قضايا

حاتم حميد محسن: هل الاقتصاد علم؟ ماذا يقول اينشتاين؟

هناك من يزعم ان الاقتصاد ليس علما، لكن هذا الادّعاء يشير الى ان هؤلاء لا يعلمون ماذا يفعل العلماء. العلماء يلاحظون العالم الذي أمامهم. يطورون نظريات تسعى لتوضيح ما يرون. ثم يجمعون البيانات لإختبار نظرياتهم ويرفضون تلك التي لا تتطابق مع البيانات. هم يبذلون جهدهم لتجنب الميول الايديولوجية والافكار المسبقة. والأكثر أهمية، هم دائما يبقون منفتحين لتغيير أذهانهم عندما يرون هناك نظريات أفضل او بيانات جديدة. هذا الاتجاه يمكن تطبيقه سواء كان الفرد يدرس أسباب سقوط التفاحة من شجرة او أسباب تقلبات الناتج القومي الإجمالي بمرور الزمن. وكما ذكر البرت اينشتاين ان "جميع العلوم ليست أكثر من مجرد تحسين وصقل للتفكير اليومي". وهناك من يضيف ان قانون العرض والطلب يشبه قانون الجاذبية في الفيزياء، هذا القانون في العرض والطلب تم إثباته على مر القرون من خلال الملاحظة والدراسة. فكرة ان حجم المبيعات يهبط عند ارتفاع الاسعار تصح بنفس المقدار الذي يصح به القول عن الجاذبية: "ما يصعد الى الأعلى يجب ان يهبط الى الأسفل".(1).

اقتصاد البرت اينشتاين

يُعد اينشتاين أبرز علماء الفيزياء في القرن العشرين. في سلسلة من الأوراق نُشرت بين عام 1905 و 1916 هو وسّع وغيّر الى الأبد تصوّر الناس عن الكون. اينشتاين حسبما يذكر كاتب سيرته: "اسطورة حية، بطل شعبي حقيقي، يُنظر اليه كوحي يستمتع به افراد العائلة الحاكمة ورجال الدولة وغيرهم من المشاهير، نُظر اليه من جانب العامة والرؤساء كما لو انه نجم فيلم بدلا من عالِم".

ما تجدر ملاحظته هو ما طلبه الناس من اينشتاين للتعليق على العديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الهامة في ذلك الوقت. تعليقاته الاقتصادية والاجتماعية التي تم جمعها من تلك الاوراق تعكس تبنّيه للايديولوجية الاشتراكية المضادة للرأسمالية انذاك. هو يبدو جعل معظم انتقاداته لإقتصاد السوق مرتكزة على مفهوم "فائض قيمة العمل" الماركسي، والتي نشرها في كتاب صغير بعنوان "العالم كما أراه":

"عبر استعمال وسائل الانتاج، ينتج العامل سلع جديدة تصبح ملكاً للرأسمالي. النقطة الاساسية في هذه العملية هي العلاقة بين ما ينتجه العامل وما يُدفع له ... ما يستلمه العامل يتقرر ليس بالقيمة الحقيقية للسلعة التي ينتجها وانما بالحد الأدنى من حاجاته".

وفي أعقاب كارل ماركس وتوماس مالتس، استنتج اينشتاين ان الاجور تميل دائما لتُكبح الى "الحد الادنى من حاجات العمال" عبر المنافسة، لمصلحة الطبقة الرأسمالية الصغيرة والمهيمنة. طبقا لاينشتاين، الاجور في الولايات المتحدة كانت نسبيا أعلى من الحد الادنى لحاجات العمال بسبب ان البلد فيه الكثير من الموارد قياسا بسكانه.

أوضح اينشتاين ان الكساد الكبير (في الثلاثينات) هو نتيجة حتمية للتقدم التكنلوجي المتواصل الذي سمح للرأسماليين بتقليل العمل: "كما أرى، ان هذه الأزمة تختلف عن الأزمات السابقة كونها ترتكز على مجموعة جديدة كليا من الظروف، نتيجة للتوسع السريع في طرق الانتاج. مطلوب فقط جزء من عمل الانسان في العالم لانتاج الكمية الكلية من سلع الاستهلاك الضرورية للحياة".

وبينما هو أشاد في وقت ما بالمشروع الحر بسبب التقدم التقني الذي خلقه النظام، استمر اينشتاين باحتقاره للرأسمالية المنفلتة لأن "المنافسة اللامحدودة تقود الى تلف هائل في العمل، والى شلل في الوعي الاجتماعي للفرد.. هذا الشلل للفرد انا أعتبره أسوأ شرور الرأسمالية".

طبقا لرؤية اينشتاين العالمية، قادت التكنلوجيا ايضا الى تركيز القوة الاقتصادية بيد عدد قليل من الشركات: "هذه الأقلية الاقتصادية المهيمنة، عارضت تحجيم حريتها في التصرف، مطالبة بالخير لمصلحة كل الشعب."

دعا اينشتاين الى عدة حلول لمواجهة البطالة في الثلاثينات، كلها عدى واحد منها كانت يشوبها نوع من التفكير الاقتصادي الناعم السائد لدى اشتراكيي ما قبل الحرب العالمية الثانية، هذه الحلول:

1- تقليل اسبوع العمل لكي تختفي البطالة رسميا .

2- تأسيس حد ادنى للاجور بحيث تتماشى القوة الشرائية للعمال مع التضخم، ولكي يصبح لدى العمال الوسائل لشراء فائض المخرجات.

3- السيطرة على الأسعار (المقررة من قبل تلك الصناعات التي اصبحت احتكارية من حيث السلوك، الامر الذي لا يزيد فقط القوة الشرائية لأجور العامل وانما ايضا يحقق فوائد جانبية في كبح الاستثمار في التكنلوجيا التي تقلل كمية العمل المطلوب لإنتاج السلعة).

4- استبعاد كبار السن من انواع معينة من العمل (والتي اسميها أعمال غير تأهيلية)، يستلمون بدلا من ذلك دخل معين.

5- تنظيم الإنتاج والعمل والتوزيع طبقا لخطة محددة، من أجل منع طاقات انتاجية ثمينة من ان تُرمى بعيدا وان لا تصبح شرائح من السكان فقيرة.

6- السيطرة على عرض النقود وحجم الائتمان لإبقاء مستوى الاسعار ثابتا (وهذا هو الحل الوحيد من بين الحلول الستة الذي نال موافقة التيار السائد من الاقتصاديين الحاليين المناصرين للسوق) .

مع هذه الاستراتيجية من ست نقاط، اعتقد اينشتاين انه بالإمكان تأسيس توازن ملائم بين الانتاج والاستهلاك بدون تقييد كبير للمشروع الحر، وفي نفس الوقت وقف الاستبداد غير المسموح به لمالكي وسائل الانتاج (الارض والمكائن) في تقرير اجور تلك العناصر الانتاجية.

ان ما يثير التناقض في مخاوف اينشتاين المتكررة بشأن مصير الناس هو ان موقفه الفلسفي تجاه كل ما هو علمي كان متأثرا بالاعتقاد بان قوانين الفيزياء تُطبق في كل مكان وفي كل الأوقات، بحيث يصبح مستقبل الكون بكل تفاصيله ضروريا ومحددا كالماضي. اذا كان الامر هكذا، لماذا ننشغل بإعداد الاستراتيجيات للتحسين الاجتماعي هنا على الارض؟

لابد من الإقرار بالفضل لعدد من الاكاديميين والمفكرين – خاصة فردريك هايك وملتن فريدمن وبل بوكلي الذين مهّدوا لجعل تفكير اينشتاين المثير في الاقتصاد هو الآن معترف به على نطاق واسع.

***

حاتم حميد محسن

........................

المصادر:

1- WSJ opinion, June 4,2025

2- The Economics of Albert Einstein,www.cambridge.org/mckenzie

الهوامش

(1) الاقتصاد بشكل عام اعتُبر من العلوم الاجتماعية، لكن النقاد يرون انه لا يرقى لتعريف العلم لعدة أسباب منها نقص اختبار الفرضيات، فهو ليس كالعلوم الصرفة التي يمكن فيها اختبار الفرضيات في المختبر، وانما ميدان الاختبار فيه هو البلد ككل او العالم او القطاع مما يجعل من الصعب التحكم في الظاهرة، وكذلك قلة الإجماع بين الاقتصاديين، بالاضافة الى تأثير المواقف والميول السياسية المتأصلة. لكن رغم هذه الحجج، يبقى الاقتصاد يشترك بعناصر كمية ونوعية مع جميع العلوم الاجتماعية.

في المثقف اليوم