قضايا

فالح الحمراني: الحاجة الى تولستوي

تجلت أفكار المفكر والأديب الروسي ليف تولستوي (1828 ـ 1910) بشكل ساطع في الأعمال الفكرية والفلسفية التي كتبها بعد خروجه من أزمته الروحية، التي كادت تنتهي بإقدامه على الانتحار، وسطّرها في كتابه «الاعتراف»، ورسم بتأثيرها السبيل التي يرى الأديب والمفكر الكبير إنها تهدي إلى ارتقاء الإنسان بنوعه، وتحقيق الجنة على الأرض. فهل يمكن أن تساهم وجهات نظر ليف تولستوي، لاسيما مفهومه عن عدم مقاومة العنف بالعنف، وحول ماهية الدين ببعده الإنساني، في تجاوز الأزمات الروحية والأخلاقية التي يمر بها الشرق الأوسط، ككيان إقليمي متعدد الأديان والقوميات.

لقد وقفت أفكار تولستوي حول منهاج عدم مقاومة العنف وتحريم استخدامه، وراء العديد من الحركات الإنسانية والدينية، وهو بحق ملهم أفكار المهماتا غاندي زعيم الهند الأسبق ومحررها من ربقة الاستعمار الهندي بطريق اللاعنف. تولستوي الذي هضم التاريخ البشري بكل جوانبه، يؤكد استحالة إصلاح العالم والطبيعة البشرية والأنظمة، وإحلال العدالة، وتأمين الحريات، وتجسيد الشرائع السماوية عن طريق العنف، ويرفض تبرير ممارسة العنف بأي شكل من الأشكال ومن أي منطلق كان، وضد أي ما كان.

لقد استأثرت شخصية تولستوي وأعماله الفنية وتوجهاته الفلسفية، وتراثه الفكري، منذ بداية القرن الماضي باهتمام الساحة الثقافة العربية، ومازالت متواصلة حتى يومنا هذا. وبشر بأفكاره حينها، أحد اهم أنصاره بالفكر سليم قبيعين في كتابه «مذهب تولستوي»، كما انعكست أفكاره في أعمال ميخائيل نعيمة وغيره من كبار الكتاب العرب. وجذبت أفكار تولستوي في المقام الأول الدينية/ الأخلاقية المتنورين من المثقفين والقراء العرب، ولاسيما عن الحب والإخاء بين البشر، وعدم مقاومة الشر بالعنف، وفضح النفاق الديني وغيرها من جوانب دعوات تولستوي في مجال الدين.

هذه الأفكار مازالت مطلوبة للمرحلة الحالية التي تمر فيها المنطقة، وربما أهميتها والحاجة لإعادة التمعن فيها من جديد، أضحت أكثر، خاصـــة على خلفـــــية تشـــويه مفهوم وجوهر الدين، واستبدال أسسه السامية بمفاهيم غريبة عن روحه، تعتمد التطرف والعنف كوسائل حصرية لتجسيد الرسالة السماوية على الأرض.

لقد عثر المتنورون العرب في بداية القرن العشرين وما بعده، في أفكار تولستوي الرد على العديد من أسئلة المرحلة الملحة، وانعكس هذا ليس فقط في المقالات والتعليقات التي تناولتها، وإنما في الرسائل التي استلمها ليف تولستوي من المواطنين العرب البسطاء. فضلا عن رسائله الشهيرة المتبادلة مع مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبدة. وهنا يكمن السبب بظهور ترجمات لكتب تولستوي ذات المنحى الفكري والفلسفي والديني مؤخرا.

يمر العالم العربي والشرق الأوسط اليوم بأسره في أكثر المراحل تعقيدا في تاريخه الطويل، فقد شمل التدهور دولا ومؤسسات سلطة في العديد من البلدان التي تعاني شرائح واسعة من شعوبها من الملاحقة لأسباب مذهبية، والفقر إلى جانب الثروات، والانقسامات على أساس الهوية. هذا الوضع التاريخي القائم، وليد العديد من العوامل، بما في ذلك، التدخل الأجنبي، والتناقضات بين الدول والتخلف الاقتصادي لبعضها، ومؤثرات العولمة السلبية. بيد أن السبب الرئيسي هو عدم إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل المستديمة، التي تواجه شعوب المنطقة، وعلى خلفية الوقوف أمام طريق مسدود لسنوات طويلة، نمت التيارات التي تطرح مشاريع ماضوية غير قابلة للتجسد وراء ستارة «تسييس الإسلام».

لذلك تلوح أفكار ليف تولستوى الدينية والأخلاقية، بما في ذلك مواجهة العنف بكل أشكاله: عنف الدولة ضد مواطنيها، وعنف الحروب والثورات، العنف في مختلف الطوائف والعنف ضد المرأة والأطفال، إلخ. فضلا عن وجهات نظره بخصوص العمل الدؤوب لتغيير حياة الإنسان نحو الأحسن، عن طريق تطوير الإنسان لنفسه بنفسه، وتجسيد الشرارة الروحية في داخله، التي تمثلت في جميع الأديان السماوية، والالتزام بذلك السلوك الذي لا يتناقض مع العقل والضمير.

إن تنفيذ مبدأ اللاعنف في الشرق الأوسط، قد لا يجد الفهم التام من جانب بعض الدوائر الاجتماعية، نظرا لآن المنظمات الإرهابية ولتحقيق غايتها، تراهن على أساليب العنف لبث الرعب، وعلى التعامل الوحشي حتى مع المدنيين الأبرياء. وفي ضوء ذلك لا يمكن أن لا نتفق مع الباحث في فكر تولستوي جوسينوف الذي كتب «من غير الصحيح وضع النبرة على كلمة «عدم المقاومة» في صيغة «اللاعنف». وإننا نفهم فكرة تولستوي أفضل، حينما نركز على كلمة «العنف». إن مقاومة الشر ممكنة، ويجب أن تعتمد فقط على نبذ استعمال العنف. وحينها سنقاوم العنف بشكل حقيقي، حينما نمتنع عن مواجهته بالمثل.

تمحورت أفكار تولستوي عن الدين على توافق تعاليمه (الدين) مع تطور الفكر البشري، ويجب أن لا يوجد فيها مكان للغموض والخرافات، ولكن هناك لحظة عملية للغاية تتمثل في بناء مملكة الله هنا على الأرض. إن درس اليوميات المبكرة لتولستوي، يكشف عن عدد القواعد المختلفة المثيرة للدهشة للنظام الأخلاقي، التي وضعها الكاتب لنفسه. وهذه القواعد مدعوة لتنظيم حياته، لجعلها نظيفة وعادلة، للمساعدة على التغلب على أوجه القصور فيها، لكنها لا تعمل دائما. ويتجاوز تولستوي ذاته باستمرار، ويندم على الحياة المرفهة والكسل، ويخلق قواعد وخططًا وجداول حياة جديدة، وينتهكها مرة أخرى، ويتوب مرة أخرى. إن العمل الأخلاقي الضخم الذي يطبقه، إلى حد ما رجل شاب على نفسه مثير للإعجاب حقًا ولديه القليل من نظائره في التاريخ الروحي للقرن التاسع عشر.

إن العديد من أفكار ليف تولستوي المتعلقة بالدين تناغمت مع الفكر الديني المستنير في العالم الإسلامي والعربي، الذي وضع بذرته الأولى مُراسله الشيخ الإمام محمد عبده، ثم تقدم خطوات على أيدي علماء أجلاء في مصر والبلدان العربية والإسلامية من بينهم علي عبد الرازق وأمين الخولي وأحمد أمين ومحمد أحمد خلف اللـــه وخالد محمد خالد ومحمد إقبال وعلي الوردي وغيرهم.

إن العشرين تعليقا التي تركها تولستوي بقلمه على هامش القرآن الكريم الذي قرأه بعمق، تشير إلى تلك الجوانب في الكتاب الكريم التي تتطابق مع معتقداته وقيمه. وفيها تتجلى الدعوة للإخاء والتسامح وعمل المعروف والتضامن بين البشر والتكافل الاجتماعي ورفع الظلم والنير عن كاهل الناس.

***

د. فالح الحمراني

في المثقف اليوم