أقلام ثقافية
جورح منصور: دنيا ميخائيل تستحضر الرموز السومرية في "ألواح: أسرار الطين"
في أمسية ثقافية حاشدة، أقامها منتدى الرافدين للثقافة والفنون بالولايات المتحدة الأمريكية، تخللتها فقرات موسيقية تأملية ومداخلة نقدية قدمها الشاعر والناقد العراقي ناصر الحجاج عبر الفيديو، قدّمت الشاعرة العراقية دنيا ميخائيل قصائد من ديوانها الجديد "ألواح: أسرار الطين"، بحضور القنصل العام للعراق في ديترويت محمد حسن سعيد محمد.
لا يقتصر استلهام ميخائيل للرموز السومرية المنقوشة على ألواح الطين على مجرد استعادة الأثر التاريخي، بل يتجاوزه إلى إحياء هذه الرموز كأنساق دلالية حية، تعبّر عن صراع الإنسان المعاصر الوجودي والاجتماعي. فما كان يوماً رموزاً للخصب والماء والنور والآلهة في الفكر السومري، يتحول في نصوصها إلى إشارات نابضة بقضايا الإنسان اليوم: اغتراباً، وانكساراً، وبحثاً عن العدالة، واستعادة للمعنى في عالمٍ أنهكته الضياع.
هكذا ينشأ خطابها الشعري من تفاعل جدلي بين الذاكرة والأسطورة والواقع، ليكون النص فضاءً رحباً لوعي حضاري مزدوج: وعي بالماضي كمنبع للهوية، ووعي بالحاضر كامتداد متأزم لهذه الجذور. فاستدعاء الرموز السومرية لا يهدف إلى إحياء الأسطورة فحسب، بل إلى تحويلها إلى أداة نقدية تستشرف مستقبل الإنسان العراقي في ضوء إرثه الحضاري.
ولم تكتفِ ميخائيل بالكتابة فقط، بل أضافت بعداً بصرياً لقصائدها برسوماتها الشخصية، مما جعل العمل لوحة فنية متكاملة تجمع بين الكلمة والصورة. وقد حظي الديوان باهتمام دولي، توج بتبني اليونسكو أحد نصوصه - "ليكن الحب هو النظام العالمي الجديد" - ملصقاً رسمياً لقيمته الإنسانية العميقة.
فكرة "الحب كنظام عالمي" قد تبدو مثالية في عالم تحكمه المصالح والسلطة، لكنها تظل نقداً لاذعاً لواقع يفتقد لإنسانيته. فالحب لن يصبح نظاماً إلا بإعادة بناء الوعي الإنساني على أسس العدالة والاحترام، وإلا سيظل مجرد شعار عاطفي أعجز من أن يغير واقعاً قائماً على الخوف والطمع.
في أحد نصوص الديوان، الذي يضم عشرة ألواح يحتوي كل منها على 24 قصيدة قصيرة، تكتب ميخائيل: "الأشجار مثلنا تلجأ إلى جذورها وقت المخاطر". كأنها تقدم حكمة وجودية: في زمن الضياع، تكون النجاة بالعودة إلى الأصول، لا بالارتحال. فالنمو الحقيقي لا يكون إلا بالاتكاء على ما يثبتنا، كما تفعل الأشجار بجذورها.
وتواصل الشاعرة تأملاتها: "الأيام المكسورة لا تُصلَح كما تُصلَح الأشياء". فالأيام ليست مادة قابلة للإصلاح، بل نسيج معقد من اللحظات والمشاعر. لا نملك إصلاحها، لكننا نملك الوعي لتأمل انكسارنا، والقدرة على المضي رغم الجرح. فالكسر جزء من مسار الحياة، والتأقلم معه هو تحويل الألم إلى بصيرة، والخسارة إلى درس.
تكتب ميخائيل مستذكرة حكاية جدها الذي شبه زوجته بالتمرة: "حلوة لكن نواتها قوية". التمرة ليست مجرد ثمرة، بل ذاكرة الضوء حين يسقط على جسد الأرض، في هذه الاستعارة يتجلى توازن الوجود: حلاوة في المظهر، وقوة في الجوهر. وكما التمرة، تكون الحياة: رقة لا تتعارض مع صلابتها.
ولم يكن الجد يبكي عند النخلة الميتة شجرةً فقط، بل كان يبكي انكسار عالمه بفقدان زوجته. فالنخلة كانت مرآة لحبيبته، وظلها في حياته. بموتها، انطفأ آخر ضوء من زمن كان للحنين فيه مذاق التمر. بكى الحياة حين تفقد طعمها، والذاكرة حين تتحول إلى نواة صلبة لا تُكسر.
دنيا ميخائيل شاعرة عراقية تقيم في أمريكا، أصدرت عدد من الدواوين الشعرية حصلت عليها جوائز عالمية. أما روايتها "وشم الطائر" فقد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة (البوكر). وعن ديوانها الأخير" ألواح: أسرار الطين"، كتبت صحيفة كريستيان ساينز مونيتر: "مزج رائع بين الشعر والرسم بقلم شاعرة هي الأبرز بين شعراء هذا العصر".
***
جورج منصور







