أقلام ثقافية
محمد سعد: ذاكرة الطرقات وحكايات العابرين

في زحام الحياة العصرية، حيث تذوب الفواصل بين القرى والمدن، وتغمرنا موجات الموسيقى الحديثة، تبقى هناك أنغام خالدة تأبى أن تُنسى. إنها أغاني الزمن الجميل، التي لا تزال تتردد في الطرقات، يتناقلها المارة كأنها همسات الماضي، تتسلل من مذياع سيارة أجرة قديمة، أو تنبعث من نافذة مشرّعة في بيت عتيق، كأنها رسائل حب من زمن مضى.
كم مرة عبرنا بجوار حقل مفتوح في الريف، فسمعنا فلاحًا يهمس بلحن: "فلاح كان ماشي بيغني من جنب الصور...
شافني وأنا بجمع كم وردة في طبق بنور..."أو مررنا بمساء هادئ، فتناهى إلينا صوت أنثوي حالم يردد:"ياما القمر عالباب... مكسوفة مكسوفة منك..."وربما كنا في أحد الأسواق الشعبية، حيث ينبعث صوت فهد بلان من مذياع قديم يردد:"روح يا نسيم أرضها... خبرني عن أحوالها..."ليست هذه مجرد أغنيات، بل هي ذاكرة حيّة، تسكن وجدان الناس وتحمل في طياتها قصص الحب والانتظار، الفرح والحزن، التي عاشتها أجيال سابقة. إنها الألحان التي لا تهرم، بل تظل حاضرة كأنها جزء من روح المكان والزمان.
ذاكرة حية رغم تغير الزمن في الماضي، كانت الأغاني تصل إلى الناس عبر الإذاعة، أو في جلسات السمر، حيث يجتمع الأهل والجيران حول الراديو لسماع صوت أم كلثوم وهي تشدو:"على بلد المحبوب ودّيني...
يا ليل... يا عين..."أو يتمايلون مع ألحان عبد الوهاب وهو يغني:"كل ده كان ليه..؟
لما شُفت عينيه..."
كانت الأغاني تعبيرًا صادقًا عن نبض الحياة اليومية، سواء في الحب أو الفراق، في العمل أو السهر، في لحظات السعادة أو الألم. واليوم، رغم تغير وسائل الاستماع وانتشار الأغاني السريعة، إلا أن هذه الأعمال الخالدة ما زالت تجد طريقها إلى القلوب، ليس فقط لأنها تفوق في جودتها الكثير من الإنتاج الحديث، ولكن لأنها تحمل في طياتها حكايات الناس ومشاعرهم التي لم تتغير رغم تبدل الأحوال.
في الأسواق الشعبية، لا يزال البعض يدندن أغاني عبد المطلب وهو يغني:
"ساكن في حي السيدة...
وحبيبي ساكن في الحسين..."
وفي سيارات الأجرة، ربما تجد السائق يردد مع محمد رشدي:"عدوية... يا بنت السلطان..."
أما في القرى، فما زالت الأغاني التي تمجد الأرض والعمل تُغنّى أثناء موسم الحصاد، أو في ساعات الصباح الباكر، حيث يردد الفلاحون كلمات محمد قنديل:
"يا حلو صبح... يا حلو طل..."
لماذا تبقى هذه الأغاني...؟ ما يميز أغاني الزمن الجميل أنها لم تكن مجرد كلمات وألحان، بل كانت قصصًا قصيرة مغنّاة، تحكي عن الحب والحنين، عن الغربة والانتظار، عن الفرح والحزن. كانت تكتب بعناية، وتُلحن بعذوبة، وتؤدى بإحساس صادق من مطربين عاشوا الأغنية بكل تفاصيلها. اليوم، رغم موجة الأغاني السريعة التي قد لا تتجاوز بضع دقائق وتُنسى بعد أيام، فإن أغاني الماضي تبقى، لأنها خرجت من عمق التجربة الإنسانية، ومن بساطة الحياة وجمالها. ربما يمر الزمن، وتختلف الأذواق، لكن طالما بقيت هناك نافذة مفتوحة في ليل صيفي هادئ، أو قلب مُحب ينتظر، أو فلاح يمشي على الطريق الترابي بين الحقول، فستظل هذه الأغاني تتردد في الأفق، مثل أنفاس الزمن الجميل التي تأبى أن تموت!!
***
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري