قضايا

عبد الله الفيفي: الجُمْجُمة المتحفيَّة (في النقد الثقافي)

كنَّا قد انتهينا في المساق السابق إلى أنَّ اللُّغة يصعب الاحتجاج بها في شأن محاكمة أساليب العصور العَرَبيَّة؛ لأنَّ لُغة العَرَب واسعةٌ وتحتمل التعدُّد في اللهجات، وإنْ سعَى اللُّغويُّون إلى توحيدها في قوالب محدَّدة جامدة، كما أنَّها تحتمل الغلط في الرواية. ثمَّ ما يُدرينا: أكان النصُّ بصيغة مَن نُسِبَ إليه أم بصيغة راويه أو كاتبه. غير أنَّ الشِّعر أوثق في هذا المجال؛ لأن الشِّعر يَحكُمه البحر الشِّعري، ولا يَقبل التغيير كثيرًا. ولعلَّه لهذا اعتمد على الشِّعر النحويُّون واللُّغويُّون أكثر من اعتمادهم على النثر؛ لأنَّ بقاء النصِّ فيه كما قاله قائله موثوقٌ غالبًا، لضوابط الأوزان والقوافي. ثم أردفَ (ذو القُروح) بقوله:
ـ من شواهد هذا ما جاء في الخطبة الخامسة والتسعين بعد المئة، من الخُطَب المنسوبة إلى (عليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)، في حديثه عن الرسول، صلى الله عليه وسلَّم: «ولقد واسيتُه بنفسي في المَواطن التي تَنْكُص فيها الأبطال.»(1) قال (الجوهري)(2): «واسَيْتُهُ لُغةٌ ضعيفةٌ.» فاللُّغة العالية: آسيته. إذ قيل: إنَّ أَصل واو (واسَى) الهمزة: (آسَى)، فقُلِبت واوًا تخفيفًا. ومعنى «يواسي فلانٌ فلانًا»: يُشاركه. والمواساة: المشاركة. وقيل: يواسيه: يصيبه بخير. قالوا: وكان في الأصل (يُؤاوِس)، فقدَّموا السِّين وهو لام الفعل، وأخَّروا الواو وهي عَين الفعل، فصار الفعل (يُؤاسِو)؛ فلمَّا لم تحتمل الواو الحركة، سكَّنوها، فصار: (يُؤاسِوْ)، وقلبوها ياء؛ لانكسار ما قبلها، فصار: (يُؤاسِي)، وهذا من المقلوب.
ـ يا ساتر، ما كلُّ هذه المعمعة والتقليب؟!
ـ هكذا كانت فرضيَّات اللُّغويين العجيبة! ونضيف أنَّهم قد يسهِّلون الهمزة، فيصير الفعل: (يُواسِي)، كما قالوا في (آسَى): (واسَى). وقيل: يجوز أن يكون غير مقلوب، فتكون صيغة (تفاعل من أسوت الجرح. وفي حديث (الحُدَيْبِية): «إنَّ المشركين واسَوْنا للصُّلْح»؛ جاء على التخفيف. وعلى الأَصل جاء الحديث الآخر: «ما أَحَدٌ عندي أَعْظَمُ يَدًا من (أَبي بَكر)؛ آساني بنفسه وماله.» وفي حديث (عَليٍّ): «آسِ بَيْنَهم في اللَّحْظَة والنَّظْرة.» ومن حِكَمه: «خيرُ إخوانك مَن واساك».(3) ومن المنسوب إليه، في القصيدة ذات المطلع:


باتُوا عَلَى قُلَلِ الأجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ ::: غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ القُلَلُ
البيت:
ما ساعَدُوْكَ ولا واساكَ أَقْرَبُهُمْ ::: بَلْ سَلَّـمُوكَ لَهَا يا قُبْحَ ما فَعَلُوا(4)

ويقال: هو يُؤاسِي في ماله أَي يُساوِي. ويقال: رَحِم اللهُ رَجُلًا أَعْطى من فَضْلٍ وآسَى من كَفافٍ.(5) هذا ما ذهب إليه اللُّغويُّون، فتنقَّلوا بالكلمة بين همزٍ وتسهيل. ولكن الأمر قد يكون أيسر من ذلك كلِّه؛ بأن يكون أصل (واسَى) (ساوَى)، أي: ساوَى غيره بنفسه، فقلَبوا. ولذا قالوا: «هو يُواسِي في ماله، أي يُساوِي». وهذا تعبير ما زال مستعملًا في بعض اللهجات، كلهجات (جبال فَيْفاء)، فيقولون: واسَى، يُواسِي، أي: شاركَ غيره في طعامٍ أو مالٍ أو غيرهما. ومن ذلك يصفون من يُعطي الآخَرين، ويشاركهم في ما هو من خالص ملكه، بصِفة (وَسْي)، فيقولون: «فلان وَسْي»، أي: مِعطاء.
ـ ثمَّ، مرَّة أخرى، ما يدرينا أكان النصُّ المنسوب إلى (عَليٍّ) بصيغة «ولقد واسيتُه بنفسي»؟ أم بصيغة «ولقد آسيتُه بنفسي»؟!
ـ ومن هنا قلتُ لك: لا حُجَّة في مثل هذا الملحظ اللُّغوي يمكن أن يُحتجَّ بها في أنَّ لُغة «النَّهْج» لا تُوافق اللُّغة المتوقَّعة من (عَليٍّ)، أو غيره من أهل عصور الاحتجاج، كما كانت تُسَمَّى.
ـ لكن الفيصل أن نجد استعمال «واسَى» في أساليب صدر الإسلام، وعندئذٍ يُلقَم (الجوهري) أحجارًا كريمة، بتخطيئه هذا الاستعمال!
ـ نعم. وستجد أنَّ الشاعر الجاهلي (قَيْس بن الحُدادِيَّة)(5) يقول:
يُواسـِي لَدَى المَحْلِ مَولاهُمُ ::: وتُكْشَفُ عَنْهُ غُمُومُ الكُرَبْ
ـ وبذا يسقط ما زعمه (الجوهري)، من أنَّ «واسَى» لُغةٌ ضعيفةٌ.
ـ صحيح؛ فالعَرَب تقول: واسَى، وآسَى، بمعنى.
ـ ألا يُحتمل أنَّ الشاعر قال: «يُؤاسِـي لَدَى المَحْلِ مَولاهُمُ»؟
ـ بلى. ويجوز هنا تسهيل الهمزة، على كلِّ حال. والوزن لا يختل في الحالتين. لكن ما أردتُ قوله، عمومًا، إنَّ لُغة «النَّهْج»، في ذاتها، لا تكشف عمَّا يُمكن أن يُتَّخَذ حُجَّةً في بطلان نِسبة نصوصه إلى (عَليٍّ)، بمقدار ما يتبدَّى ذلك في جانبَي الأساليب والمحتويات.
ـ لنعُد إلى منبثق هذا البحث!
ـ وهو؟
ـ هو- كما تذكر- زعْم (السيِّد القبانجي) أنَّ «نَهْج البلاغة» أبلغ من «القرآن الكريم»!
ـ أذكرتَني الطعنَ وكنتُ ناسيًا! ما ذلك (القبانجي) اللَّطيف من البلاغة في قليلٍ أو كثير، ولا في قبيلٍ أو دبير، ولا حتى من مذهبٍ إسلاميٍّ في شيء، شيعيٍّ أو غير شيعي. وكيف يتحدَّث عن «القرآن» مَن لا يعرف اللُّغة العَرَبيَّة، حتى إنه لا يعرف كيف يقرأ آيةً من «القرآن»، فيكاد لا يقرأ آيةً قراءةً سليمةً من الغلط؟!
ـ وهذا من أعجب العجب من مثقفٍ عَرَبيٍّ، فضلًا عن أن يكون معمَّمًا- وسَيِّدًا وحَصُوْرًا- يتصدَّر للمفاضلة بين بلاغات النصوص!
ـ وكذلك معظم هؤلاء القوم من المعمَّمين، في أخطائهم في آيات «القرآن».
ـ وهو أمرٌ لافت وغريب، يدلُّ على أنهم ليسوا بخيرٍ من غيرهم- في مدرسة المشاغبين الحديثة- في البُعد عن كتاب الله، على الرغم من الدَّعاوَى العِراض.
ـ تلك ظاهرةٌ فاضحة، تثير التساؤل أصلًا حول صِلة أحدهم بالكِتاب، وهو يتصدَّر الناس على أنه- لا ينتمي إليه فحسب- بل هو فوق ذلك إمامٌ متَّبعٌ، أو مَولًى ذو مريدين! أحد شيوخهم، على سبيل النموذج، في محاضرة «يوتيوبية» حول «فِقه التقيَّة»، جعل يقرأ الآية «وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا تَنَازَعُوا، فَتَفْشَلُوا، وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»، فكان يقول: «ويَذهبُ ريحكم»- بتذكير الفعل مع المؤنَّث، ورفعه! وحين حاول أحد الحاضرين تصحيح نطقه، أصرَّ على أنها «ويَذهبُ ريحكم»، وظلَّ يعيدها كذلك. وحين اضطره ذلك المصحِّح إلى القول: «فتذهب»، جاراه بعد لَأْيٍ، غير أنه بقي يقول «وتذهبُ»، بالرفع!
ـ وعليه، فظاهرٌ أنَّ كثيرًا من هؤلاء عوامّ، جهلةٌ أدعياء، أو كأنَّ بينهم وبين نَصِّ «القرآن» جفوة.
ـ إنَّما يتسيَّدون على الناس غالبًا بالعمائم، لا بالعِلم! والخَوض في هذا أمرٌ يطول. والشاهد أن بضاعة هؤلاء، في الأعم، هي أبعد ما تكون عن تأهيلهم لمقاربة النصوص، أو فهمها، فضلًا عن تفسيرها، وتمييز بلاغيَّاتها.
ـ ‎ثمَّ إنَّ صاحبنا المعمَّم الوجداني إنَّما تراه يردِّد ادِّعاء مذهبٍ في العرفان، خاصٍّ به غير معروف، أوَّل استهلالاته إنكار بلاغة «القرآن»، وثانيها السخريَّة من (محمَّد بن عبدالله) ونبوَّته.
ـ إنَّه مذهب اللَّا مذهب، وادِّعاء الجمع بين الإيمان وضِدِّه، والقَدامة والحداثة، والولاء والبراء من كلِّ انتماء، تحت جُبَّةٍ واحدة، وعمامةٍ سوداء واحدة! وهيهات، فتلك شخصيَّةٌ تشكيليَّةٌ من كلِّ لون، وجُمجمة متحفيَّة من كلِّ الأفكار والاتجاهات، لم يسبق لها مثيلٌ عقلاني! هذا، ولقد أورد (شوقي ضيف) في كتابه «الفن ومذاهبه في النثر العَرَبي»(6)، كلامًا حول «نَهْج البلاغة»، وما قيل فيه. غير أنه أعرض بعدئذٍ إعراضًا عن التمثيل على خطابة (عَلِيٍّ)، من نحو ما استشهد على خطابة غيره من الخلفاء الراشدين، لا من «النَّهْج» ولا من غيره. وكان حريًّا أن يبين نصيًّا ما في المنسوب إلى عَلِيٍّ في «النَّهْج» من مباينةٍ أسلوبيَّةٍ لما يُمكن أن يُنسَب إليه، بالنظر إلى عصره وبيئته، وأن يقارن ذلك بما أشار إلى صحَّته ممَّا ساقه (الجاحظ)، أو غيره، ولا سيما أنَّ كتابه كتابٌ مختصٌّ في هذه القضايا. لكنه لم يفعل!
[وللحديث بقيَّة].
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
........................
(1) الرَّضِي، الشَّريف، (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)،480.
(2) صحاح اللُّغة، (أسي).
(3) البيهقي الكيدري، قُطب الدِّين محمَّد بن الحُسين، (1999)، ديوان الإمام عَلي: المعروف بأنوار العقول، تحقيق: كامل سلمان الجبوري، (بيروت: دار المحجَّة البيضاء)، 334/ 1، 335/ 19. وفيه: «واسُوك»! ولا يستقيم. والقصيدة في هذا الديوان كثيرة الأخطاء.
(4) يُنظَر: الأزهري، التهذيب، (أوس)؛ ابن منظور، اللِّسان، (أسا).
(5) (صيف 1979)، شِعر قَيْس بن الحُدادِيَّة ، تحقيق: حاتم صالح الضامن، (مجلَّة المَورد، (العراق: وزارة الثقافة والإعلام)، م8، ع2، ص203- 220)، 206/ 10.
(6) (القاهرة: دار المعارف، 1983)، 61- 63.

 

في المثقف اليوم