أقلام ثقافية

أمين كبة: أنا هويت (مقامة)

قال أمين إنّ شذى روض الحبيب فاح، مذ نقّش الهوى أخضره بالأفراح، وإنّ نبعه قد صفا وراق، مذ هَمر عند حياضه الدموع والأشواق. وإن هواه حلوٌ مر، عَسيرٌ ومطرّزٌ باليُسر. زُلاله عذبٌ ثجّاج، وموجه صاخبٌ أجّاج. وهذا خبرٌ تعجز الحال عن ذكر بيانه، وبيانٌ تاهت العقول في إتيانه. قد تجلّت سماؤها، وتنقلت أفناؤها، حالٌ إن قام خطيبها بشرحها فَضَح وافتضح، ووديعةٌ إن طلبها صاحبها جرح واجترح، ورأيٌ كلما صُفِّي كُدِّر، وكلما عُرِف نُكِّر، وأمرٌ في الجملة لا يُنادي وليده، وسرٌّ قوله عناء، ومعناه هباء، وما لي من مدّه وجزره إلا غثاؤه. فقد أبكتني زلّته دمًا، وأوردتني عثرته سقمًا، وقتلتني عبرته ندمًا وسدمًا.

والهوى، يا قارئي، شَرَكٌ كما قال تميم*، والهوى ظلّيمٌ لا ندري بحضرته ما نصنع، ولا نعرف من جوره إلى من نفزع. نتنفّس الكلام بحضرته تنفّس المملوق، ونختلج به كما يهذي المألوق. وأنا وإن أنكرتُ وهربتُ ممن ذهب على وجهه، وانقلب الهوى عليه، وتلَا صبابات الهيام بوجده، فقد اختلط عندي الإفصاحُ باللّكنة، وتلاقى النعيم بالمحنة، والتبست الغباوة بالفطنة، وأشرقت الأكوان بالأشباح، وشرّفت الأعيان بالأرواح. فلما هجتُ ولهًا، وغبتُ علهًا، جعلت الهوى مركبي، والهدى مطلبي، وتشاغلت بعلم يصحُّ بكل بيان، وحجّة تضحُّ في كل أوان، وصرت أكتمُ شجوي في كلامي، فعمدت إلى الحكمة وجعلتها أمامي، وإلى الوجد فصيّرته إمامي، وأجريتُ أحتجب عن الجهل بالحلم، وأغضُّ عن الفهم بالوهم، وأنثر الذكر بالفكر، وأمزج الصحو بالسُكر. فإن الدنيا، والله، من غير غرامكم موحشة، وقلوب الخلائق إن قرأت حرفي عن غيركم مستوحشة، فعليكم سلام الله ما اقترن مساءٌ بصباح، واتصل وهجٌ بمصباح.

“أستغفر الله إلّا من محبتكم

فإنّها حسناتي يوم ألقاه

فإن زعمت بأن الحب معصية

فالحبُ أحسن ما ألقى به الله”*

٢

قال المسكينُ السجينُ في ماضيه: "نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى، ما الحبُّ إلا للحبيب الأول".. ولم يتنبه هذا الأسيرُ، إلى أن الحب هو ما يكون للمحبوب الحالي، وما سواه ليس حباً وإنما ذكريات. وكذلك الحال في العشق، فهو لا يكون إلا بالوصال والمواصلة وحُمّى الحس متتالية النوبات. أما الهيامُ، فهو يطوي طرفي الزمان، فلا يبقى معه معنى لأولٍ أو أخير.

فقه الهيام-يوسف زيدان

٣

يا صاحب المقامات، احفظ عنّا، واسمع منّا وإذا رأيتنا فالحكمة ماء من نبعك، فإجره أين شئت، ليثبت به ما أردت، واعلم أنّ لكل شيء قلبًا، وقلب القلب شوقه المدفون. مبلغنا معك أن نزيل همك فتطمئن. إذا جعل الحبيب غيبته عنك مسرحًا لك فاذكره فيها. فإن أنت لم تدرِ من أنت منه فلا أنت منه ولا هو منك. واعلم أنّ أوّل الوجد رفع الحجاب، وحضور الفهم، ومناجاة السر، وإيناس المفقود، وهو فناؤك أنت من حيث أنت. وإذا نظرت فَارْحَمْ، وإذا أقبلت فَتَكَرَّمْ، وإذا دنوت فَجِدْ، وإذا حفظت فَجُدْ. وإن لفعَك الهوى بهبّات نسيمه، فلا تركض فزعًا، فإنّ بقاءَك نازحٌ عن وفائك، حالٌّ بولائك، فانٍ ببلائك، ومستغيثٌ إلى ربّك من رعبِك وفنائِك. وهذا حديثك إذا سكتّ، وهذا شأنك إذا نطقت. وقُلْ: كيف المنجى من هذا الفضاء الغاصّ؟ وكيف الخلاص ولات حين مناص؟ وهل الرجوع بعد هذا كله إلا إلى إطراق يلهب الأحشاء ويذري الدموع، ويراشق الإشارات بإنشاء حركة بين الإجابة والتمنّع، بلفظ مداره على الزخرفة، ومجازه إلى السفسفة. يخاطب باطنًا جوهر الزمان ويبكي سرًا في سبيل مصالحته؟ ولا نرى في مناجاتك إلا هبّات من رام الخير عنها تاه، ومن حدّث نفسه بالظفر فيها شاه، وما هي إلا كتمان في وجدان، ونكرة في عرفان، وعرفان في حدثان. فالزمان لا يرسمها سبحًا، والخاطر لا يجتازها سنحًا، والمراد لا ينقاد لها حزنًا، والدعوى لا تمرّ بها وهمًا، وأنّى لك ذلك؟ ومهجتك تذوب خوفًا من فراقه وآمالك تتغلغل إلى ما لا تصل إليه. فهل يبقى يا صاحبي بعد هذا ترنّم بلحن، أو تنغّم بشجو؟ يا أمين، لا طمأنينة إلا في حب، ولا معرفة إلا في طمأنينة. كل حب لا يقود إلى طمأنينة لا يعوّل عليه. وعلى هذا تطول زفرات الزافرين وتسكب عبرات المتألمين، وتسهر عيون المشتاقين. وذلك شأنٌ لا يلوذ به نبأ، ولا يطور فيه حلم، ولا ينقّر عنه بأين، ولا ينحب فيه آخر الليل بلماذا، ولا تستعمل فيه “لم”. وهذا يا قارئي خبرٌ من بصره أبصر، ومن أُشهد عليه شهد، ومن شهد عليه استشهد، ومن جُلي عنه عاين، ومن خُصّي به تلذّذ. ومن شرب من حياضه بُرِئ. وهذا شوقٌ من تطلع إلى جنباته احترق، وشوِّق في محلّه واشتاق، وهزّ إليه فاهتزّ. ومن عجز عن إتيانه تمنّى، وسأل عنه فتأوّه، وسمع جميل الوصف فحنّ إليه، وتلذّذه فجُنّ. وتدلّه بوهمه وناغاه فنزع، وتولّه بوجده فتوسّع، وغاية قولي، رغم زخرفته وإطنابه، أنّني هويت وانتهيت.هل قصد سيد درويش أنّ العاشق انتهى عند محبوبه وامتزج معه، أم كان مجرد قرار أسكت به العذّال؟ أ قصد العذول أم الزمن؟ هل يقصد أنّ الزمن قوة خارجة عن إرادة العاشق حاكمة على تجاربه بالذبول أو التحوّل، محاولةً تذكيره بحقيقة المعشوق وتباريح الحب وسيرته المؤلمة؟ ولا أرى أن الزمن يعذل بالكلام، وإنما بالمآل. ولا أراه يعذل باللوم بل بفرض مساراته، معيدًا سحق العاشق وتشكيله بجعله يراجع نفسه، يختبر الفقد والندم،وربما ينتهي إلى الجنون.

أنا وحبيبي في الغرام…

ما فيش كدا ولا في المنام.

أحبه حتى في الخصام،

وبعده عني يا ناس حرام.

ما دمت أنا بهجره ارتضيت،

مني على الدنيا السلام.

٤

"المحبة هي صفاءُ الود مع دوام الذكر، لأن من أحب شيئًا أكثر من ذِكره".

سمنون المُحب

٥

محاسنُ الوردِ تنثرُها ألوانُكِ، وعبقُهُ حسنُ طلعتِكِ، يُستضاءُ بها بينَ الشُّهودِ، ويسجدُ لها الزَّمنُ، وتترنَّحُ أمواجُهُ. لوجهِكِ حسنٌ تتلاقى من جلالتِه الأرواحُ، وتدورُ في أفلاكِها فيتكوَّنُ الوجودُ، وينعدمُ الموجودُ. وتطوى الأنفسُ فلا وصَلٌ يُحيي ولا هجرانٌ يُبيدُ.

لجمالكِ آيةٌ في الصمتِ يرتّلُها من ماتوا ظامئين دونَ حدِّ الماءِ، يتلطّفُ في حضرتِكِ القولُ وتترتّلُ آياتُهُ في زوايا العشقِ ومجالسِ الهوى. توقدُ المجالسُ بجمرِ الشوقِ فيحرقُ قلوبَ المريدينَ، ويوجّر جفونَ الحيارى بعمرٍ فانٍ لا يمرُّ.

وأنا يا نبعي نورٌ، كفّ عن الابتهالِ وصلاة ليسَ لها غفران. مثل ملكٍ معزولٍ يحلّقُ وحدهُ مشنوقًا في الأعالي، والذبابُ حولَهُ يدور، معلّقًا ثاملًا من تزاحمِ الراياتِ. أنا أرقك المزمنَ وصلاتُك في ليالي القدرِ، رجفةُ صوتِك في ذيلِ الدعاءِ، قدركِ المحتومُ المضمرُ في دعواتِ أمكِ، وساوسُك التي تهجمُ آخرَ الليلِ، عارفةً أنّ قوةً عظمى تهزُّ كينونتكِ كلّما هربتِ منها. أنا مغناطيسُ الهوى وفانوسُ الغرامِ، ارتجافتُكِ كلّما تتذكّرين أنّ شيئًا عظيمًا فاتكِ. أنا دمعةٌ حارّةٌ على خدٍّ عاشقٍ تحاولُ الفكاكَ من قبضةِ الزمانِ. أنا سفّاحٌ بارعٌ يعودُ إلى طريدتِه حيثُ التقاها أول مرةٍ مع أنّهُ قتيلُها لا قاتلُها. مثل تكبيرة في صلاةٍ باركها اللهُ في ساعةِ استجابةٍ، عُزفت على وترِ الرجوعِ وصارت شقيقةً للضوءِ ومنبعًا لأطيافهِ، مثل تائهٍ أعياهُ الطريقُ فأضاعَه،مثل زمانٍ صالحته في ليلةِ حنينٍ كتبتُ فيهِ مقامةً تقطرُ من رحيقِ السهرِ، حنينًا يشبهُ توقَ الماءِ العائدِ إلى متنِ غيمتهِ شوقًا إلى منبعهِ. مثل حلاجٍ خافَ من الهجرانِ حتى لا يصيرَ غائبًا محرومًا فانتهى به الحال مصلوبًا في شوارع بغداد. والويلُ يا هذه لمن يغيبُ بعدَ الحضورِ، متسليًا بظلماتِ أشباحِ الغيابِ، متناسيًا أشباحَ النورِ، والويلُ لمن يهجرُ بعدَ الوصلِ ولمن وقفَ عندَ الإشارةِ ولم ترشدهُ العبارةُ، والويلُ لمن ظنّ أنهُ يقدرُ على الزمانِ. فما تركَ من طريدةٍ إلا سحقَها، ولا دينًا إلا وردّه. لا يبلغُ كنهك أوهامُ العبادِ ولا حقائقَهم. يسرّحني ذكركِ في ميادينِ الحيرةِ، ويفتحُ عليَّ غمراتِ التفكُّرِ، ويوحشني عن العالمِ؛ ذكركِ وردٌ استهلكَ المحبّونَ فيهِ، واغترّ العذّالُ بأياديهِ. اختطفني مني على حينِ غرّةٍ، ومزجني بالملكوتِ هائمًا في الحضرةِ.تنهيدةٌ تعالت من صدرٍ صوفيٍّ تحيطُ بهِ البنادقُ وتحتشدُ حولَهُ السلطاتُ، فاكهةٌ للحُبِ قدّمها نزارٌ على مائدةٍ لا تسعُها الأراضي ولا السماوات.

(لا تهتمي في إيقاعِ الوقتِ وأسماءِ السنواتِ

أنتِ امرأةٌ تبقى امرأةً في كلِّ الأوقاتِ

أنتِ امرأةٌ لا أحسبها بالساعاتِ وبالأيامِ

أنتِ امرأةٌ تسكنُ جسدي قبلَ ملايينِ الأعوامِ

أنتِ امرأةٌ صنعت من فاكهةِ الحبِّ ومن ذهبِ الأحلامِ)*

٦

المحبّةُ إيثارُ المحبوبِ على جميعِ المصحوبِ، وموافقةُ الحبيبِ في المشهدِ والمغيبِ، واستقلالُ الكثيرِ من نفسِك، واستكثارُ القليلِ من حبيبِك.

محيي الدين بن عربي-الفتوحات المكيّة

٧

انشجَّ قلبي بالدعاءِ، وتجلَّى بالحمد. ناغيته على مهدِ الغرام، وصيَّرتُ من تهدُّجه حرزًا. رتَّلتُ أدعيةً للأملِ تتهالكُ فيها الأرواحُ وتفنى. تَسَلَّقتُ مآذن الوجدِ وأذّنتُ للفرجِ، همهمتُ بتمائمَ تتشكّلُ منها آفاقُ الخلودِ ولا تبصرُ لها نهاية. وأقمتُ للشوقِ صلاةً تنهى عن كربةِ البُعدِ وتأمرُ بالقبولِ والرضا. صيَّرتُكِ حرمًا لا يدبُّ فيه واشيٌ ولا رقيبٌ ولا يحلُّ به ظنينٌ ولا مريبٌ، ينتعشُ به العاثرُ ويتجدّدُ بنورهِ الداثر؛ مقامة* تردُّ بعتبٍ يتحرّقُ به القلبُ، ولطفٍ تحيا به الأرواحُ. تذوبُ منها الأكبادُ وتتعالقُ فيها الأماني. مجلسًا ممتلئًا بحديثٍ حلوٍ مع الحبيبِ، ليس لأحدٍ من تعريضِه وتصريحهِ نصيبٌ، يقظةٌ مقصورةٌ على الشوقِ إليكِ والوجدِ بك. فقد تركني الزمانُ متحرّقًا لوصلكِ، مشغولَ القلبِ به عاشقًا لفضلهِ، وأعانني على بعدِكِ بتسيارهِ. ولو لزمني لأفدته، ولو جزمَ عليَّ لطاوعته، فما رأيتُ مثلَ حسنِكِ زاده اللهُ ولا نقّصَه. ولستُ أدري علامَ حربي مع غيابِكِ، أَ لأنَّهُ ورَّثني حسرةً لا تفيء لي بها نعمةٌ؟ وهممتُ إلى حضرتهِ فسألته، ودنوتُ من محرابه وناجيته فقال، يا صاحبَ المقاماتِ، دعْ طريدَ الهوى حتى يتهادى في سُكرِه، ودعْ مقلِّدَ الحالِ حتى يمعنَ في نُكرِه. ودعْ فاطرَ السماواتِ حتى يُوصَفَ بذكرِه. وصارفْ نفسك في أنفاسِها وخواطرِها، وإن لم تقدرْ فاستأجرْ نائحةً تنوحُ عليك، فإنك في الأحياءِ ميتٌ. وانظرْ في ذاتِك تبلغُ حبيبَك، فأسرارُ الإنسانِ يا صاحبي في نفسهِ، وأسرارُ نفسهِ غريبةٌ بهيَّةٌ، لا تستوعبُ بتحصيلٍ ولا يُوقَفُ منها بتفصيلٍ، تسبحُ متمعنةً في منابعِ الزمانِ، ناظرةً على طولهِ، متعلمةً منه طولَ الاعتبارِ وشدةَ الاختبارِ.

زاغَتِ الأبصارُ يا نبعي حين سرحتْ نحوكِ، وارتدّتْ خاسِئة حين رامتكِ، وحارتِ الألبابُ حين فحّصتْ عنكِ وأمعنتْ في جوهرِ مكنونكِ.أنتِ حقيقةٌ غَفَلَ عنها محيي الدين، ووقفةٌ لم يبلغها النفريُّ.شطحةٌ لم يدركها أبو يزيد في معراجه، أملٌ دلَّه العرافين، ووهمٌ أكلَ الزهادَ، جنةٌ لا خطرَ لأهلِ المحبّةِ فيها، رقصةٌ مولويةٌ لم يكملها جلالُ الدين.نعمةٌ أزليةٌ تُوجبُ شكرًا أزلِيًّا يُصالِحُ الزمان.صالحت بيك أيامي، سامحت بيك الزمن، نسيتني بيك آلامي ونسيت معاك الشجن.هل يبدو الحبُّ قوةً وجوديةً تفرضُ سطوتها على الزمانِ وتطويه؟ لا أعرفُ ولا أظنُّ أنّ ثومة تعرفُ أيضًا.فالوقتُ يطوي تجاربَنا، يمحوها ويعيدُ تشكيلَ ذاكرتنا ومصيرَنا.وما أنا هنا إلّا لأجاريهِ أدلّله، وأقلّبه من قوةٍ ساحقةٍ إلى مجالٍ للتجاوزِ والتجديدِ.فالزاهدُ سيارٌ والعارفُ طيارٌ، ولا يدّعي أمينُ زورًا؛ لا سامح الله أنّهُ عارفٌ، ولكنّه يتوقُ إلى المعرفةِ ويحاولُ اكتشافها ويؤمنُ بحديثهِ هذا أنّ الأقدارَ تُؤخذُ من الأفواهِ.*

“أصلي صلاةَ الحبِّ وحدي جماعةً

تصفُ عيوني والفؤادَ إمام

يطيلُ فؤادي في الصلاةِ وصوتهُ

كأجملِ نبضٍ والبياتُ مقام

فيتلو عليهم سورةَ الهجرِ خاشعًا

لها سجدةٌ عندَ الوصالِ لزام

ويرفعُ عندَ الوترِ كفيه داعيًا

تلطّفُ بمن جارت عليه مرام

تردُّ عليه العينُ آمينَ فاستجبَ

ويسمعُ منها زفرةٌ وزكام”*

٨

كان قد قال آخر بيت من شِعره: اشتقت شوقا كاد يقتلني، ولم يكمل الشطر الثاني، لأن الشوق كان قد قتله بالفعل!

محمد المنسي قنديل-وقائع عربيّة

٩

قال الشيخُ الأرملُ إنَّ الوطنَ ليس البلادَ، وإنَّه سَكِرَ بدونِ شرابٍ، واجدًا في ثَملتِهِ أرواحًا تترنَّحُ في الضوءِ، وليلًا يسرقُ القلوبَ ويقذفُها إلى أكوانٍ بعيدةٍ، يُعيدُ تشكيلَ الأشياءِ ويُظهِرُهُ أحمقًا. أمعنَ في المسيرِ فوجدَ أشكالًا غريبةً، وأجسادًا متناثرةً، وأياديَ مبتورةً، وحضرةَ ذِكرٍ مهجورةً يُغطِّيها الدخانُ ويتراشقُ من جنباتِها الرصاصُ، وقبورًا فارغةً حُفِرتْ في الهواءِ. رأى الأرضَ عطشى، وأعناقَ الموتى منها تمتدُّ مُتلهِّفةً للماءِ. فركَ من شدَّةِ حسرتهِ يدَيْهِ، ورنا نحوَ سماءِ اللهِ الواسعةِ هاربًا من خرائبِهِ. كان عرَّافًا لا يعرفُ شيئًا عمَّا يرويهِ، ويحسبُ أنَّ النجمَ يُكلِّمُهُ ويرشدُهُ. نسي المراعيَ والذئابَ وكلابَ الحراسةِ، وجراحَهُ التي لعقَتْها الحشراتُ، وزغاريدَ العشيرةِ وهي تسحبُ رأسَهُ معصوبًا بالشوكِ والدمُ ينزفُ منهُ.

قال الشيخُ إنَّ الأيَّامَ خفافيش تُغَنِّي، وإنَّ الحزنَ سعادةٌ يتزيَّنُ بها الثكالى، وإنَّ البسمةَ لا تعني الأملَ، وإنَّ الهوى يلتهمُ ما مرَّ عليهِ، وإنَّ حواسَّهُ اشتعلتْ عندما بزغَتْ جثثُ زوجتهِ وابنهِ المحروقَيْنِ من الترابِ، ولعلَّهُ كذبَ على الزمانِ عندما قالَ لنفسهِ: لا يهمُّ، لأنَّ جسدَهُ الفانيَ يخوضُ حربًا خاسرةً. قال الأرملُ إنَّهُ استسلمَ وقرَّرَ الصلحَ لأنَّ النارَ أكلَتْهُ أيضًا.

قال أمينُ، إنَّ الهوى هائجٌ وهَّاجٌ، داءٌ لا يصحُّ معهُ علاجٌ، وإنَّهُ صَحْوٌ وسُكْرٌ، قَبُولٌ مُرصَّعٌ بالنُّكْرِ. قال أمينُ، إنَّ شذى روضِ الحبيبِ فاح، مذْ نقَّشَ الهوى أخضرَهُ بالأفراح، وإنَّ نبعَهُ قد صفا وراقَ، مذْ هَمَرَ عندَ حياضِهِ الدموع والأشواق.

***

أمين صباح كُبّة

..........................

١- حذاري يا صاحبي إنّ الهوى شركُ، تميم البرغوثي

٢- الأبيات للعبّاس بن الأحنف

٣- فاكهة الحب، نزار قبّاني

٤-الحسين بن منصور الحلاج

٥-المقامة في هذا الموضع جاءت من تأنيث المقام (كل مكان لا يؤنّث لا يعوّل عليه)

٦-محيي الدين بن عربي

٧- أبو يزيد البسطامي، والشطحة مصطلح صوفي أصله التباعد والاسترسال في الخيال.

٨-محمد بن عبد الجبار النفري،والوقفة هي رؤية الأشياء والكون من منظور يفوق كلّ علم بشري وكل معرفة صوفيّة إذ أنها تأتي من الحضرة الإلهية فحسب فالله هو الذي يجعل عبده يقف في الوقفة.

٩-جلال الدين الرومي

١٠-اشارة الى حديث (أقداركم تؤخذ من أفواهكم)

١١- الأبيات لشمس الدين التبريزي

 

في المثقف اليوم