قراءات نقدية
عدنان حسين أحمد: نُصب الحرية.. بوصلة العراقيين إلى قلب بغداد النابض
يستحق "نُصب الحريّة" العديد من الأفلام وذلك لأهمية الفنيّة والرمزيّة والتاريخية. وقد سبق لبعض المُخرجين العراقيين أن أنجزوا أفلامًا وثائقية تتمحور ثيماتها على فكرة النُصب ومُنفِّذها الفنان جواد سليم والظروف والملابسات التي أحاطت بإنجاز هذا العمل النحتي الضخم الذي لم يسبق لنحّات عراقي أن أنجزَ نُصبًا بحجمه منذ 2500 سنة. ويمكن الإشارة إلى بعض الأفلام الوثائقية والبرامج التلفازية في هذا الصدد وهي "نُصب الحريّة" الذي يتحدث فيه النحّات محمد غني حكمت عن النُصب ومُبدعه على مدى 21 دقيقة. الفيلم من إخراج محمد صباح وإنتاج تلفزيون العراق سنة 2001 أمّا العمل الثاني فهو "جواد سليم . . نحّات الحريّة"، إعداد أحمد سعداوي، وإخراج محمد جميل وإنتاج تلفزيون "الشرقيّة" لسنة 2009، بينما ينضوي العمل الثالث تحت عنوان "الدّالة نُصب الحرية" للمخرج أحمد عبّاس وهو من إنتاج القناة العراقية الإخبارية وما سواها من أفلام وبرامج وتقارير يعتمد بعضها على لقاءات حيّة وأخرى مُقتبسة عن حوارات ومقابلات وأفلام سابقة.وبعد ستة عقود ونصف العقد تقريبًا على افتتاح "نُصب الحريّة" يأتي المخرج حيدر موسى دفّار الذي يتكئ رصيده الإخراجي على أربعة أفلام وثائقية وروائية متوسطة وقصيرة لينجز لنا فيلمًا وثائقيًا ناجحًا يعتمد على تقنية "الرؤوس المتكلّمة" و"الفويس أوفر" أو التعليقات الصوتية التي سلّطت الضوء على مضمون الفيلم وثيماته الفرعية الشائقة. ولكي نكون أكثر دِقة لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المخرج قد حاورَ ثماني شخصيات عراقية وهم على التوالي: الفنانة التشكيلية نادية فليّح، والروائي علي بدر، والنحّات د. فاخر محمد، والمهندس المعماري رفعت الجادرجي، والفنان التشكيلي عادل جبار، والنحّات رضا فرحان، والفنانة آلاء حسين، ويمكن إضافة شخصية الفنانة لورنا سليم إلى قائمة المتحدثين عن زوجها، مُبدع النُصب وصانعه جواد سليم، وإن كان هذا الحديث مُقتبسًا عن لقاء سابق كما هو الحال مع حديث المهندس المعماري رفعت الجادرجي. لم تكن إطلالات المتحدثين متساوية فبعضهم ظهر لثلاث مرات مثل علي بدر وفاخر محمد، بينما ظهر رضا فرحان ونادية فليّح لمرتين، فيما اكتفى الخمسة الباقون بالظهور لمرة واحدة قائلين فيها كلّ ما يعِنُّ في عقولهم وقلوبهم وذاكرتهم القوية التي لم يؤرِّقها النسيان. أمّا الشق الثاني الذي يتمحور على التعليقات الصوتية التي سمعناها مسجّلة بصوت الفنانة آلاء حسين فقد بلغت عشرة تعليقات متفاوتة الطول والأهمية الفنية. وهناك تعليق صوتي آخر مُقتبَس لمذيع يتحدث عن رحيل الفنان جواد سليم وتشييعه إلى مثواه الأخير. وفي معرض إجابتها على سؤال إعلامية أجنبية تقول لورنا عن زوجها جواد سليم:" لقد كان ممتعًا جدًا، ولديه روح جميلة، ويحب إلقاء النُكات لكنه كان رصينًا في عمله وجديًا قَدْر تعلّق الأمر بالحياة والموسيقى والعالَم. كان دمث الأخلاق". وردًا على سؤال الانجذاب والتناغم بين الاثنين تجيب لورنا:"لا أعلم أنه التناغم ولا يمكن تفسير هذا التناغم. نحن الاثنين نحبّ الأشياء نفسها؛ نحبُّ الموسيقى لكن السؤال هو: هل أنا مُنجذبة إليه أم هو الذي انجذب إليّ؟نُصب الحرية .. أهم علامات بغداد المعاصرة
تُعدّ هذه الحوارية مَدخلًا جيدًا لولوج إلى عالَم جواد سليم وشخصيته المنزلية التي لا يعرف عنها المتلقي كثيرًا. يكشف التعليق الأول بأنّ جواد سليم لم يشهد افتتاح نُصبه سنة 1961 لأنه غادرنا شابًا. "يُعدّ هذا النُصب أهم علامات بغداد المعاصرة. وليس مُصادفة أن يقف العراقيون عنده وهم يطالبون بحقوقهم المشروعة لأنّ الأحلام التي دُفِنت في النصب وفي مبدعه هي أحلام الملايين من العراقيين الذين انتفضوا على القمع والظلم وثاروا للتخلّص من العبودية والاستعمار الأمر الذي وحدّهم جميعًا واستنهض في أعماقهم أروع القيم الإنسانية وأجملها على مرّ الأوقات والعصور".
ترى التشكيلية نادية فليّح بأنّ النُصب أصبح مكانًا للتجمّع، والتعبير عن الرأي، والمطالبة بالحقوق الإنسانية المشروعة فلا غرابة أن يكتسب المكان رمزية عالية في نفوس العراقيين الأحرار. تتوقف نادية عند اللافتة التي تضم قصة مسرودة أو بيتًا من الشعر يُقرأ من اليمين إلى اليسار ويهيمن على مساحة بصرية مفتوحة متضادة الألوان يمكن ملاحظتها من قبل القادمين من الجسر أو المارين بالقرب من النُصب أو تحته.
يُذكِّرنا التاريخ القريب بأنّ هناك منْ حاول هدم النُصب وإزالته من الوجود بوصفه بُدعة أو لعنة لكن تلك الأصوات المشروخة البائسة سرعان ما تهافتت أمام هذا العمل الفني العظيم الذي يقترن بمدينة الحرية والمحبة والسلام وهي تنسج حضورها البهي المُستعاد عن مدينة عنيدة حملت مُشفّرات أور والوركاء وأكد ونينوى وسيفار وآشور وأشنونا والحضر.يعتقد علي بدر بأنّ الشيءالرمزي الكبير الذي خلقهُ جواد سليم في هذا النصب هو فضاء الحريّة الذي يعني أكبر من الثورة ذاتها لذلك سعت السلطات اللاحقة إلى هدمه وطمس معالمه لأنه يرمز إلى مرحلة لم يكونوا على وفاق حقيقي معها. ويرى أنّ جواد سليم حينما سافر إلى الغرب ودرس هناك أيقن أنه ليس بالضرورة أن يقلّد الغرب لذلك التجأ إلى ثراته وآمنَ بفكرة الأسلوب وليس بالمعنى الذي يمكن أن تجترحه من ثقافتك ومرجعياتك التراثية.
يؤمن بدر بأنّ البحر لا يرمي سمكة كبيرة دائمًا فهناك أسماك صغيرة كثيرة تنقذف إلى الشاطئ. والفن، مثلهُ مثل الأدب، حيث هناك مجموعة تأخذ كل شيء ولا تقبل بالحلول الوسطى، فإمّا أن يكون الفنان كبيرًا أو صغيرًا. ويرى بدر أنّ المرحلة الليبرالية مهمة جدًا في تاريخ العراق فحينما ظهر التيّار الليبرالي الثقافي الذي بنى الدولة والاقتصاد والمجتمع رغم حركته البطيئة التي ظهرت في بدايات القرن العشرين لكنّ حقبة الخمسينيات قد شهدت الإنجازات الحقيقية مثل الشعر الحُرّ الذي أتى به السيّاب، والرواية التي جاء بها التكرلي، ورغم ظهور الكثير من الأسماء الفنية إلّا أنّ جواد سليم كان الأهمّ ويمتلك الوعي الأكبر حيث رسم نقطة البداية للفن المعاصر وسوف يترك أثره على المشهد الفني العراقي برمته.
التلاقح بين التراث والمُعاصرة
تنبّه صاحبة التعليق الصوتي إلى التلاقح والمزاوجة بين التراث والمعاصرة فالكُتل البشرية المثبتّة على جدارية رفعت الجادرجي تحمل ملامح قادمة من حضارات وادي الرافدين القديمة كالسومرية والأكدية والآشورية لكنها تقدّم في الوقت ملامح للإنسان العراقي المعاصر كلما دعت الضرورة إلى ذلك غير أن الشخصيات القديمة والحديثة تشخّص لحظة الحرية التي جسّدها جواد سليم في جداريته الخالدة.
نفى رفعت الجادرجي رغبة الزعيم عبدالكريم قاسم بوضع صورته داخل النصب ومع ذلك فقد ظلّ جواد سليم مرتبكًا لبعض الوقت لأنه تناهى إلى سمعه ذلك الخبر وحينما أبلغه الجادرجي بصفة رسمية بأنّ الزعيم لا يريد وضع صورته شعر بالارتياح وتخلّص من القلق الذي كان يُهيمن عليه لمدة طويلة من الزمن.
يذهب البعض إلى أبعد من حدود القلق الذي أصاب جواد سليم، فالفنان التشكيلي عادل جبّار يرى أن مرض جواد ووهنه ليس عضويًا وإنما بسبب سجنه من قِبل حكومة الجمهورية الفتية التي أرادت وضع صورة الزعيم في القطعة الدائرية التي تمثِّل الشمس التي يستضيء بها الشعب العراقي وحينما رفض سليم زجّوه في السجن الأمر الذي أفضى إلى مرضه ووفاته لكنه لم يقدّم أدلّة دامغة تُثبت حبسه أو احتجازه.
لا شكّ في أنّ الجمهورية الجديدة طلبت من جواد سليم تمجيد ثورة 14 تموز 1958 بواسطة هذا النُصب الذي يتألف من 14 قطعة من المصبوبات البرونزية المنفصلة التي يبلغ متوسط ارتفاعها 8 أمتار وتُشاهَد مثل بيت من الشعر العربي الذي يُقرأ من اليمين إلى اليسار أو سردية بصرية تصوّر ارهاصات ما قبل الثورة وفي أثنائها ثم حالة الوئام اللاحقة لها. فكل قطعة هي فكرة قائمة بذاتها لكنها تتصل بالأخرى ضمن سياق يُعبِّر عن النُصب بأكمله. ويمكن إيجاز هذه الفكرة بـ "توق العراق للحريّة منذ القِدم وتقديمه للضحايا من أجلها".
لمسات تعبيرية مُرهفة
يؤكد الفنان التشكيلي د. فاخر محمد بأنّ العراقيين قدّموا منجزًا فنيًا كبيرًا في الحضارات العراقية القديمة حيث أنجز الآشوريون أعمالًا نحتية هائلة في القصور الملكية والمعابد، كما أنجز البابليون بُوابة عشتار، وشارع الموكب لكنّ هذه الحضارات شاخت وتعرضت للانهيار ولم يُنجز العراقيون منذ ذلك الحين عملًا مثل نُصب الحرية الذي يعتبر بداية جديدة للفن العراقي وعلامة فارقة لا يمكن تجاوزها ما لم تجود علينا مخيلة النحّاتين بعمل ضخم يبزّ "نُصب الحرية" ويتجاوزه شكلًا ومضونًا. يؤكد فاخر محمد بأنّ جواد سليم نحّات محترف، وفنان تشكيلي، وتتميّز أعماله بطغيان الجوانب الرمزية والفكرية إضافة إلى التقنية العالية التي تتجلى في "نُصب الحرية"، ويلفت الانتباه إلى الحِرفية العالية في غالبية الفيغرات الموجودة مثل السجين السياسي أو الأم المنحنية على الشهيد أو الثور والعامل وغيرها من الأعمال الضخمة التي شغلت الجدارية الكبيرة بأبعادها المعروفة ( 50 × 10م) ويرتفع عن الأرض بـ 6 م. وعلى الصعيد التقني لا يرى فاخر أنّ منحوتات النصب أكاديمية خالصة منفّذة على طريقة النحت الفلورنسي أو الإيطالي الكلاسيكي الدقيق وإنما تنطوي على اختزال رائع أضاف سمة جمالية كبيرة لنصب الحرية عززت فيه الجانب التعبيري المرهف الذي يحمل روحية الفنان وخلجاته. ويذهب فاخر إلى أنّ صحة جواد سليم قد انتهت في "نُصب الحرية" وأنّ انهياره البدني قد حدث بسبب الجهود الجهيدة التي بذلها في هذا النصب الشامخ والكبير. يصف جواد أسلوبه وأشكاله وألوانه الخافتة بأنها تمتدّ في جذورها إلى فنون أسلافه التي تعود لآلاف السنين قبل الميلاد، أمّا مصادره وتفسيراته التاريخية فهي جزء لا يتجزأ من رؤى وأفكار جماعة بغداد للفن الحديث ولا يجد أي صراع بين إيمانه بالتراث والحداثة.
يُؤكد النحّات رضا فرحان على هذا التلاقح وأنّ أعضاء مدرسة بغداد للفن الحديث زاوجوا بين الموروث القديم والمعاصر وأنّ غالبية الأعمال الفنية العراقية كالمسلّات وغيرها تعتمد على تقنية الجدار وهي المعطى نفسه الذي استعمله جواد في هذا النُصب لكن مفرداته معاصرة فالجندي الآشوري القديم يختلف بالضرورة عن الجندي العراقي المُعاصر بالهيأة والملابس مثلما تختلف الأدوات التي يستعملها الفلاح المعاصر عن الأدوات التي كان يستعملها الفلّاح السومري القديم، ولكنّ هذه المزاوجة هي التي خلقت نُصبًا عظيمًا سيخّلده التاريخ لأجيال قادمة.أيقونة بغداد وبطاقتها الوطنية
لا تكتفي الفنانة آلاء حسين بمهمة التعليق الصوتي في هذا الفيلم وإنما أرادت أن تكون شخصية فاعلة تدلو بدلوها وتُعبِّر عمّا يجيش بصدرها عن هذا الأثر الفني الكبير حيث قالت كلامًا بليغًا مفاده:"بأننا نتيه جميعًا إذا كانت بغداد من دون نُصب الحرية" وأضافت:"إذا ذهبت بغداد إلى دائرة النفوس وطلبت أن يستخرجوا لها بطاقة وطنية فأنا واثقة أنّ صورة الهُوية ستكون نُصب الحريّة". فأيقونة النُصب هي بوصلة العراقيين إلى قلب بغداد النابض التي ينحني لها شجر النخيل مع شروق الشمس وغروبها.
تمكّن جواد سليم من خلال عمله في مديرية الآثار ببغداد من دراسة وتذوّق جماليات فنون الرافدين وقد صنّف الأديب جبرا إبراهيم جبرا أربعينيات القرن العشرين بأنها عهد الاكتشافات الزاخرة حيث اكتشف جواد سليم أشياء كثيرة من بينها الواسطي، والفن العربي، والنحت السومري، والآشوري، واللون عند الانطباعيين وما بعد الانطباعيين وغيرهم . . . وهؤلاء جميعًا أثّروا في حياة جواد سليم وإنتاجه الفني.
على الرغم من أهمية الجدارية التي صمّمها رفعت الجادرجي على هيأة لافتة بطول 50 مترًا وبطريقة جميلة لكن لم تكن له علاقة بمنحوتات النُصب التي ابتدعها جواد سليم من الحياة اليومية للناس العاديين الذين انبثقوا من إطار مدينة جميلة يعرفها العالم كله باسم "دار المحبّة والسلام".
تحتلف الآراء بشأن ولادة جواد سليم، فهناك من يؤكد ولادته سنة 1919 أو 1920 لكن كاتب النص فاضل محسن والمخرج حيدر دفّار يعتقدان بولادته سنة 1918 بأنقرة في أثناء خدمة والده في الجيش العثماني. نالَ جواد في سن الحادية عشرة الجائزة الفضية في أول معرض للفنون ببغداد سنة 1931، وشارك مع أخيه سُعاد في المعرض الصناعي الزراعي عندما كان طالبًا في المدرسة المتوسطة، وحصل على جائزة النحت الثانية عن تمثال الملك فيصل الأول، ودرس الفن متنقلًا بين فرنسا وإيطاليا وإنكلترا، وأسس جماعة بغداد للفن الحديث التي أخذت بنظر الاعتبار تقنيات الجمع بين التراث العربي والفن الحديث.
يتوقف النحّات نجم القيسي عند حياة جواد الأسَرية المتمكنة حيث عاش بأنقره ودرس الفن بلندن وباريس وتعمّقت موهبته النحتية وتطورت مواهبة الأخرى في الرسم والموسيقى. وكان يستفيد كثيرًا من الأدباء والفنانين والشعراء الذين يجتمعون في المقاهي والأندية الخاصة التي تتيح لهم عملية تلاقح الأفكار الفنية والثقافية.
مهندس معماري ورسّام في وقت واحد
تعلّم جواد سليم درسًا مهمًا من فن عصر النهضة وهو أن يفكّر كمهندس معماري ورسّام في وقت واحد. وقد صاغ لنفسه في أوائل الخمسينات من القرن الماضي أسلوبًا متميزًا أعطى للفنان الحرية الكاملة في تصميم الأشكال النحتية التي تروي قصة نضال الشعب العراقي في سبيل الحرية باستثناء منحوتة الجندي العراقي التي أُريد لها أن تمثّل مُقاتلًا يرتدي البزّة العسكرية من دون شطحات تجريدية حيث سافر إلى إيطاليا وإستأجر مشغلًا في فلورنسا وكان صبُّ المنحوتات يجري على قدم وساق في بلدة بستويا القريبة. يشير النحات رضا فرحان إلى قدوم شخص إيطالي قام بلحِم المنحوتات بحِرفية عالية في الجدارية.
تواصل الفنانة آلاء حسين تسليط الضوء على ثقافة جواد سليم ومعرفته الفنية الواسعة حيث تمكّن من الانسحاب من نمطية أبناء جيله واستطاع ابتكار أيقونات تاريخية ضخمة الحجم، وهائلة المغزى، وعظيمة الرؤية. وحينما قدّم محاضرة في عام 1951 ببغداد انتقد فيها الذوق العام أطلقَ عليه بعض المثقفين اسم "عدو الشعب" لكنه بعدها أصبح موضع تقدير من الفنانين والنخب العراقية. كانت موهبة جواد سليم كبيرة في النحت والرسم والموسيقى، بل امتدت أكثر من ذلك إلى البالية والمسرح وعمل ماكييرًا للمثليين المسرحيين لكن شغفه بالنحت تفوّق على الرسم وأسس جماعة بغداد للفن الحديث مع شاكر حسن آل سعيد وانضمّ إليهم محمد غني حكمت ونزيهة سليم، كما ساهم في تشكيل جمعية التشكيليين العراقيين التي مثّلت هي الأخرى مدرسة عراقية متميزة في الفن الحديث.رحيل صاحب الأنامل الذكية
يتضمن هذا الفيلم أربعة اقتباسات مهمة من أفلام وثائقية أخرى لم يُشِر المخرج إلى مصادرها مثل حديث لورنا في مستهل الفيلم وتصريحات الجادرجي التي نفى فيها رغبة عبدالكريم قاسم في وضع صورته في النُصب. أمّا خاتمة الفيلم فقد تضمّنت كلام المذيع وهو يؤبن الفنان الراحل حيث قال:"مات جواد سليم وذهبت الأنامل الذكية التي كانت تصنع الفن في هذا الإستوديو. لقد ترك جواد أعمالًا فنية عظيمة نحتتها أنامله الساحرة ستظل شاهدة على عبقرية الفنان الراحل. وفي الخامس والعشرين من كانون الثاني سنة 1961م حمل طلبة وأساتذة معهد الفنون الجميلة جثمان أستاذهم وزميلهم وفقيدهم الغالي جواد سليم إلى مثواه الأخير". وعلى الرغم من قِصر المُقتَبس الرابع لكنّ أهميته كبيرة فقد جاء ضمن التعليق الصوتي الأخير للفنانة آلاء حسين التي ختمت الفيلم بالقول:"قد يكون باستطاعة عِلم النفس العثور على تأويل لموت جواد سليم الجسدي، ليس بسبب عجز في القلب لأنّ جواد سليم قال كلّ ما كان على البذرة أن تفعلهُ بانتظار المغادرة وهي إشارة وثّقها تلميذه وزميله خالد القصّاب حيث سألهُ جواد وهو على فراش الموت:"-هل باشروا بإقامة النُصب؟ فأجابهُ:- نعم. فقال جواد سليم:- سأموت مطمئنًا.
وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حيدر موسى دفّار هو خرّيج قسم السينما في أكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد. أنجز عددًا من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة وهي "نوم ممل جدًا" و"أحلام العصافير" و"شواهد صامتة" و"إجازة" و"نصب الحرية . . أحلام وثورات" الذي فاز بالجائزة الثالثة ضمن مسابقة "فضاءات سينمائية جديدة" في مهرجان بغداد السينمائي الأول.
***
عدنان حسين أحمد – ناقد أدبي وسينمائي