قضايا

عبد السلام فاروق: لغة الفنون.. وفنون اللغة

احتفاؤنا باليوم العالمي للغة العربية يزيدنا فخراً باللغة التي يتكلم بها كل ناطق بلغة القرآن حول العالَم. تلك اللغة العالمية التي ملأت المكتبات بذخائر العلوم في كل عصر منذ مجيء الإسلام ونزول الوحي بالرسالة المحمدية؛ آخر رسالات السماء إلى بني البشر، وقد شرفها الله أن جعل اللغة العربية العظيمة مفتاح تلك الرسالة.

 غير أن احتفالنا بتلك المناسبة لابد وأن يأتي مصحوباً بتساؤلات جوهرية تراود الأذهان: أولها حول مدي تأثير شيوع اللهجات العامية وغلبتها في أغلب المنابر الإعلامية والثقافية. وهل بإمكان هذه الظاهرة أن تؤثر على مكانة اللغة العربية في المستقبل القريب أو البعيد؟ وهل يتحقق ما يبشر به بعض المستشرقين الحاقدين على اللغة العربية من حيث كونها لغة العرب والمسلمين بأنها لغة مرشحة للانقراض والتحول إلى لغة من اللغات الميتة؟! وإذا كان هؤلاء يبذلون الغالي والنفيس من أجل النيل من لغتنا، فماذا بذلنا نحن من أجل الحفاظ عليها؟

 تساؤلات كثيرة تدور حول مصير الفصحى في ظل تدني مستوي دارسيها في شتي مراحل التعليم بسبب انتشار لغات أجنبية ولهجات عامية غزت ألسنة الأطفال والشباب المقلدين لما يرونه ويسمعونه في مختلف منصات الإعلام وشاشات الدراما. غير أنني مطمئن تماماً لمصير اللغة العربية الفصحى، لأسباب كثيرة، لعل من أكثرها إثارة لدهشة البعض: ارتباط اللغة العربية بالفنون منذ قديم الزمن!

لغتنا الجميلة

  ذلك عنوان لواحد من أهم البرامج الإذاعية للشاعر فاروق شوشة بأسلوبه الرائع في الإلقاء، وصوته المميز، وأدائه البارع. كان أمثال فاروق شوشة من الشعراء والأدباء والمثقفين غيورين على فصاحة النطق، وحريصين على تربية أجيال من الشباب على الاهتمام بالفصحى وسماعها ونطقها بطريقة سليمة لا غبار عليها.

  لقد كان الشعر هو الأقدم والأهم في العصر الجاهلي. وتبارَي الشعراء فيما بينهم لاستعراض قدراتهم البلاغية في تركيب العبارات الأخاذة وتدبيج قصائدهم بها. وانفرد العرب عالمياً بأنهم أقاموا أسواق واحتفالات بالشعراء والقصائد، أشهرها سوق عكاظ. وقد ظلت مكانة الشعراء بين قبائل العرب محفوظة حتى وقت نزول القرآن الكريم؛ المعجزة الربانية التي تحدي بها مالكُ الملك كلَّ جهابذة اللغة وأساتذتها حول العالَم أن يكتبوا مثله ولو آية. وما زال التحدي قائماً دون مجيب!

 ثم ظهرت في العصر الحديث فنون جديدة لم يعرفها العرب من قبل؛ كالرواية والمسرح والقصة القصيرة. على استحياء في أول الأمر، وأغلبها مجرد مترجَمات لروايات أجنبية تلقفها المثقفون من يد غزاة المشرق فوجدوا فيها سحراً خلاباً. وكان عليهم أن ينقلوا هذا السحر عبر لغتنا الخاصة، وهي العربية الفصحى. لم يكن وارداً لدي أذهان المثقفين آنذاك أن يجرؤوا على كتابة الرواية أو المسرحية بلغة العوام، حتى لو كان الجمهور كله منهم. هكذا استمر المسرح في بداياته يُكتب باللغة العربية الفصحى زمناً طويلاً. وهكذا كانت الرواية.

 ومن بين المشادات والمعارك الصحفية في النصف الأول من القرن العشرين، تلك التي تعلقت باستسهال بعض الروائيين لتطعيم بعض حواراتهم باللهجة العامية، كان هذا قبل انتشار الحوار العامي في المسرحيات، ثم في أفلام السينما والتليفزيون عند نشأتهما. غير أن جزالة النطق باللغة العربية الفصحى لم تغب عن المشهد الإعلامي والدرامي حتى وقت قريب. كان لدينا عدد كبير من الممثلين البارعين المتقنين للنطق باللغة العربية الفصحى. وإعلاميون كثيرون أجادوا الحوار بالفصحي بشكل ارتجالي في البرامج الحوارية أو في نشرات الأخبار. لكنهم يندثرون الآن وينقرضون شيئاً فشيئاً. حتى مسلسلات الدراما التاريخية اليوم خلت من تلك الميزة: فهي إما تدور بحوار عامي مبتذل، أو أنها غير موجودة بالأساس.

 غير أن كل هذا التدني والاستهانة بشأن لغتنا الفصحى الجميلة لا يثير قلقاً عندي. لأنها لغة ارتبطت بثلاثية باقية خالدة تضمن للفصحي الخلود: القرآن، والفنون، والتراث القديم.

بين الفن واللغة

 كثير من الفنون ارتبطت باللغة العربية على مر العصور: كالخط العربي، والزخرفة الإسلامية، والمعمار، والشعر، والموسيقي، والغناء، والدراما. تلك الفنون تتحول بمرور السنين إلى تراث إنساني يخلده التاريخ.

 وإذا كان القرآن الكريم قد ضمن انتشاراً واسعاً لدراسي اللغة العربية والناطقين بها حول العالَم، فإن الفنون ضمنت ارتباط هذه اللغة البارعة الرائعة بجماليات الفنون المكتوبة والمرسومة والمسموعة والمرئية. وتلك أسباب خلود مضمون لا تهدده ضغائن أو أحقاد أو مؤامرات خائبة تريد النيل من لغة محفوظة في الصدور والقلوب والأذهان والكتب وعلى جدران المساجد في أطراف العالم الأربع.

 عندما أنشأ الفاطميون الجامع الأزهر، تحول في عصر الأيوبيين وما بعدهم إلى جامعة إسلامية كبري ومنارة علمية عالمية يؤمها الدارسون من شتي أنحاء الدنيا. ثم نشأ مجمع اللغة العربية، وكان هذا إيذاناً بتقدم هائل في مجال اللغة العربية التي استوعبت كل ميادين الحياة المعاصرة بمعاجم متخصصة في كل المجالات العلمية الدقيقة: كالبيولوجيا والطب والتكنولوجيا وعلوم الحيوان والنبات والبترول، وغيرها من مناحي الحياة اليومية الحديثة. أي أن اللغة العربية امتازت دائماً بالمرونة والقوة والرسوخ، فلم تقف عند عصر من العصور، ولم يعجزها تطور الحياة، بل كانت قادرة دائماً على التشكل والتمدد والنمو بشكل دائم لاستيعاب الجديد.

 حتى حركات التحرر من قيود اللغة كانت في حقيقتها وجوهرها نوع من المرونة اللغوية، وقدرة هذه اللغة العجيبة على التلبس بأكثر من حالة حياتية. وتعدد اللهجات لا يُضعف اللغة العربية بل يقويها ويكسبها المتانة والاستمرارية والمرونة.

 لقد ظن دعاة العامية أنهم بتحررهم من قيود اللغة العربية الفصحى في الدراما أو من قيود القافية والوزن العَروضي في الشعر، أنهم بهذا أنزلوا الفصحى من عرشها الأبدي وأسقطوا هيبتها، لكن هيهات. فإن كل محاولة جديدة لابتكار لغة من لهجات الشارع العادي تزيد الناس احتراماً للغة العربية الفصحى، وتذوقاً لها. وشتان بين أن تسمع مذيع يتلجلج في نطق الفصحى ويسترسل في نطق العامية، فيضطرك للفرار من قناته إلى قناة تحترم الفصحى وتحرص على إجادتها بطلاقة. واحترام عوام الناس للقناتين ليس واحداً أبداً. إذ لا يزال السواد الأعظم من المشاهدين والمستمعين العرب في أي مكان يكن احتراماً شديداً للغة العربية الفصيحة إذا نطق بها من يتقنها، ممثلاً كان أو مذيعاً أو قارئ نشرة أخبار.

 ميدان التواصل الاجتماعي والفضاء الافتراضي يمثل تحدياً جديداً لانتشار العامية على حساب اللغة العربية الفصحى، وإن لم يكن هذا الأمر عاماً. بل لا تزال الكثير من قنوات الفيديو ومنصات التواصل الاجتماعي حريصة على النطق السليم باللغة العربية الفصحى لأسباب ذكية: أهمها تجاوز إشكالية اختلاف اللهجات بين البلدان العربية، وضمان انتشار أوسع في المحيط الإقليمي والعالمي. لهذا فإن المنصات التي تجيد التحدث باللغة العربية الفصيحة السهلة تتميز بمدي انتشار أوسع ومعدل مشاهدات أكبر من منصات أخري لا تلتزم بفصاحة اللغة.

 لا أكاد أشك أن اللغة العربية قادرة على الحفاظ على مكانتها العريقة مهما كانت التحديات، وأنها تتطور باستمرار، وأنها تملك في ذاتها عوامل خلودها ومنعتها ضد كل محاولات الحاقدين عليها. وأن احتمالية أن تتحول اللغة العربية إلى لغة ميتة هي احتمالية تصل إلى حد الاستحالة. وأن احترام عموم الناس، ولو كانوا من الأميين، سيظل قائماً تجاه الناطقين المتقنين للغة الضاد.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم