أقلام ثقافية

جمال العتابي: أبو شمخي.. حارس مطبعة "الرواد" النسيان لا يليق بك!

أحلام السبعينات من القرن الماضي تتسم بحب متوهج لعمل كبير وجدنا أنفسنا فيه نحن مجموعة من الشباب، يجرفنا التفاؤل والحيوية، لا مجال فيه للحزن والاحساس بالكآبة، ومن دون شعور بلحظة (الصدمة) القادمة. كنا مستغرقين بسر العمل والتغلب على المصاعب، نكتشف معاني جديدة رحبة في أداء رعيل من الصحفيين والمثقفين والسياسيين بظل وارف ينتشر في موقعين، يطلّ أحدهما على شارع السعدون قريباً من سينما بابل، يتسع أمامه في الصوب الآخر شارع يؤدي إلى فضاء أبي نواس المزدان بالخضرة والماء والمقاهي والناس إلى ساعات متأخرة من الليل. هذا الموقع تشغله جريدة " طريق الشعب" التي عاودت الصدور العلني في 17 أيلول 1973.

أمّا الموقع الثاني فهو (مطبعة الرواد)، في الشارع المقابل للقصر الأبيض، بعيداً عن الزحام وضجيج السيارات والمارة، لا توحي أشجار الكالبتوس التي تظللها من جهة اليمين والمساحات الخضراء أمامها سوى مشاعر القلق والخوف والترقب، فنحن على بعد خطوات من مديرية الأمن العامة، التي (استقبلت) في زنزاناتها بعد سنوات معدودة (رفاق الأمس الحلفاء) ليتعرضوا فيها إلى الموت بجرعات السم والتعذيب بكل صنوفه. كانت أبنية الأمن تبدو لنا مظلمة معتمة كسواد شاغليها، ورعب أقبيتها السرية، إن مجرد التفكير بهذه (الجورة) كان يسمم حياتنا.

في هذا المكان شيّد أحد رواد الصحافة العراقية (جوزيف ملكون) مبنى لجريدته " الأخبار" التي صدرت في العهد الملكي، ثم واصلت الصدور بعد اسقاطه، كان المبنى مصمماً بطراز معماري وظيفي، جديد آنذاك.

لقد شهدت الجريدة والمطبعة جمعاً لا نظير في الصحافة العراقية، ووجد بعض هذا الجمع شهرة منحته التفوق والامتياز في سنوات لاحقة. لست بصدد الحديث عن هذه التجربة بكل تفاصيلها وأسمائها، فقد سبقني زملاء كثيرون في الكتابة عنها، كما انني تناولتها في مناسبات عدّة، كتبت عن ذاك الجيل الصاخب والمتحمس، عن مفاتيح الأحلام حيناً، وعن الأوهام حيناً آخر. عن التجربة بومضاتها العابرة، وبمضمونها وجوهرها الإنساني.

هذه المرة يقتضي الموقف الأخلاقي ضرورة الكتابة عن أولئك (الشغيلة) الذين يقفون في الظل، وفاءً لهم، وللنكهة الخاصة في تجربة كل واحد منهم، لكنهم متشابهون، انهم جميعاَ لا يملكون وقتاً للشكوى، لم يتناولهم الرواة، ولم يكتب عنهم الشعراء. أحدهم كان (أبو شمخي) حارس المطبعة، هذه كنيته، وحدها كانت تحيلنا إلى الشموخ، لكن لا أحد في ذلك الزمان تجرأ على المزاح معه، وسأله عن اسمه الحقيقي، ربما هو اسمه الحزبي.

أبو شمخي فلاح قدم من ريف الكوت، باعتقاد ان الكاتب شمران الياسري (أبو كاطع) اختاره لهذه المهمة، بعد أن أقنعه ترك مهنة الفلاحة والتوجه إلى العاصمة لأن الحزب يحتاجه لمهمة يصعب على ابن المدينة القيام بها، كان أبو شمخي رجلاً أمياً، لم يدخل المدرسة، ولم يتعلم القراءة والكتابة، لكنه تشبّع بتعاليم الحزب وحفظ عن ظهر قلب ما كان يسمعه في الاجتماعات السرية، وما يردده مسؤوله الحزبي: البرجوازية (غذرة)، الاقطاع (غذر)! الحزب ملح الخبز.

كان أبو شمخي يقف كل ليلة عند باب المطبعة، صامتاً كأنه حجر، مثل شجرة سدر نبتت في أرض عطشى، صامدة بالرغم من الجفاف، كان نحيل الجذع، سمرته لا تشبه غبار المدينة، بل تشبه طين نهر الدجيل، عيناه غائرتان تنوءان بحمل تعب قديم. يقف أبو شمخي في الباب الرئيس للمطبعة كما يقف على باب مقام مقدّس، عليه تقع مهمة عظمى: حراسة (الحلم) بما يملكه من صبر وثبات. تتدلى من كتفه بندقيته الكلاشنكوف وهي تلمع تحت ضوء المصابيح الخافتة، يرتدي زيّه القروي بعقال يميز أهل الكوت، بيشماغ يطوي أطرافة بعناية فائقة، كأنما يتهيأ لمعركة. دشداشته تلتصق بجسده النحيف، يدخّن بشراهة، سيجارة تلو الأخرى، يقرصها بين شفتيه وينفث دخانها بتنهيدة طويلة..

حين يطل القادم من آخر الزقاق، يضع يده على الزناد، ينظر بعين واحدة نصف مطمئنة، نصف متوجسة، وعلى الرغم من ضآلة جسده كان صوته غليظاً أجش: تفضل رفيق! منو أنت؟

ـ أنا فلان.

ـ نعم، أنت فلان، أعرفك، لكن سمّعني (سر الليل).

حصل هذا أكثر من مرة مع العاملين في المطبعة أو الجريدة.  حصل مع رئيس التحرير عبد الرزاق الصافي نفسه حين طلب منه أبو شمخي التوقف عند الباب ريثما يتأكد انه لم ينس (سر الليل)، كان الصافي يضحك بصمت ينتظر الإذن منه بالدخول!

ـ دقيقة رفيق، شنهي السالفة؟ هيه فالتوه !

دخل ابو شمخي إلى استعلامات المطبعة، ثم عاد ليسمح للرفيق بالدخول!

حقيقة الأمر لا وجود لوهم اسمه (سر الليل) في مؤسسة كانت ضاجّة بالحركة ليل نهار، مفتوحة للعاملين والزائرين. كان وهماً ابتدعه أبو شمخي خلق هذا الوهم لنفسه، معتقداً أن مطبعة صغيرة قادرة أن تهزّ عرشاً كاملاً، وبندقيته القديمة الصدئة كافية لردع من يتجرأ لاقتحام المبنى حتى وإن حصل في ساعة غادرة. نصّب نفسه وصياً على المطبعة ومن فيها، كان يظن أنه وحده المؤتمن على حياة العمال والعاملين فيها، وهكذا صار سر الليل عندهم نكتة ناعمة يتداولونها.

ابو شمخي كان حارساً للمعنى، وسطراً لا يمحى من تجربة عنفوان العمل وايقاعها الخاص. هو وأمثاله في المطبعة والجريدة لا يليق بهم النسيان، ولا ينصفهم إلا الحرف النظيف المضمّخ بالصدق.

أين أنت يا أبا شمخي؟ أي قفر هذا الذي ابتلع ظلك، وأية ريح عصفت بك؟ بعد أن سقطت الرايات التي رفعتها بيد متشققة من حرث الأرض، أتذكرك بوجهك النحيل، وجبهتك العالية، وعينيك اللتين كانتا تبرقان كلما جرى الحديث عن الاشتراكية القادمة من (شاخة 8) في ريف الدجيلة، كأنها آيات يقين لا تقبل الجدل. لكن الغد لم يأت يا أبا شمخي، بل جاء الخراب، وانهارت الشعارات!

هل نجوت بنفسك؟ أم دفعت ثمن إيمانك، كما يدفع الحالمون الثمن حين توقظهم مطارق الخيبة؟

سلام عليك يا أبا شمخي أينما كنت روحاً أم جسداً، ها نحن من بعدك، ما زلنا نرتّق الخيبات بخيوط الذكرى، نم بطمأنينة أيها الفلاح الحالم. تركت وراءك حقلاً ظل عطشاناً لوقع خطاك.

***

د. جمال العتابي

في المثقف اليوم