قضايا
فضل فقيه: الحياة ليست آلة.. حدود الحوسبة في فهم الحياة

لا شك في أن التطور المتسارع للحوسبة والذكاء الاصطناعي مكن البشر من محاكاة العديد من العمليات في الهندسة والتصميم والفيزياء. ويعتبر الكثيرون أن مسألة محاكاة الحياة مرهونة بتوفر قدرات الحوسبة الكافية في السنوات القادمة. فقد تستطيع الخوارزميات يوما اذا ما اعطيت الخوارزميات بيانات كافية عن حياة شخص ما وحمضه النووي ان تحاكي أنماط سلوكه وتتوقع أي قرار يتخذه. وقد تكون الحياة مجرد ترميز جيني سيفكّ عاجلاً أو اجلاً.
لكن هذا التصور يغفل تمامًا طبيعة الحياة نفسها. فالأنظمة الحية تختلف اختلافا جوهريا عن أنظمة تحكمها الخوارزميات والمعادلات الرقمية. فالأنظمة الحية ليست أنظمة معقدة فحسب، بل ناشئة وسياقية، تبنى خصائصها عبر السياق والتفاعلات متعددة المستويات. الحياة لا تسير في بخط سببي مستقيم، بل عبر حلقات ردود الفعل وشبكات من التفاعلات التي تنتج خصائص غير قابلة للاختزال إلى مكوناتها. ولهذا، فمن حيث المبدأ، يغدو محاكاة الحياة عبر المنهج الرياضي او عبر الذكاء الاصطناعي أمرا مستبعدا من حيث المبدأ.
ما وراء السببية الخطية
في العلوم الكلاسيكية، اعتمد العلماء على السببية الخطية. الأجزاء الأصغر تؤدي إلى تغييرات على مستوى الأجزاء الأكبر وهكذا بشكل تصاعدي. بهذا يصبح السبب والنتيجة يسيران بخط مستقيم لا رجعة فيه. مثال واضح على ذلك في الفيزياء الكلاسيكية حيث أن وجود عدد معين من الذرات داخل الجسم ونسبة تباعدها عن بعضها تؤثر على شكل وحجم الجسم ذاتها. لا يفترض أن تؤثر البنية الكلية للجسم على ذراته من خلال هذا النموذج. والسببية الخطية تجعلنا قادرين على توقع النتيجة إذا عرفنا كل المتغيرات على مستوى الأجزاء.
رغم نجاح هذا النموذج بشكل عام في الفيزياء. إلا أن تطبيقه في علم الأحياء يبدو صعبًا. أثبتت مختلف الابحاث العلمية ان البنى الاعلى تنظيمًا قادرة على التأثير على النشاطات الجزيئية او الخلوية. فقد يؤثر غذاء الانسان او حالته النفسية على عمل بعض انواع الخلايا وعلى نظم التحكم بالجينات. هذا ما يعرف بالسببية من الاعلى الى الاسفل، فالسببية هنا تعمل بالاتجاهين. عمل السببية بهذا الشكل يعقد كثيرا قدرتنا على تنبؤ النتيجة اذا عرفنا كافة التفاصيل عن الأجزاء.
الخصائص الناشئة
السببية الخطية تجعل توقع النتيجة من خلال معرفة الاجزاء امرا حتميا. لأن الاجزاء تتبع نظما وقواعد فيزيائية واضحة تجعل خطوتها القادمة محكومة بالرياضيات وتجعل محاكاتها أسهل.
أما في الكائنات الحية، فيختلف الأمر جذريًّا. المدخلات نفسها قد تؤدي الى نتائج مختلفة، فالنتائج تعتمد على السياق، والمرحلة، والمحيط. ومن هنا نصل الى ما يسمى بالخصائص الناشئة. أي الصفات التي تظهر عند مستوى أعلى من التنظيم ,لا يمكن اختزالها او استنتاجها من العناصر المكونة وحدها. لعل الوعي البشري هو افضل مثال على هذا، فعصبون واحد بمفرده او شبكة واحدة، لا يمكنها توليد الوعي. أبعد من ذلك، فان عرفنا جميع المعلومات عن العصبونات والعوامل المحيطة بها فنحن لا نستطيع ان نفسر الوعي، إذ أن الوعي ظاهرة ناشئة لا تنشأ الا عندما تتفاعل شبكة العصبونات بأكملها مع المعطيات الحسية والتغيرات الهرمونية.
وهذا يعيدنا الى السببية الخطية التي تسقط هنا حيث انا معرفتنا بالمدخلات، لا تضمن توقع النتيجة التي ليست مرتبة سببيا بالمعنى التقليدي.
الحتمية لا تعني القدرة على التنبؤ
إن كل ما سبق قد يوهمنا بأن الكائنات الحية ليست حتمية. أي أنها لا تتبع قواعد الفيزياء التي تعتبر حتمية. ففي حالة الخصائص الناشئة، قد تظهر وكأنها ظاهرة سحرية أو غامضة تنشأ من دون أسباب أولية.
إلا أن هذا غير صحيح. يستطيع النظام ان يكون حتميا من دون ان يكون متوقعا بسبب تعقيده البنيوي او الحساسية للظروف الابتدائية.
في الفيزياء، يشتهر هذا في نظرية الفوضى، كما في حال الطقس. أما في البيولوجيا، فالتحدي اعمق: على الرغم من أنها تعتمد قواعد الفيزياء الحتمية ذاتها لكن الأنظمة تعتمد على عوامل كثيرة جدًا تجعل توقعها مستحيلًا. أن التفاعلات الكيميائية الّتي تجري في الجسم تتأثر بالحرارة والضغط والملوحة والخلايا تتأثر باشارات تتداولها فيما بينها وكذلك الأنسجة. ومن شأن تغيير على مستوى النسيج أن يعود ويؤثر على التفاعلات الكيميائية التي هي كانت المصدر بعد الجينات. اذا فالنظام نظام بالغ التعقيد يعتمد على طبقات متعددة من المعلومات والتغيرات المتشابكة التي من المستحيل أن يتم توقعها وإن عرفنا القواعد الحتمية التي تقودها.
الحياة غير القابلة على التوقع
اذا فبسبب الخصائص الناشئة والسببية من اعلى الى اسفل والحتمية غير المتوقعة تتحول الحياة الى معضلة للرياضيات تتجاوز طرق الحساب التقليدي. الأنظمة الحية هي شبكة ديناميكية يؤثر كل على كل في كنف قواعد الفيزياء. الحياة تعتمد على الفيزياء والكيمياء إلا أنها تتفرد بشكل أكثر وضوحًا بالخصائص الناشئة واشكال السببية المختلفة.
إن الحياة تشبه القصيدة التي لا تفهم الا عندما تعاش، وليس آلة تعمل على قواعد سببية حتمية. هذا يدفعنا لأن نراجع مفاهيمنا الاساسية لمعنى الوجود الحي ومعناه الفلسفي والتجريبي. ويجعلنا نفكر مجددا بصلتنا نحن بالعالم المحيط وعلاقتنا مع الموجودات الأخرى.
***
فضل فقيه – باحث
...........................
قراءات إضافية:
Noble, D. The Music of Life: Biology Beyond Genes. Oxford Univ. Press (2006).