أقلام ثقافية

توفيق التونجي: هولاهولت وغابات البلوط

من أوراق الذاكرة

فجأة وبين وسط غابات البلوط الكثيفة تظهر أمامك هناك بناء قديم تعود إلى نهايات القرن العشرين وكانت مصحة لذوي العاهات النفسية كمستشفى كبير ذو جناحين وبناية قريبة استخدم كإدارة للمصحة. غرف المصحة كبيرة جدا في يعيش فيها عدد من لاجئين ومنً جميعً أنحاء العالم. وصلت الى مكان سوق اللاجئين في مركز استقبال اللاجئين في العاصمة السويدية ستوكهولم بمعية بعض الأصدقاء حيث كنت قد سكنت عدده أسابيع في بيت صديقي الكركوكي النبيل هونر جلال الذي اعرفه منذ بداية الثمانينات حيث جاء لاجئا الى اوربا وصديق اخر من المسرحيين الكورد الأستاذ طه الباراوي.

وصلنا إلى مجمع اخر في صباح يوم قبل ٣٨ عاما في حافلة صغير وكنا تسعة شباب من اللاجئين من مختلف الدول. لم يتحدث احد طوال السفرة وصلنا إلى المكان استقبلتنا مدير المعسكر وسيدة قدمت نفسها كمترجم اسمها كما أتذكر (جزائر) تتحدث العربية والكوردية. سلمونا كارتون فيه بعض أدوات الطبخ وهذا يعني انتم مسولون عن طبخ غذائكم تتمكنون من الذهاب إلى مدينة (اورابرو) القريبة بالحافلة الذي تأتي مرة واحدة في اليوم واحذروا ان يفوتكم الباص عند العودة. يمكنكم شراء المواد الغذائية وكافة احتياجاتكم هناك. ممرات البناية كانت طويلة وعلى احدى جهاتها غرف كبيرة ذكرتني بمستشفى كركوك الملكي الذي تغير اسمه إلى الجمهوري بعد عام ١٩٥٨.

دخلت احدى تلك الغرف فتقدم لي ثلاثة من العراقيين وقدموا انفسهم ليصافحني:

حكمت، الدكتور علي و محمود الخانقيني واخرون لم يتحركوا من مكانهم، جالسين في صمت، هكذا كانت أسمائهم وهي على الأغلب أسماء مستعارة. خيروني في السرير الذي ارغب ان ارقد عليه. جلست على احدى الأسرة وبدا الحديث لنتعارف وكلهم طبعا كانوا عراقيين ولم تمر الا دقائق معدودة فأصبحنا كأننا أصدقاء منذ سنين.

كانت الحرب العراقية الإيرانية على اشدها ومعظم العراقيين كانوا قادمين من إيران إلا احدهم كان حزينا جدا ولم يتفوه بكلمة عرفت لاحقا انه فقد عائلته في انفجار لغم وهم يهمون بعبور الحدود العراقية التركية. بصورة عامة كانوا جميعا كئيبين رغم قهقهتهم. والابتسامة على وجوههم. كان حكمت من ملالي الحوزة النجفية وعلي واسمه الحقيقي اعتقد سمير يدعي بانه حاصل على الدكتوراه من هنغاريا ولديه جنطة (دبلوماسية) يأخذه معه دائما ويستهزئ به حكمت دائما قائلا:

الجنطه مليانه كلينكس (مناديل ورقية) ثم يضحك طويلا.

 كان علي ذو السمحة الصحراوية السمراء طيبا للغاية وهادئا وكمن أخذ دور مختار الحي يقدم النصح للجميع. يروي للجميع كيف وصل وجاء لاجئا بقارب صغير من بولندا يمتلكها شابين سويديين اضطر ان يتناول الأدوية المسكنة خلال عبوره لبحر بلطيق. وخلال ايام كان يجمع علب المشروبات الغازية في شوارع العاصمة ستوكهولم كي يتمكن من شراء الأكل اليومي إلى ان التقى بأخذهم من العراقيين ساعده في تقديم طلب اللجوء في الشرطة.

كان القاطع الذي سكناه مليئا بالأفارقة والتصادم الثقافي كان من ميزات العلاقة الاجتماعية. في اليوم التالي جاءت الحافلة وذهبنا إلى المدينة لشراء بعض الحاجيات والتبضع وفرحت حين وجدت مكتبة المدينة فقلت لأصحابي هذا وطني. كان المحل الوحيد الذي يبيع المواد الغذائية الشرقية في مركز المدينة قرب الحصن القديم الذي يتوسط قناة مائية يحيطهما كل الجوانب. المحل كان يديرها عائلة من الأكراد الفيلية محبوبين من الجميع لا أتذكر أسمائهم.

بعد أيام بعد مجيئ انتقل حكمت والدكتور علي الى مدينة أخرى في الشمال فيها معسكر يديرها الصليب الأحمر السويدي.  بقيت وحيدا في الغرفة وأنقذتني كتب المكتبة من الضجر ومن وحدتي فطلبت من اخي طارق الذي كان قد جاء قبلي للسويد ويقيم في مدينة (سودرهام) في الشمال أن يأخذني لأقيم معه وكنا ونأتي كل أسبوعين لاستلام المعونة من المعسكر.

لكن ذلك لم يستمر طويلا لان الدكتور علي صعب عليه ان يفرقني فذهب إلى مدير المعسكر وطلب منه نقلي. وبعد موافقة المدير اعتقد كان اسمه (أرنه) ارسل لي رسالة طلب مني الحضور إلى مدينة (ساندڤيكن) والى مقر المعسكر في حي (أيك سترا).

تلك الأيام لها طعم الحنظل لان نقلي أدى إلى تأخر حصولي على الإقامة حوالي سنتين لأنه وببساطة لم يتم إجراءات النقل بصورة صحيحة ولذا كتب على إضبارتي عنوان المتقدم الطلب مجهول. كان اللاجئين يأتون إلى المعسكر وبعد اشهر يحصلون على الإقامة ويتم تثبيتهم في بلديات المدن يبدئون بالحياة الطبيعية وتعلم اللغة والبحث عن العمل.

 إلى ان راجعت بنفسي الشرطة المحلية بعد ان تعلمت لغة البلاد التي درستها في الجامعة الشعبية في مدينة (يڤلا) وتحدثت معهم وأجابوني بان ملفي مغلوق لان عنواني مجهول او يعتقدون باني ربما تركت البلاد وتلك رواية أخرى.

هناك صفحات أخرى من دفتر الذكريات سأرويها لكم تباعا بإذن الله.

***

د. توفيق رفيق التونجي

 

في المثقف اليوم