قضايا

جمال محمد تقي: الانتقام من التراث ليس حلا!

تصفير الماضي بممسحة الحاضر البائس، دون غربلة نقدية موضوعية، يسطر مستقبلا محفوفا بالتشوه والاغتراب، كالباحث عن شماعة ليعلق عليها خيباته دون تبصر فيما حوله من تفاعلات لا تحتمها الوراثة!

والدعوة للنهضة الشاملة، إقرار بحالة النكوص والتقهقر والإنحطاط الشامل، الذي نجد أنفسنا فيه، بالمقارنة مع الاقران، ومع ما كنا عليه صعودا ونزولا، وما وصلنا اليه من نزول، ومع ما نطمح اليه من صعود، وهذا بحد ذاته علامة صحية وسوية ودالة على اننا مازلنا ننبض بالحياة، برغم كل تداعيات التبعية والإستهلاكية، والتوكلية، والدونية، وشيوع الاستبداد، والفساد، والجهل، والمرض، والفقر المادي والمعنوي الذي تخمر، وتخلل، وصار طقسا يفرض شروطه على كل مضارع فينا!

وعي الحالة وتشخيصها يستدعي البحث أولا في جذورها ومسبباتها، ثم أعراضها، والمعرفة هي رأس الحكمة هنا بحيث يقع على العارفين فيها فروض مزدوجة تجمع بين إجتهاد العين والكفاية، ولا يكفوا حتى يجعلونها فرض عين للعامة، بعد إجتهادهم في السعي للاولويات وثقتهم بما يعرضون من معالجات، ليصبح الحث صوبها قمة التثاقف العضوي، وهو مهمة الخاصة التي لا غنى عنها في اي إنتقال محمل بأثقال التنازع والإنكفاء  . 

دوران الحال يبعث فينا دوخة من يتعاطى زهورات الخشخاش،  الذي يُغيب البال لنشوة يهرب فيها من واقع الى آخر، ليس فيه مكان وزمان، وبالتالي ليس فيه منجز ولاعمران، وما يزيد الطين بلة ان يعمي بعضهم العيون بدلا من تكحيلها بإجتهاد نافذ ومتأصل ونابع من صميم بصمة وخصوصية مجتمعاتنا، يستسهلون الطريق مغتربين عن جادته بتعليقهم العلل كل العلل على شماعة التراث بكل ما فيه من دين وحضارة وثقافة ولغة، وكلسعات الزنابير تترك اوراما على الجلد تزول بعد حين ويبقى الجلد على حاله!

التعاطي النقدي البناء مع الماضي والحاضر لإستشراف مستقبل افضل يستلزم زاد وأدوات لا تحيد عن المعرفة الصرفة والموضوعية، وتجافي التبعية والتبصر بعيون مستعارة وينفض عن منهجه القطع في المحاولات والإستغراق في جلد الذات وإستسهال النقل عن إعمال العقل، وليس أي عقل، فالعقل عقلان، منضبط، ومنفلت، الاول ينطلق من الذات للموضوع ومن الخاص للعام ومن التخيير للتسيير، ويركز على جدل الظواهر والسمات ويخلص للحتميات ولا يجامل في الدفاع عن حصيلة فيها شفاء لعلة، والثاني مطلق العنان للمغامرة في المتاهات حتى لو كان فيها خراب غير منظور مادام للمتاهة سوق رائجة تشوش العقل وتجعله مغلوب على أمره، فمقارعة اي طبيعة كانت دون ضوابط واحكام، لها مآلات غير إنسانية خطرة خطورة الذكاء الاصطناعي، عندما يصبح خارج سيطرة الإنسان المسؤول عن بقاء النوع واحترام الطبيعة.

 البحث في التراث كأي إجتهاد وهو ليس ببدعة إنما هو قراءة متجددة بهدف إلتقاط ماينفع من النواميس، وله حسنتين إن أصاب، وحسنة واحدة إن أخطأ، وهذا ما نتعلمه من مذهب ابو حنيفة النعمان في القياس، ومن معطيات التراث نفسه ما يزكي ما ذهبنا اليه، ففي السيرة ما يعزز هذا المنحى، إجتهاد سليمان الفارسي في بلورة فكرة حفر الخندق التي تقبلها النبي رغم جدتها على نمط القتال عند قبائل العرب وقتها، وما قام به الخليفة عمر بن الخطاب المؤسس الثاني للنظام السياسي للدولة الاسلامية الاولى، الرشيدة، عندما أجاز إستخدام نظام الدواوين في شؤون الادارة وضمنها الكثير من أنظمة الضرائب بعد تعديلها لدواوين الخراج وبيت المال والجند وهي في الاصل رومية وأعجمية، في حوارات الامام علي مع الخوارج نفحات من التعاطي الإنساني مع المعارضة، والامثلة كثيرة .

واحدة من الإشكاليات في منحى التعاطي المعاصر مع التراث إرتباط النقد العمودي له بمواسم  الهزائم والانكسارات الكبرى، وبتغول نهج الاعتماد على الخارج في تلبية الضروريات،  بمعنى غياب المؤسسية النقدية التي تُقوم وتُقيم المواقف والحاجات وفي كل الاوقات، وهذه العلة لها جذر في طبيعة السلطة التي حورت مقتضيات الدولة بكل مرافقها وحولتها لغنيمة ووقف للمتسلطين!

الظلم مؤذن خراب العمران "إبن خلدون" :

لتقدم بلاد الغرب، وتخلفنا، علل داخلية وخارجية، وقبل الولوج فيها، لنتفق على ماهو مثبت، لم يكن الغرب مصدرا للاشعاع طوال الوقت بل كان الشرق هو مركز العالم، وكان قلبه النابض، ولم يجانب الصواب فولتير عندما قال : الغرب مدين بكل شيء للشرق وتقدمه، وكتاب " الجذور الشرقية للحضارة الغربية " لجون هوبسون المنشور عام 2007 يتكفل بشروحات تبرهن بطلان سردية التسلسل الانعزالي المتعمد، وذي النزعات الاستعلائية، التي تغذي الميول العنصرية للمركزية الاوروبية، كوازع للتفوق الذي يبرر الهيمنة بجعلها فطرية بنسبها، وعذراء بعذرية المجدلية، وكأنها نفحة قدرية بها قال الرب قولته حيث نهاية التاريخ، والانسان الاخير كما يذهب فوكوياما، بحكم يسوده شعب غربي ابيض هو المنتصر النهائي بل هو خاتمة الانسانية، بتزكية القوة التي يحتكرها وإعاقة المتطلعين والمتمردين بالترويض والخنق والإبادة ان تطلب الامر، اليونان القديمة انجبت روما، وتولدت عنها اوروبا المسيحية، وتمخضت، فولدت عصر النهضة، ومنها بزغ عصر التنوير، بمزج الديمقراطية السياسية والليبرالية الشاملة بالثورة الصناعية، ومن هذا المزيج نفحت الولايات المتحدة الامريكية التي تجسد الحياة والحرية والسعادة لتابعيها على الارض، ومن لا يركب قطارها، ذنبه على جنبه، حيث الانقراض والإبادة!!

 الحقيقة المطموسة ان الحداثة الغربية ذاتها لم تأتي من اليونان أو روما إنما من إحتكاكات بالثقافات غير الاوروبية وابرزها الشرقية الصينية والإسلامية، وعندما صدم المصدومون بها وعايشوا خرابها وتوحشها راحوا يبحثون عن ما بعدها، حداثة مجرمة إبتدأت بالإبادة الجزئية وتسرع الخطى نحو الإبادة الكلية حيث العبث بمصير الكوكب بما عليه!

يجافي المنطق من يصنف الحضارة اليونانية بالغربية، فهي ليست فقط جارة لصيقة بآسيا ولها بعد أفريقي عززته كريت مع المصريين وكما فعلت قبرص بالنسبة للفينيقيين، وإنما لم يكن لها مجال حيوي الإ في الشرق لان عمقها الجغرافي الشمالي بائر حضاريا، وبحر إيجة أرخبيل يعج بجزر التواصل وآسيا الصغرى تغذي وتضخ بما يفتق المعرفة المتنوعة بتنوع البضائع وتجار البر والبحر وحملات الجيوش، من إسبارطة نزولا الى أثينة وطروادة وإيونية الى الهوريين والحوثيين الى حيث الميزوبوتامية، الى التمدن الاول والارقى والاعمق والانبل، الى حيث السومريين لب التكوين وسره الاول، حيث طغيان النبوغ في مشاعة الحكم وحكمته والتنوع في التجاوز، والجاذبة لفضول المتطلعين للاندهاش، كالموشور يجمع ويفرد ويفرز جنائن وقوانين أكثر إنسانية من حداثة الغرب، من الوركاء وبابل وآشور من الصين والهند وفارس وآسيا الوسطى الى آسيا الصغرى لليونان والعكس كما في حملة الإسكندر المقدوني التي غزت الشرق وتفاعلت مع معطياته َ!

العلل داخلية وخارجية:

الاستبداد الداخلي والخارجي وتعاشقهما هو علة العلل في واقع تخلفنا، الذي يحتم الاضطراب وحجر الابداع المعرفي والحسي ويستبعد الاستقرار المجتمعي الذي يراكم الخبرات والثروات ويبعث بها روح الاستثمار المنتج للقيم المضافة، وخارجيا هيمنة الاستبداد الكولونيالي والاحتكاري ثم العولمي الذي يعمق تخلفنا وبالتالي تبعيتنا!

 الحريات العامة والخاصة وتفاعلها في ظل سلطة مؤسسات فعلية تقوم على اعتبار كل السكان شركاء في الوطن وهم مصدرسلطته ومناعته وثروته، ولهم جميعا حقوق وواجبات دستورية على اساسها يتم اختيار الحكام عبر آليات مستقلة فعليا وتتجسد عبر نظام التخصص وفصل السلطات، في دولة تترجم لوائح حقوق الانسان التي أبدع اصولها الشرق تحديدا قبل الغرب، ترجمة نافذة شكلا ومضمونا، دولة تنشد الرقي والرفاه، بالتحرر من الجهل والفقر والمرض والتبعية!

***

جمال محمد تقي

في المثقف اليوم