قضايا
خالد اليماني: العلم الحصولي والعلم الحضوري

المعارف درجات من حيث قيمتها، وعلاقتها بالإنسان وكيف تطورت جدليًا عبر التاريخ الطويل للبشر. ذكر الفلاسفة قديمًا نوعان من المعارف التي يكتسبها الإنسان:
١- العلم الحصولي: أي العلم الذي نتعلمه من خلال المطالعة والتحدث مع الآخرين، أي من خلال الاكتساب.
٢- العلم الحضوري: وهو العلم الكشفي/العرفاني أو بلغة فلاسفة الإسلام؛ العلم اللدني.. اي العلم الذي ينكشف من لدن الله إلى العبد.
العلم الحصولي أوسع من حيث هو متوفر ومتداول في الموروث الإنساني عمومًا؛ إذ يمكن التعاطي معه وفهمه من خلال التعلم والصبر والمرونة. وبعض العلم الحصولي لا يكون علماً حصوليًا بحتًا، بل قد يكون مبعثه علمًا كشفيًا حضوريًا، ولكن بصورة اختزالية، بحسب قدرة اللغة على توصيف التجربة وقدرة خيال الملتقي وانشراح عقله على المعلومة.
هذه المعرفة هي المتعارف عليها والمتداولة بين أغلب الناس، بما في ذلك أكبر العلماء والفلاسفة، فهم يشتغلون عقلياً داخل أُطر جاهزة في التفكير، سواءً من خلال المنطق القديم أم الحديث، الفلسفي أم العقلي، إلى آخره. ومع ذلك، يظل جوهر المعرفة ليس بحضوري، إنما من خلال تجارب الآخرين أو فهمهم لتجارب أناس سبقوهم.
الأنبياء وأهل العرفان مثلًا، هم أصحاب المعارف الحضورية، أي أنهم حصلوا على تجارب من غير اكتسابها من الآخرين، عبر التجربة الصرفة وتأملها، ثم إيصالها للمجتمع. وغالبًا ما تُبتر هذه التجارب أو على الأقل يساء فهمها، لأن نورها قد يكون أقوى من أن يدركه من لم يسلك طريق الحضور.
ودائماً ما تتصارع هذه العقول المختلفة في مسائل الدين والسياسية وغيرها، لا سيما في قضية التأويل وكيفية فهم النصوص التاريخية.
أهل الكشف لهم طريقتهم الخاصة في فهم العالم، وهي طريقة تتجاوز كل التجارب الأخرى، بينما يثير هذا الأمر استياء الفئة الأخرى، ذوي المعرفة الحصولية، لأن في ذلك إهانة لعدم قدرتهم على فهم هذه التجارب إلا من خلال ما نُصّ به لهم، وكيف توارثوه عبر الأجيال، حتى أصبحت التجربة ملعونة في ذاتها، التي كانت إبتداءً هي البنية واللبنة الأولى لبناء المجتمعات.
العلم الحضوري يتجلى لفئتين:
الأولى: الفلاسفة والمتأملين الذين يتمردون بشكل كامل ويحققون استقلالية عقلية لفترات ممتدة، وعليه ينكشف لهم ما لا تعيه العامة.
والثانية: أصحاب التجارب الروحية الحقيقة، التي تشكل بالنسبة لهم قفزة في التجربة الوجودية، وبعدها تنعدم لديهم القدرة على التعبير بطريقة منطقية، أو يبدو كلامهم غير عقلاني لذوي العقول المُقلِّدة التي تدور حول ذات مقولات أجدادهم.
هذا النوع من العلم محظور في كل زمان ومكان، ويشكل خطرًا على صاحب التجربة اذا باح بها. ولهذا السبب، أعتزل الكثير من المتصوفة الناس، وقالوا كلامًا بدا وكأنه صادر من أشخاص فقدوا صوابهم، لكن واقع الأمر أنهم توسعوا في منطقهم فأصبح أوسع وأعمق مما يستوعبه الإنسان العادي؛ رغم أن الوصول ليس مستحيلًا لمن أراد، عبر التأمل الصادق.
ولهذا، فإن كل علم حضوري هو علم محظور ومحاصر، بينما العلم الحصولي المتراكم الذي اعتاد عليه الناس، هو الذي تستكن له المخيلة الإنسانية، والعقلية العلمية، لأنه لا يشكل اختراقًا للعادة، والإنسان بتكوينه يميل إلى العادة، والخوف من المجهول يحركه أكثر من أي شيء آخر.
وعليه نعي أن العادة تنحو نحو العلم الحصولي، بينما الخروج عن العادة، والعيش في خطر والمجازفة، وطرح الأسئلة الأكثر جرأة وغباءً – هي التي تكسر هذه العادة وتفتح إمكان الوصول إلى عقل وروح العلم الحضوري.
***
خالد اليماني