قراءات نقدية
إبراهيم أبو عواد: مركزية الألم في شعر الرثاء
شِعْرُ الرِّثَاء لَيْسَ تَجميعًا عشوائيًّا لِصِفَاتِ المَيِّتِ وخصائصِه وذِكرياتِه وأحلامِه، أوْ حُزْنًا عابرًا سَرْعَان مَا يَذهَب إلى النِّسيان، إنَّ شِعْر الرِّثَاء نظام إنساني مُتكامل، تَندمج فيه رَمزيةُ اللغةِ معَ مركزيةِ الألمِ لِتَوليدِ فَلسفةٍ اجتماعية تُؤَسِّس لحالة تَوَازُن بَين حَتميةِ المَوْتِ (الانطفاء) ومَرجعيةِ الحُزْنِ (الاشتعال)، حَيْث يَنبعث الحُزْنُ في التفاصيل اللغوية العميقة مِن أجْلِ تَجميدِ الزَّمَنِ، وتَخليدِ المَيِّتِ . وإذا كانَ البُكَاءُ على المَيِّتِ لَن يُرجعه، فإنَّ اللغةَ قادرة على إرجاع المَيِّتِ طَيْفًا حالمًا مُتَدَفِّقًا لا جسدًا ذابلًا مَحدودًا .
والإنسانُ في الواقعِ الماديِّ المُغْلَقِ هُوَ كِيَان مِن لَحْمٍ ودَمٍ، مَصِيرُه إلى التُّرابِ، ولكنَّ الإنسانَ في رَمزيةِ اللغةِ المفتوحةِ هُوَ تاريخ مِن بَريقٍ وفَضَاء، مَصيرُه إلى الذاكرةِ . وهذه الذاكرةُ ضَوْءٌ يَتَفَجَّر في أقاصي الشُّعور وأعماقِ المَعنى .
مَركزيةُ الألمِ في شِعْرِ الرِّثَاء لَيْسَتْ تَخليدًا للمَيِّتِ فَحَسْب، بَلْ هي أيضًا تَجسيدٌ للوِجْدَانِ وَفْق صُوَر شِعْرية مُهَيِّجَة للمَشاعرِ والأحاسيسِ، وإعادةُ تأويل للوُجود، بِحَيْث تُصبح الأحداثُ اليوميةُ المُعاشة تفاعلاتٍ مُستمرة بَيْنَ الألمِ والحُلْمِ، وانفعالاتٍ مُتواصلة بَيْنَ الحُزْنِ والرَّمْزِ، وهذا يُؤَدِّي إلى كَشْفِ أسرارِ الحَيَاةِ، ومَعرفةِ مَسَارِ الإنسانِ ومَصيرِه، والوُصولِ إلى مَغْزَى الروابطِ الإنسانيةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية في عَالَمٍ مُتَغَيِّرٍ يَقُوم على التَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّةِ والواقعية . ولا يُمكِن أن يَثْبُتَ الحُلْمُ إلا في الذاكرة، ولا يُمكِن أن يصير الجَسَدُ طَيْفًا إلا في اللغة .
والمَوْتُ يُفَجِّر الطاقةَ الرمزية في اللغة، فَتَصِير الكلماتُ شُعلةً مِنَ الحَنين، الحنين إلى أزمنة سحيقة لا تَتَكَرَّر، والحنين إلى أمكنة غابرة لا تَعُود، وتَصِير المعاني مصابيح مِنَ الدَّمْع، الدَّمْع النابع مِن التَّأمُّلِ في طبيعة الحياة الفانية، والدَّمْع النابع مِن ماهيَّة المَوْتِ باعتباره الحقيقة الوحيدة في كَومةِ الأوهام التي تُمَزِّق رُوحَ الإنسانِ، وتَستنزف جَسَدَه حتى الرَّمَقِ الأخير .
وإذا دَخَلَ المَوْتُ إلى فَلسفةِ اللغةِ نَصًّا ورمزًا وتَعبيرًا، فإنَّ زاوية الرُّؤية إلى الحياة سَتَتَغَيَّر، ويُصبح الطريقُ إلى مَعرفةِ النَّفْسِ البشرية طريقةً لتفكيك عناصرِ الوُجودِ والوِجْدَانِ معًا، وعِندئذ يَصِير الخَوْفُ مِنَ الزَّوَالِ حُضورًا لُغويًّا طاغيًا، ويُصبح الخَوْفُ مِنَ العَدَمِ وُجودًا قائمًا على خُلودِ الكلماتِ القادرة على حَمْلِ الإنسانِ رُوحًا وجَسَدًا، وحمايته مِنَ الفَنَاءِ، وحراسته مِنَ الماضي الذي لا يَمْضِي، والزَّوَالِ الذي لا يَزُول، والغِيَابِ الذي لا يَغِيب . ولا شَكَّ أنَّ الكلمات هي شرعيةُ البَقاءِ في عَالَمٍ لا يَبْقَى، ومَنْبَعُ اليَقينِ والأمانِ في عَالَمٍ تُسيطر عليها الشُّكُوكُ والمَخاوفُ .
والألمُ الذي يُسَبِّبُه المَوْتُ يُصبح _ مِن خِلال التَّكثيف الشِّعْريِّ _ دافعًا إلى الخُلودِ، وتَخليدِ اللحظة الآنِيَّة، حَيْث يَصِير المَوْتُ في شِعْر الرِّثَاء وِلادةً جديدةً، وانبعاثًا مُتواصلًا، واستعادةً لزمنِ الأحلامِ الوردية مِن قَبضةِ الغِيَابِ الخَشِنَةِ .
وكُلَّمَا تَجَذَّرَ الحُزْنُ في تفاصيل البناء اللغويِّ، تَكَرَّسَت العَلاقةُ الفلسفيةُ بَيْنَ الحَيَاةِ والمَوْتِ، واللمعانِ والانطفاءِ، والوُجودِ والعَدَمِ، والبَقَاءِ والفَنَاءِ، وهذه العَلاقةُ الفلسفيةُ تُسَاهِم في انتشالِ الذكرياتِ المَنسيةِ مِن هاوية الغيابِ السحيقة، واستعادةِ الأحلامِ المَقموعةِ مِن مَتاهةِ الزمن القديمة، كما تُسَاهِم في تَحديدِ الخَطِّ الفاصلِ بَيْنَ المَوْتِ بِوَصْفِه الحقيقة الوحيدة في الحياة، والمَوْتِ بِوَصْفِه الحياة الحقيقية القائمة بذاتها . وهذا يَعْني أنَّ للمَوْتِ وَجْهَيْن : معنوي ومادي، وبُعْدَيْن : مَحسوس وغَيْر مَحسوس .
وشِعْرُ الرِّثَاءِ يُعيد صِياغةَ العَلاقةِ بَيْنَ الألَمِ والبُكاءِ اعتمادًا على المَنظور اللغوي الرمزي، ويُعيد تَكوينَ المَعاني الفلسفية العَميقة استنادًا إلى ثُنائية (الخُلودِ / العَدَمِ) . والواقعُ المَادِيُّ نَسَقٌ حياتي زائل، والأحداثُ اليوميةُ أرشيفُ النِّسيانِ . والإنسانُ سَيُصبح طَيْفًا عابرًا، وذِكْرَى باهتة، كأنَّ شيئًا لَمْ يَكُنْ، ولكنَّ اللغة تَجعل الإنسان كِيَانًا مَعرفيًّا خالدًا، وكَينونةً فِكريةً باقيةً، لأنَّ اللغةَ خالدةٌ في قَلْبِ العَدَمِ، وباقيةٌ في الفراغِ المُوحِش .
إنَّ الألَمَ لَيْسَ شُعورًا هُلاميًّا مُجَرَّدًا، وإنَّما هُوَ نظامٌ فلسفي، وشكلٌ مِن أشكالِ الانبعاثِ الدائم، ومَركزيةُ الألَمِ في شِعْرِ الرِّثَاءِ تَجعل للمَوْتِ بُعْدًا جَمَالِيًّا، حَيْثُ تَؤُول لحظةُ الفِرَاقِ إلى لِقَاء مُتَجَدِّد معَ الماضي والحاضرِ، وتَصِير لحظةُ النهايةِ نُقْطَةَ انطلاقٍ لبداية جديدة، وتُصبح غُربةُ الرُّوحِ في البَدَنِ زَمَنًا مُتَدَفِّقًا في الهُوِيَّةِ المَعرفية للوُجود الإنسانيِّ، وَيَتَحَوَّل اغترابُ الجَسَدِ في التُّرَابِ إلى تَجربةٍ شِعْريةٍ لها أسرارُها المُستمدة مِن الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدهِشة، ولها عوالمُها القائمةُ على الدمعِ المُضِيء في نظام استهلاكي مادي مُعْتِم، ولها جُذورُها الراسخة في الروابط الإنسانية النبيلة . وكأنَّ صَدْمَةَ المَوْتِ تُولِّد أزمنةً جديدةً للحياة، وتَفْتَح الماضي على الوَعْي بالحاضر، مِن أجْلِ حِمايةِ مَاهِيَّةِ التاريخ مِنَ الانكسار، وحِمايةِ سُلطةِ الحضارة مِنَ الانهيار .
وإذا امْتَصَّ الإنسانُ صَدْمَةَ المَوْتِ، وفَرَّغَ ألَمَه وحُزْنَه في اللغةِ، فَإنَّ اللغةَ سَتُعِيد اكتشافَ أسرارِ الوُجود التي تَنْمُو في داخلِ الإنسانِ، وتُعِيد تَرتيبَ العلاقاتِ الاجتماعية في الأحداث اليومية، فَيُصبح المَوْتُ بِدايةً جديدةً للأحلامِ والذكريات، وتأمُّلًا دائمًا في الحياةِ باعتبارها الفُرصة الوحيدة للإنسان كَي يَترك بَصْمَتَه في رُوحِ التاريخ، ويَترك أثَرَه عَلى جَسَدِ الحضارة .
***
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن