قضايا
جمال العتابي: كتابة السيرة الذاتية.. مسؤولية وعبء أخلاقي

أثار أستاذنا الفاضل سعيد عدنان في مدونته موضوعاً في غاية الأهمية يتعلق بـ "كتابة اليوميات" كـ "ضرب من السيرة"، فكان له الفضل في مراجعة موضوع وأدب "السيرة الذاتية" والأساليب المختلفة التي تميّز بين بعضها البعض فتجعل منها أنواعاً مختلفة، والمكونات الأساسية التي تدخل في كيانها، وما يتوافر بين هذه المكونات من نسب تحقق قدراً من التوازن المحمود في السيرة، أو تخلّ بالحدّ الأدنى من هذا التوازن، والوظائف المتباينة التي تؤديها هذه الأنواع من السير في حياتنا الشخصية في الحاضر والمستقبل.
ومقارنة بالعناوين التي لا حصر لها من الكتب التي تصدر كل عام، إلا أن ما يصدر من كتب السيرة يعدّ قليلاً لا يشكّل إلا نسبة قليلة من تلك العناوين، والسبب في ذلك يعود إلى حاجز القيم الأخلاقية الاجتماعية التي تتصف بالتزمت، ونتظاهر جميعنا باحترامها، مع انها تتناقض مع منظومة القيم الفردية التي يؤمن بها كل منا ويمارس حياته على أساسها، ومع ذلك فكاتب السيرة يحرص أن يقدّم نفسه للآخرين في الصورة التي تكفل رضاهم عنه، بصرف النظر عن حقيقته. وهو ما ندعوه بالنفاق الاجتماعي، تكمن خطورته في تحوله إلى ظاهرة في المنهج التاريخي، تؤمن بشطب كل الحقائق، أو تزويرها، كي يظل الأبطال في الصورة التي تغري الأجيال في المستقبل. أما وتلك هي الحال، فليس غريباً أن يعزف الأدباء والساسة عن كتابة سيرهم الذاتية بنفس الصراحة والصدق الذي كتب بهما "جان جاك روسو" اعترافاته، بل أن بعض الذين قفزوا من فوق حاجز "النفاق الاجتماعي" من هؤلاء فاعترفوا في مذكراتهم ببعض عيوبهم تعرضوا لعواصف من الهجوم عليهم والتنديد بهم. التعريف اللغوي للسيرة الذاتية، أنها قصة حياة الشخص كما يرويها بنفسه، وهو تعريف وصفي يكاد يصدق عليه القول بأنه تحصيل حاصل، لأنه أقرب إلى استعمال مرادفات لغوية لكلمتي "السيرة" و"الذاتية" وهو بذلك لا يقدّم ولا يؤخر. وفي هذا المقام يكون التعريف الوظيفي أفضل من ذلك بكثير من وجهة النظر العلمية، ذلك أنه يوجّه القارىء إلى الطريق نحو دراسة هذا الكيان الذي نسميه "السيرة الذاتية" لا من حيث مكوناته فحسب، ولكن من حيث العلاقات بين هذه المكونات، ومن حيث وظائف الكيان الكلي في السياق النفسي الاجتماعي كذلك، أي من حيث وظيفته بالنسبة لصاحب السيرة والمحيط الاجتماعي الذي وقعت فيه أحداث هذه السيرة وتشابكاتها، وكذلك بالنسبة للمحيط الثقافي الإنساني بوجه عام أينما كان ملتقى الرسالة. من هذه الزاوية الوظيفية يمكننا القول ان السيرة الذاتية اعتراف مدروس، اعتراف للنشر، انها التاريخ الشخصي المعترف به من قبل صاحبه، لا تعني انها الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، هي بهذا التعريف تقترب قليلاً أو كثيراً من العمل الأدبي، القصة أو الرواية، إذ يصدق عليها تعريف أحد كبار علماء التحليل النفسي "هانز ساكس" الذي يقرر ان العمل الأدبي حلم اجتماعي، فهو ينتمي إلى عالم الاحلام بما له من جذور شخصية مغرقة في الذاتية، من جهة، ومن ناحية أخرى يبزغ ويتفتح ويتشكل داخل سياق اجتماعي يفرض عليه قيوده وسياقاته.
في سياق هذه التعريفات الوظيفية يرى البعض، نحو مزيد من الوضوح ووضع النقاط فوق الحروف، أن يقال ان السيرة الذاتية اعتراف موجّه إلى طلب المكافأة الحسنة، ثم ان البعض يفضلون القول بأنها احتجاج ينطوي على المطالبة برد الاعتبار، غير أن المتأمل في هذين التعريفين، لا يلبث أن يشعر بأنه لا يستطيع أن يرضى عنهما تماماً، لأنهما ينطبقان على بعض السير أكثر مما ينطبقان على البعض الآخر.
في السيرة الذاتية عناصر عدّة تشكلها: هي مجموعة الذكريات، جميعها تنتظم في شبكة من العلاقات تجعل منها معماراً له أصوله وقواعده العامة. وله في الوقت المناسب خصوصيته التي تفرق بين السير المختلفة وتجعل لكل منها فرديتها المتميزة. ومجموعة الوقائع على شكل أحداث وأفعال وقعت في زمان ومكان معينين، محملة بالمعاني والدلالات، لتستقيم بشكل ما مع الاتجاه العام للسيرة، وما يرتبط بها من مشاعر. في المقام الأول فإن كتابة السيرة الذاتية هي ممارسة فردية واجتماعية غير مقصورة على الكتّاب، والمتتبع للشأن الثقافي في بلادنا سيلاحظ دون شك أن ما يعرف بأدب السيرة الذاتية، أو أدب الاعتراف، لم ينتشر ويكثر الاقبال عليه إلا في العصر الحديث. لكن بالرغم من ازدهاره، فانه لا يعدّ من الأمور المألوفة التي يتقبلها الجمهور في يسر وسهولة. لذا يحاول كتّاب هذا الجنس من الأدب في الأعمّ الأغلب أن يلتمسوا في مقدمة كتبهم الأعذار، ويسوغوا البواعث التي دعتهم الى الكتابة عن أنفسهم، ولا يقتضي ذلك بطبيعة الحال أن يكون ما يذكرونه هو السبب الحقيقي والدافع الأصيل. فأدب السيرة الذاتية إذاً ليس أدباً ميسوراً هيناً، بل هو من الآداب التي تقتضي من كاتبها مشقة التجرد من نفسه، ومن أهوائه ونزعاته الخاصة، وقد يكون الانسان مخلصاً صريح الرأي صادق الحديث، ولكن تنقصه مع ذلك القدرة على التحليل والتعليل والتحري والاستقصاء. ربما يقع القارئ في حيرة حيال نص ملتبس ما بين السيرة الذاتية والنص الروائي، خاصة وأن كثيراً ما يقف عند الأحداث والتفاصيل المعلوماتية الخاصة في سيرته ليطبّق عليها مفاهيم فلسفية يرى انها تتواءم مع منطق الأحداث التي واجهته. ويرى بعض النقاد أن أدب السيرة الذاتية هو نوع من الكتابة الشائكة التي تستلزم الصدق التام والبوح والمكاشفة، كما تحتاج إلى شجاعة قصوى، لأنها كتابة مغايرة أو هجرة إلى غير المألوف، خاصة إذا تناول الكاتب ما يعدّ من التابوهات أو من المحرّمات. في الأدب العربي نماذج متعددة لهذا الجنس من الأدب، وهناك مجموعة من الأعمال الرائدة التي تأتي في مقدّمة الكتابات في هذا الميدان نشير بذلك إلى سيرة طه حسين (الأيام) و(أنا) و(حياة قلم) لعبّاس محمود العقاد، و(زهرة العمر) لتوفيق الحكيم، و(حياتي)لأحمد أمين، و(قصة حياة) لابراهيم عبد القادر المازني، و(سبعون) لميخائيل نعيمة، و(قال الراوي) لإلياس فرحات، و(أوراق العمر) و(مذكرات طالب باحث) للويس عوض، و(معي) لشوقي ضيف، و(على الجسر) لبنت الشاطئ، وغيرها من النماذج الأدبية لفن السيرة الأدبية. وما أكثر ما تعرّضت تلك السير إلى التجريح والإساءة، والتسقيط السياسي والاجتماعي، وما أكثر الذين ترددوا بما كتبه طه حسين عن شيوخه في الأزهر، وعن أخيه الذي أهداه نظّارة سوداء ذات إطار ذهبي، ثم بخل بها عليه فاستردّها منه، أو أولئك الذين استغلوا اعتراف لويس عوض بـأن أختاً له كانت مريضة عقلياً.
وفي الأدب العالمي، يعدّ كتاب "سيرتي الذاتية... الكلمات" من أروع ما كتب سارتر في مسيرته الفلسفية والأدبية الطويلة، بأسلوب شائق له خصوصيته، وسياق خاص لم يسبقه إليه كاتب، جمع فيه ما بين حضور الذات وحضور المنطق، وبين التباس الشكل وفنية التوجّه، وإبراز الدهشة المستحوذة على ذات الكائن الذي كان. لقد أضحى أدب السيرة الذاتية من الآداب المحببة لكثير من القرّاء والمتتبعين، هذه السيرة برأي زكريا إبراهيم في كتابه "مشكلة الفن" تحقق وظيفياً المشاركة الوجدانية والتعاطف الرمزي. على صعيد آخر تعدّ المذكرات والسيرة الشخصية مصدراً مهماً من مصادر كتابة التاريخ، على الرغم من اختلاف وجهات النظر بين الباحثين بين مؤيد ومعارض لموثوقيتها، والكل يتفق على ضرورة توخي الحذر عند الاعتماد عليها بوصفها مصدراً توثيقياً. وشهد تاريخنا العراقي المعاصر أمثلة عديدة لكتابات من هذا الجنس لشخصيات سياسية وثقافية وعسكرية، أسهمت بمستويات متعددة في تشكيل الأحداث أو المشاركة فيها، هؤلاء استهوتهم الظاهرة التي وجدت قبولاً واسعاً لدى الباحثين والمتابعين. وبقدر ما تتسم المذكرات بالصدق والموضوعية، فان جمهور القرّاء يقدم عليها بحماس، وتهتم دور النشر بطباعتها وتسويقها لأنها تحقق لها أرباحاً عالية بسبب هذا الإقبال. ولأنها تكشف المضمر في التجربة الشخصية، هي في كل الأحوال لا تندرج إلى مستوى الوثيقة، أو تصنّف ضمن الكتابات التاريخية، فهناك فرق بين كتابة التاريخ وكتابة المذكرات، على الرغم من أن المؤرخ يعتمدها محللاً، ومفسراً، وناقداً. وفي العراق، كان غياب الحريات عاملاً في غياب هذا النمط من الكتابة الذي يفترض أن يكون شجاعاً وكاشفاً. ضمن هذا السياق يمكن القول ان أغلب المذكرات الشخصية التي صدرت منذ خمسينات القرن الماضي ولا سيما بعد سقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958، كانت موضع جدل وخلاف رغم ما تضمنته من بوح لأسرار وكشف لأحداث ظلت غامضة تعود لمرحلة ملتبسة من تاريخ العراق المعاصر، لقد غلب على العدد الكثير من السير الذاتية الرغبة في إخفاء الحقيقة، لا الجهر بها، وتبرير الأخطاء لا الاعتراف بها، وحرص أصحابها على أن يطلوا على القراء وهم في كامل قيافتهم الوطنية والعلمية والأخلاقية، لا يقولون إلا الصدق. الإيجابي في البعض من تلك الكتابات، أن كتّابها تحرروا من عقد السلطة والأيديولوجيا، والكبت النفسي، متجاوزين التردد والخوف، نشير في هذا الصدد إلى مؤلف الناقد العراقي حاتم الصكر" أقنعة السيرة الذاتية وتجلياتها" كنموذج للكتابة الرصينة، والجّادة الواعية في هذا الميدان، جمع في فصوله بين دراسة السيرة الذاتية والنصوص القريبة من الكتابة فيها كاليوميات والمذكرات والرسائل. ونشير كذلك إلى الأدب العراقي المكتوب في ظروف الحرية في المنفى، متميزاً بالصدق والوضوح والجرأة في أغلبه، ولاسيما أدب السيرة الذاتية، بينما ظل البعض الآخر صامتاً، ما زال يعاني من عقد الماضي وهيمنته عليه بإرثه الثقيل، ونعني بذلك القيادات والشخصيات الحزبية والسياسية والثقافية. الخوف عمّق رغبة الكثير في الصمت، فتجنبوا ذكر الوقائع الصريحة، توارى المهم فيها، منهم من رحل وهو يدفن تاريخه معه، من دون ان يترك أثراً واحداً كاشفاً ومضيئاً، بتقديرنا ليس من السهل على الشخصيات المترددة والخائفة الإقدام على خوض ميدان الكتابة، فكتابة المذكرات مسؤولية ثقيلة وعبء أخلاقي. بينما يراها البعض محطّ شبهة وموضوع ارتياب
***
د. جمال العتابي