قضايا
قاسم حسين صالح: العراقيون.. بين لعبتي كرة القدم والسياسة
لحظة اعلن حكم المباراة فوز العراق على اليابان.. غمر الفرح العراقيين وغصت الشوارع بهم.. بغداد، الموصل، البصرة، اربيل، كربلاء، كركوك.. .. وهم يهزجون (بالروح بالدم نفديك يا عراق). ما كنت تعرف هذا شيعي وذاك سني وهذا عربي وذاك كردي وذاك تركماني.. فالكل وحدّهم حبهم للعراق.
تذكروا ما جرى بين (2006 و2008) يوم وصل الحال الى ان يقتل العراقي اخاه العراقي لسبب في منتهى السخافة، ما اذا كان اسمه حيدر او عمر او رزكار!، وثبت بالدليل القاطع ان قادة احزاب السلطة هم في حقيقتهم.. (بدو بزي افندية).
كان فوز العراق على اليابان التي لم تهزم في (25) مباراة دولية، عرسا شعبيا. ولأنني سيكولوجست (ومشكلة السيكولوجيين انهم يبحوشون بالمخفي!) فأنني رحت (ابحوش) عن اسباب هوس العراقيين بكرة القدم.. وما اذا كان هذا العرس الملاييني حالة طبيعية أم انهم (جوعانين فرح) .
ورحت ابحث في هذا الذي اسميناه (هوس)، فوجدت ان العراقيين مصابون به (عالميا)، واليكم اكثر من شاهد:
في العام (2016)، وفي مباريات كأس العالم التي فازت بها المانيا على البرازيل بهزيمة مذلّة.. حتى انني لحظتها تمنيت على المدرب الألماني ان يأمر فريقه بالتوقف عن التهديف بعد الهدف الخامس من باب (أرحموا عزيز قوم ذلّ). وباستثناء أهل الموصل، لأن داعش تحرّم مشاهدتها وتعتبرها كفرا، فان العراقيين انقسموا بين مشجع لألمانيا ومشجع للبرازيل مع انه ليس في احدهم قطرة دم المانية او برازيلية!.. وقيل ان ثلاثة حاولوا الانتحار لفاجعة هزيمة البرازيل!
ولدى مشاهدة مباراة برشلونه والريال على كأس اوروبا، قام بائع لبن بتوزيع اللبن مجانا بفوز (فريقه) الريال برغم انه من مدينة (البياع!). وطاف شوارع مدينة بغداد موكب دراجات هوائية لمناسبة فوز فريقهم برشلونه!.ووعد مدرّس رياضيات باقامة دورة مجانية للطلبة اذا فاز الريال، وانطلقت العيارات النارية بسماء بغداد لحظة احرز الريال هدفا، فيما صدحت الهلاهل بمكان آخر حين ردّ برشلونه بهدف.
قد تقولون ان ما يحصل لدى العراقيين لا يختلف عما يحصل لدى الأوربيين، وهذا صحيح لأن العوامل السيكولوجية لدى جمهور كرة القدم المتمثلة بدافع العدوان والتماهي بالغالب والتشفي بالمغلوب.. هي واحدة، لكنها عند الآخرين لها ولغيرها.. حال آخر كما سنرى.
تحليل سيكولوجي
تنفرد كرة القدم بسيكولوجيا خاصة تعزف على اوتار الطبيعة البشرية وما ورثته من تاريخها الذي يعود لمرحلة الصيد قبل ملايين السنين.. لما بينهما من شبه كبير.فالصياد يجري وراء الطريدة، ينفعل، ويصوّب، ويسدد.. وان صادها جرى له احتفال واستقبل استقبال المنتصر.والآلية السيكولوجية ذاتها تعمل في لاعب كرة القدم والجمهور، مع ان اللعبة تبدو لآخرين سخيفة.. اذ كل ما فيها ان (22) شخصا يتقاذفون كرة بأرجلهم ورؤوسهم.. بطريقة تحرّك جهازنا الانفعالي و تثير ولعا وشغفا وهوسا.. بل عنفا وعدوانا يؤدي الى القتل احيانا بين المشجعين.
وما بين ساحة الحرب وساحة اللعب.. حالة سيكولوجية واحدة، حيث في الاولى جيشان يتقاتلان ويمارسان الخدعة من اجل فوز احدهما وهزيمة الآخر.. وفي الثانية فريقان يعتمدان الخدعة ايضا و(يتقاتلان) بطريقة حضارية اخضعت الصراع لقوانين تضبطه.. تحيط بهما جماهير ترفع اعلام دولها! أو فرقها. ومع ان كرة القدم سجّلت فضلا على البشرية بأن نقلت الصراعات بين الدول من ساحات الحروب الى ساحات كرة القدم، الا انها كانت احيانا سببا في تأجيجها.
وتجسد كرة القدم ثلاث حاجات متأصلة في الطبيعة البشرية هي: حاجة الانسان الى (التغلّب) وقهر الخصم، ونزعته الى الصراع مع الآخرين، وحاجته الى التماهي بـ(المنتصر).. اي الشعور بالزهو وتوكيد الذات.
وهنالك سبب فسلجي ايضا، هو ان الحياة مملة وان الدماغ يحتاج الى تنشيط، وان كرة القدم بما فيها من ترّقب وتوتر وصراخ، تزيح عن الدماغ انشغالاته اليومية بالهموم وتنعشه بما تحدثه فيه من انفعالات وايعازات بافراز هرمونات منشطة.
ان الحالة النفسية الصحية هي الاستمتاع بمشاهدة اللعبة والاعجاب بمهارة وذكاء هذا اللاعب او ذاك، فاذا ما تعدتها من الاعجاب الى التماهي فانها تعني شيئا آخر في الصحة النفسية والحالة العقلية.
قد نذهب بعيدا في هذا التحليل اذا قلنا ان المشاهد الذي (يتماهى، يتوحد) بشخصية لاعب مميز (ميسي مثلا مع انه ما كان افضل من روبن).. وانه يفرح لفرحه، ويغضب اذا اصابه اذى او خسر فريقه.. وينفعل ويسحب انفاسا متلاحقة من النرجيله، وكؤوسا بيضاء او حمراء، ويقضي ليلته كدرا، ويتعارك مع زوجته ويضرب اطفاله.. يمكن ان يكون تصرفه هذا مؤشرا عن احباط او شيء ينقصه بغض النظر عن نوعه ما اذا كان نفسيا، عاطفيا، اجتماعيا، او عضويا.
وكحقيقة سيكولوجية فان التماهي يكون في علاقة طردية مع ما يتعرض له الفرد من اخفاق وشعوره بالعجز من اصلاح الحال، ولا اظن شعبا في العالم المعاصر تعرض الى ما تعرض له العراقيون من فجائع وخيبات.ولهذا فان التماهي عند العراقيين في كرة القدم العالمية حالة عصابية (مرضية) ناجمة عن قساوة وديمومة هزائمهم النفسية في الحياة العامة، وانهم يجدون في التوحّد بفريق فائز ما ينفس عنها، وما يجعل من الفريق الرياضي الآخر بديلا لاشعوريا عن خصمهم السياسي فيسقطون عليه انتقامهم المكبوت. ففي العام (2010) كان العراقيون يتابعون مباريات كأس العالم بمزاج خاص.. وكنّا كتبنا في حينه، انهم صحيح يشاركون ملايين العالم في شغفهم بكرة القدم لكنهم الوحيدون الذين يقبلون عليها وهم كدرون.. (لتوالي الخيبات على العراقيين وتكرر الاحباطات التي تولّد لدى الجماهير المحرومة حاجة البحث عما يشفي غليلهم، وتمني مجيء ” البطل المخلّص”.. فضلا عن ان مشاهدة مباريات كأس العالم تفعل في المضنوك ما يفعله المخدّر في المحبط الهارب اليه من واقع خشن.. فكيف بالمواطن العراقي اذا كان رئيس جمهوريته ورئيس وزرائه يتقاضيان 150 مليون دينار شهريا فيما هو يكدح ” والعشا خبّاز”.. وفي طرق ملغومة بالموت!.وكيف اذا علم ان هناك 36 ملياردير ثروة كل واحد منهم مليار دولار معظمهم كانوا فقراء، وهناك 13 مليون عراقي دون مستوى خط الفقر!.
لقد فاز العراق على اليابان .. وقد يأتي بكأس بطولة آسيا وتكون الفرحة أكبر، لكن العراقيين يبقون مفجوعين بوطنهم من لعبة السياسة التي تجري على ساحة الوطن.. بين فرقاء افتقدوا اخلاق اللعبة وقواعدها.. ولعبوا من اجل كل شيء الا الفوز بـ(كأس الوطن!).
***
أ.د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية