قراءات نقدية
عبد النبي بزاز: أساليب الاختلاف والتجديد في ديوان "على شرفة التمني"
يتضمن ديوان "على شرفة التمني" للشاعرة السورية نبيلة علي متوج العديد من عناصر الإبداع الشعري بمسوحات جمالية ومجازية تبوئها قيمة فنية ودلالية ترقى بها لمستوى رفيع لما تزخر به من سمات التغيير والتجديد، بحيث ارتكزت جل نصوصه على مقومات الشعر الأساسية من إيقاع، ومجاز فضلا عن موضوعات اندغمت في منظومة المدونة الشعرية وأضفت عليها عمقا في التعبير، وسعة وتنويعا في المعاني والدلالات.
فعلى مستوى الإيقاع، الذي تعددت استعمالاته وتنوعت، من َروِيّ انتهت به مقاطعها كما في نص " أصعب قصيدة " التي تنتهي أواخرها بحرف النون: " وأنا بكتب قصايد من زمان.. / أنت الأمان.. / وعبير وإيمان ../ أيمن كمان.. " ص12، والياء في قولها: " ليتك تأتي.. / تكسر قيود حرفي.. " ص14، وفي نص " دموع الليل " حيث تضفي الفاء المنونة، والقافية المشكلة من الياء والتاء: " يا من سكنتني، / وجعا أليفا / بردا شفيفا / همهمة حكاية.. / ليس لها نهاية ! " ص80، على المقاطع نبرة موسيقية منفتحة ومنسابة. بالإضافة إلى التشبيه كعنصر بلاغي ورد بصيغ متنوعة ارتبط فيها بأداة الكاف: " حيث تتقافز الهواجس ككائنات خرافية " ص7، وفي: " تولد وتكبر / كعرائش العنب " ص 45، ومجردا منها كما في: " فأنا النجمة العالية المتألقة بين أحضان المساء" ص 46، إلا أن الملفت في الديوان هو غزارة الصور الشعرية، وما تحفل به من مظاهر جمالية، وأبعاد دلالية، مثل ما ورد في " قصيدة عذراء ": " وكل ارتجافة دم / تكتب سطورا في سِفْر الغياب " ص 7، وهي صورة تستدعي عمقا في الرؤية، وسعة في أدوات الاستقراء لفك رمزية أبعادها، واستشراف امتدادات معانيها ؛ حيث تتكفل ارتجافة دم بتدوين سطور في كتاب الغياب، وما تحمله ارتجافة الدم من دلالات ومعاني، مع استعارة فعل الكتابة لهذه الارتجافة التي ترسم كلماتها في سجل الغياب، وفي قصيدة " أول همس " حيث نقرأ: " شرب الليل ثمالة عتمته / من حزني / أزرعك على شرفاتي / براعم حب " ص10، فالليل يرتوي من سواد حلكته التي تعتعها سُكْر، والتي عب من خمرتها الليل، وما ينتجه الحزن من براعم حب تزرعها الشاعرة على شرفاتها، وهي صورة مركبة تؤلف بين متناقضات (حزن وبراعم حب). ونثر الحقول ألحانا، في تصوير لحقول يتم توزيعها على شكل ألحان تنتشر في خضم صمت عبر عطر الغروب، مما ُيوَلِّد أسئلة يجللها العجب والغرابة إذ كيف تغدو الحقول ألحانا؟ وكيف للغروب أن يتضوع عطرا وشذى ينتشر في ملحمة الصمت؟ صور ما تفتأ تتوالى: " عسي أن يكبر حلمي.. / طفلا على صدر أم تاقت لضمه.. / بعد عقم ! " ص15، في تصوير للحلم الذي ُيْرجى أن يتطور كطفل نما وكبر على صدر أم رزقت به بعد عقم مما ضاعف من شوقها لضمه إليها بحب وشغف ولهفة، وتصوير للوحشة وهي تنسل من ثقوب الظلام: " تسللت الوحشة من ثقوب الظلام " ص 17، وما يحمله من معاني متعددة الأبعاد بوصف دال ومعبر يجعل للظلام منافذ / ثقوب َتعْبُر منها الوحشة لمعانقة رحاب الأنس والألفة. وصور أخرى أكثرا اختزالا ك: " تأبطت أحزاني / أخفيتها " ص 19، في تصوير للاحتفاظ بالأحزان وإخفائها وهو ما يدل، بشكل أو بآخر، على القدرة على المقاومة، وتَحَمُّل ثِقْل الهموم و وِزْرها ورفض الاستسلام لحالات الضعف الناتجة عن أفعال ومواقف حبلى بمظاهر جور ناتج عن خلل يسود ويحكم علاقات الأفراد داخل مجتمع متعدد الأعطاب والأوصاب ، أو في تعليق الأحلام على مشجب الصباح: " وأن أعلق أحلامي / على مشجب الصباح " ص 27، فالصباح كزمن يشهد انطلاقة يوم جديد تتوق فيه النفوس لتحقيق ما تحمله، وما تحلم به من أمنيات وآمال. وإلى جانب فيض الصور التي تزخر بها قصائد الديوان، والتي تتميز بطابع الاختلاف والتفرد وردت تعابير متنوعة تنحو نفس المنحى وتنسج على نفس المنوال منها ما طغى عليها الطابع الرومانسي: " وأمامي أسراب من السنونو / مهاجرة إلى مطالع الفجر " ص37، وكذلك في قولها: " وعالمي ملون / بالفرح والفراشات " ص 38، وأيضا: " كنت أعرف أن قلبك حديقة غناء / وموطن الفراشات والجمال " ص 46، وكلها تعابير تتآلف وتجتمع لتشكيل صور ومشاهد رومانسية تمتح من معجم يتشكل من عناصر الطبيعة ومكوناتها مثل الطيور (سنونو)، وحشرات جميلة (فراشات)، وتنتقل لوصف يحمل نفس الطابع في التغني بجمال المرأة: " يا امراة مغناجا / يحبس الأنفاس دلالها / َتتَنَقَّل برشاقة فراشة / على أكمام الزهور.. " ص42، في نوع حركاتها (المغناج)، وما يطبعها من رشاقة وخفة ك (فراشة تنتقل بين الزهور) مع استيحاء ينهل من عناصر الطبيعة: " أرسم لها الكلمات / بلون الدفلى / وشقائق النعمان../ رياض بنفسج يغمرني شذاها " ص 43، كالشجر(شجر الدفلى)، وأزهار(بنفسج) وما تعبق به من طيب عطر وشذى. كما أن هناك تعابير مختلفة من حيث الصيغة والدلالة مثل: " أتنفسك حياة " ص 19، وفي قول الشاعرة: " أرتب ما تبعثر مني " ص 29، فكيف يمكن تنفس شخص حياة آخر؟ وترتيب ما تبعثر من الذات، وإظهار النوائب وهو مشرئبة متطلعة: " تشرئب النوائب " ص 35، وتسريج الرؤى التي تصير لها خيولا تمتطي صهوتها: " أسرج لها خيول رؤاي " ص 35، وتتحول القصيدة إلى كتابة الشاعر: " أراك فيها / أجمل قصيدة.. / ما انفكت تكتبني ! " ص40، وكلها تعابير تنأى عن الأساليب النمطية المعهودة بما تجترحه من ِصَيغ ومعاني مختلفة ومنزاحة. ويمكن الإشارة كذلك إلى موضوع الإبداع داخل نصوص المجموعة والصادر عن رؤية تكشف عما يحيط به من معاناة ومكابدة شبيهة بالمخاض كما يتجلي في قولها: " أيتها القصيدة.. / َتعَسَّر المخاض " ص22، وما تحظى به، أي القصيدة، من تعهد ورعاية بعد مخاض الولادة: " ضممتك لجناحي / كي يكبر زغب ريشك / وتحلقي " ص22، في تشبيهها بطائر صغير يكبر، وينمو زغب ريشه، وهو في حضن أمه وحمايتها، إلى أن يصير قادرا على التحليق والطيران. إبداع من خاصياته وميزاته التحرر من كل أنواع الأسر والقيود بحثا عن أجواء تتيح له حرية الخلق والتعبير: " حروفي خصبة / بذرة حياة / تأبى القيد أو الخنوع " ص 24، كما نلاحظ بروز عنصر التآلف في الجمع بين أطراف متناقضة ومتباينة كما في نص " قصيدة عذراء " حيث نقرأ: " وفي عمق هذا المعبد / القلبي، تتآخى الأصوات المتناقضة، آذان ومزامير " ص7، حيث تلتقي الأديان عبر تجاذب ينبذ كل تنافر صادر عن خلفيات تطفح بأنواع الحقد والغل والكراهية. كما كان للغناء والطرب حضور بين دفتي الديوان من خلال صوت " فيروز " الذي يتسرب إلى النفوس والأذهان وما يشيعه فيها من غبطة تبدد ما تراكم فيها من رواسب هم وكدر: " مع صوت " فيروز" الشجي / يملأ دقائق صباحي" ص 29. وعنصر المكان الذي تجسد في " دمشق " التي استحوذت على مشاعر الشاعرة، وسيطرت على كيانها فغدت مصدر إلهام، ومنبع حب وشوق: " دمشق / أزرعك في دفاتري حقول حب / وفي قلبي نبضات حنين../ أسافر في هواك بعيدا " ص33.
ف " نوافذ على شرفة التمني " ديوان شعري زاوج بين عناصر الإبداع الإيقاعية والبلاغية عبر رؤية كرست الاختلاف، وأسست لإوالياته بما رسمته من أشكال تعبيرية تجسدت في نصوص تهدف إلى إرساء لبنات تجربة شعرية تروم التغيير والتجديد.
عبد النبي بزاز ـ المغرب
.....................
ــ على شرفة التمني (شعر) نبيلة علي متوج، سوريا 2025.







