قضايا

مصطفى غلمان: "الهَابيتٌوس" الإعلامي والثقافي

في التغيير والاختلاف والتفكير النقدي

مثلما يؤسس بيير بورديو سوسيولوجيا التربية على سعي كل مجتمع إلى إعادة تشكيل ظروف وجوده وإنتاجه وفقا لفوارق بخلفيات ظرفية وبنفس الأوضاع الاجتماعية، فإن قابلية التغيير بإزاء هذه العملية، تأخذ بعدا آخر في نسق ما يسميه ب"الهابيتوس"، على أساس ترسيخ مبدأي الاختلاف والتمايز.

ولنفس القيمة والاعتبار، فإن اشتباك المصطلح مع الوظيفة الإعلامية، يقع في تماس الأنساق التربوية لدى بيير بورديو، والذي ترجمه في كتابه "نظرية الممارسة Esquisse d’une théorie de la pratique"، الذي يثير فيه أسئلة تفاعل الفرد والجمع في السوسيولوجيا، أو إشكالية الفاعلية والبنية الاجتماعي، ما يعضد اتساق مفاهيمه المركزية، خصوصا في بنى الحقل والرمز والعنف الرمزي.

ليست عشوائية، هذه الطفرة التأويلية الكامنة في الخيط الرابط بين التربية والإعلام، ف"الهابيتوس"، ليس فقط مجرد أنماط اجتماعية، استنبتت على أرضية قيم المجتمع وعاداته، وثقافته وهويته فحسب، بل هي وفرة إبداعية ناتجة عن خلق وابتكار وتحفز وامتداد، بما يعني عند بيير بورديو ذاته، "البنية الداخلية" التي تنحت سلوك الفرد وتستدرجه لإقامة شخصية مستقلة وتفكير حر وتجرد قيمي وأخلاقي واضح المعالم والأهداف.

هذا القالب الرؤيوي للعالم، يتجسد أيضا في أقصى نظام للفعل التربوي الإعلامي المشترك، إذ لا يمكن انتظام الأخير وقيامه دون سلوك إعلامي يقيس طبيعة الفرد في المجتمع، ويحوله إلى فاعل إيجابي، وبالتالي يصبح "للهابيتوس" سلطة تقديرية متناغمة مع رسالة الإعلام، بما هي معرفة ووسيلة لنشر التربية وتحقيق السمو الأخلاقي والقيمي والامتدادي.

وإذا كان مجال الواقع الإعلامي، يشتمل على آليات توليدية وبنى واقعية عميقة غالبا ما تفلت من الملاحظات المباشرة، فإن مجالات الواقع والتجريب تشمل من الناحية الأخرى الأحداث التي تنتجها سببيا هذه الآليات والهياكل (الفعلية)، فيصبح بالمعنى التناصي لالتقائية (الهابيتوس) التربوي بالإعلامي، أمرا محتوما، ما دام تشابك الهدف ينسحب إلى ما كنا دائما نربطه بسوسيولوجيا المجتمع، التي تتوخى دراسة الإنسان واختياراته وسلوكياته، بشكل غير منفرد، ابتداء من تفاعلاته وانتقالاته وأفكاره، دون تجاوز أسباب التغيرات التي طرأت عليه، بما فيها تلك التي تقيس علاقته بالجوانب الثقافية والهوياتية المحضة.

فإذن، يصير (الهابيتوس) هنا، قيمة إعلامية تتمايز اعتباريتها في صميم عناصر السوسيولوجيا ذاتها، حيث يرمز المجتمع إلى بنية محددة، بقوة التاريخ والاستمرارية والاكتفاء، وتنشط الثقافة بإزائه لتصير مخصوصة بقيمة الإضافة والتعدد والاكتساب والرمزية، ثم يليهما في الأثر وقوة الحضور، وشيجة البناء الاجتماعي المحكوم بالصيرورة والاستقرار الزمني، فالنظام الاجتماعي المتسم بتحديد الوظائف والخاصيات، بتفاعلات وتغيرات ديناميكية نسقية، دون أن نتحاشى هامش التنبؤات والتوقعات المرصودة في أفق استتباع هذه العينة، يستقصي درجة فهما الحقيق للأنماط الإعلامية المتغيرة، ولعلاقتها بأنظمة الحياة الجديدة، والتقائيتها بالعوالم الأخرى التي تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد، والثقافة بالهويات، وتكنولوجيا التخطيط بالسيطرة العولمية، وتشابكات كل ذلك مع الحدود والتمايزات التي تشترطها القوى العالمية المهيمنة.

إذا كان مفهوم الهابيتوس ينكفأ تأسيسيا على ما يشبه "العقل العملي" أو "الحس العملي Sens Pratique"، بما هو نتاج لعملية تشريط اجتماعية متلاحقة، تصل في نهاية الأمر إلى بنا ء منطق موضوعي لعملية التشريط ذاتها، بما يجعل إعادة إنتاج شروط وجودنا الخاصة، تمنعنا من إدراك حقيقي واضح وموضوعي، فإن اتساق تكيف هذا الهابيتوس مع ديمومته ونموه، لايزال يحافظ على نفس سماته القائمة على الاستمرارية، والشمولية، والقدرة على التكيف والتحول، وهو ما يؤكد شموليته وتجذره مع معطيات لا تخرج البتة عن منطقه الداخلي، والذي يمارس أدواره في مختلف المواقف الاجتماعية، وفي مختلف قطاعات التكوينات الاجتماعية المتنافرة، على أساس إعلامي أو ثقافي محض.

***

د. مصطفى غلمان

 

في المثقف اليوم