباً بتعليق الحكم على المعطيات الأولى لظاهرات الوعي، ولذلك كتب: «إنه من البين أن طفولة فينومينولوجية طويلة لن يبخل بها علي إن شئت أن أكتسب معرفةً عميقة يمكن التعويل عليها فيما بعد بشأن النظرية».
الخلاصة، أن المعنى الظاهراتي لدى هوسرل مختلف عنه لدى الآخرين مثل موريس ميرلو بونتي، لأن هوسرل جدد في كل الفضاء الفلسفي، وجعله أكثر تحرراً من التقليد القديم الموروث عن اليونان، ولم ينفكّ عنه الفلاسفة، لقد ضرب هوسرل الطاولة، وأعطى البشرية نظريّة أظنّ أنها من أكثر النظريات الفعّالة والشغّالة حتى الآن.
***
فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 25 مارس 2025 01:01

في المثقف اليوم