قضايا

يونس الديدي: الباب كان مفتوحًا منذ البداية

كثيرًا ما نعيش كما لو أن الأبواب مغلقة، كما لو أن الواقع مكتمل ومكتوب سلفًا، وأن علينا أن نتأقلم مع قواعد لعبة لم نخترها. لكنّ الحقيقة، كما يصفها الفيزيائي والفيلسوف ديفيد بوم، أن الوعي ليس مجرد مرآة للواقع، بل هو النمط الذي يُشكّل هذا الواقع نفسه. نُبصر العالم من داخل رؤيتنا له، لا من خارجه. وهذا يطرح سؤالاً جوهريًا: هل نحن نرى الأشياء كما هي، أم كما نحن؟

تأمل هذه الصورة: رجل يجلس في غرفة مظلمة، بجوار باب مفتوح على اتساعه. لكنه لا يراه، لأنه منذ البداية قرر أن يبحث عن مخرج في الجهة الأخرى. يصنع من خياله متاهة، ويقنع نفسه أن الخروج يتطلب مفتاحًا مفقودًا، أو إنارة معينة، أو خريطة معقدة. بينما الباب، بكل بساطة، مفتوح. لكنه لا يُرى إلا من زاوية وعي مختلفة.

الوعي كعدسة: حين نصنع قضبان سجننا

في كتاباته المتأخرة، يوضح ديفيد بوم فكرة “الترتيب الضمني” (Implicate Order)، حيث لا يكون الواقع شيئًا صلبًا بل “تدفقًا” دائمًا تتداخل فيه الإمكانيات والتصورات والمشاعر. في هذا السياق، يصبح الوعي هو القالب الذي يُسقط هذا التدفق في شكل معين، فيُنتج “واقعًا” نعيشه ونعتقد أنه الحقيقة. هذا الواقع ليس كاذبًا، لكنه محدود بشكل الوعي الذي صاغه.

في لحظة إحباط مثلًا، ترى العالم رماديًا، تحكم بأن الناس قساة، وأن الفرص مغلقة. نفس الشارع، نفس المكتب، نفس الأشخاص — لكن الوعي المتألم يجعل منهم عناصر في مشهد عبثي. هنا لا يكون العالم هو الذي تغير، بل زاويتك أنت.

الأمثلة من الحياة اليومية: كيف نُعمّي على الباب المفتوح

* في العلاقات: كثيرون يعتقدون أن الطرف الآخر “لا يفهمهم” أو “يتغير”، بينما الحقيقة أن الوعي الذي بدأ به العلاقة كان وعيًا قائمًا على التوقع، لا الفهم. نعيش العلاقة كما نتمناها، لا كما هي، ثم ننهار عندما يُعيد الواقع ترتيب نفسه بعيدًا عن وهمنا.

* في العمل: الموظف الذي يشعر أنه محاصر في وظيفة لا يحبها، بينما لم يلاحظ فرصًا بسيطة من حوله لتحسين وضعه أو بدء مسار جديد، لأنه ثبت نظره على “شكل واحد للخروج”: الترقية، أو الاستقالة، أو ضربة حظ.

* في المعرفة: نبحث أحيانًا عن إجابات كبرى، عن “الحقيقة” أو “المعنى”، بينما نغفل عن أصوات صغيرة تُنبهنا أن الباب مفتوح في البديهيات: لحظة صمت، أو كلمة صادقة، أو إحساس عابر بأننا نوجِد المعنى عبر انتباهنا، لا عبر نظريات جاهزة.

ديفيد بوم: من فيزياء الكم إلى فيزياء الوعي

ما يجعل فكر بوم مدهشًا أنه لم يفصل بين العلم والتجربة الداخلية. بالنسبة له، الحوار الحقيقي مع النفس والآخرين هو الطريقة الوحيدة لتجاوز “الصور الذهنية” التي نعيد بها إنتاج ماضينا باستمرار. يقول: “أفكارنا تصنع العالم، ثم نشتكي أننا ضحاياه”. وهذا يشبه من يصنع قناعًا بيده، ثم يخاف من وجهه في المرآة.

بوم دعا إلى تحرر جذري من أنماط التفكير المألوفة، لأن هذه الأنماط نفسها تعيد تشكيل السجن. أراد أن نتحرر من وهم أن “السبب في الخارج”، وأن نعود إلى الداخل، حيث يبدأ كل شيء — من زاوية الرؤية، من اختيار العدسة، من الانتباه.

الباب المفتوح: دعوة للانتباه

حين نُدرك أن وعينا يصنع حدود العالم، فإن كل شيء يصبح قابلًا للتجدد. الانتباه، ببساطة، هو مفتاح الخروج. هو أن تنظر حيث لم تنظر من قبل. أن تُعيد طرح الأسئلة القديمة بطريقة جديدة. أن ترى أن الباب الذي كنت تنتظره أن يُفتح… لم يكن يومًا مغلقًا.

إنه ليس الوعي “الروحي” بالمعنى الشائع، وهو أيضا أساسي  بل الوعي البسيط، القوي، الذي يرى ما هو موجود، لا ما نتخيله. وهنا تبدأ الحرية. ليس بتغيير الخارج، بل بتغيير زاوية النظر إليه.

***

بقلم الكاتب المغربي: يونس الديدي

في المثقف اليوم