قضايا
اسعد الامارة: أفكار التحليل النفسي.. ضياءٌ وشفاء
يقول نيتشه: عندما نكون متعبين تهاجمنا من جديد تلك الأفكار التي هزمناها منذ مدة طويلة.. هل هو عودة المكبوت؟ هل بناء لم يكن صلب، هل تغيرت المعاني في الفهم سلبًا، أم إيجابًا؟ النضج أم التدهور! نحاول في هذه السطور أن نبين كيف يكون التحليل النفسي ضياء للمعرفة عما يدور في دواخلنا، إذا ما سلمنا جدلًا بأن النفس تعرف مسعاها، ونحن نتفق مع دواخلنا بهذه المعرفة، ولكن لا نريد أن نعرف!! هل هذه المعرفة مؤلمة؟ هل هي تاريخ غابر به من الخجل ما لا نريد معرفته فيصطدم بجدار الحقيقة، وما أدراك من الحقيقة، التي تكمن فينا ونحاول ازاحتها إلى موضوعات جانبية نبررها، نسقطها، ننقلها إلى موضوع آخر لكي لا نعرفها، ونحن نعرفها حق المعرفة، وندركها في وعينا وفي لا وعينا، نكبتها خجلًا أو خوفًا، أو نصطنع الضد منها بوصفه خير وسيلة لضبط الرغبة المحظورة وكبتها كما يقول "مصطفى زيور".
تؤكد لنا المعرفة النفسية المعمقة في النفس أن عناصر الوعي المتخيل في الفكر هي عناصر الوعي نفسها التي نمنحها عادة أسم الأفكار، هذه الأفكار هي وعينا بهذا الموضوع، أو ذاك، وهي بكل الأحوال تتكون بعدة طرائق من التفكير وقوة تقديرها، أعني تأثيرها فينا، والشعور بها في لحظات حينما تداهمنا بلا سابق انذار، وهو يمكن أن يكون تفكير رمزي، لا نستطيع رفضه، ويجبرنا على قبوله، والمهم هنا يعلمنا التحليل النفسي كيف نُكونْ هذه الصورة على أنها أثرٌ مادي رغم أنها عنصر غير حي، ويلعب الدور الأساس في أما تدهور صحتنا، أو رفضه، وحتى لو رفضناه سيعود يومًا بشكل آخر محرف!! وهنا يصدق نيتشه حينما يرى: تهاجمنا من جديد تلك الأفكار التي عرفناها وتعاملنا معها وسلطنا الضوء عليها بضياء التحليل النفسي قبل الخوض في العلاج ليكون الشفاء. ويقول "سارتر" لا يمكننا قبول تصور تضاف بموجبه الوظيفة الرمزية على الصورة من الخارج، يبدو لنا، ونأمل أن نكون قد أوضحنا إلى حد ما أن الصورة رمزية في جوهرها وبنيتها بذاتها، ولا يمكن لأحد أن يقمع وظيفة الصورة الرمزية من دون التسبب في تلاشي الصورة نفسها. ونقول كيف تأسست وأَنبنت ؟ وكيف تم استدعائها في تلك اللحظة من المكان والزمان، ومن استدعاها ؟ هذه التساؤلات يجيب عليها التحليل النفسي بشكل مسهب ومستفيض بالمعرفة الحقة، من فرويد مرورًا إلى أنا فرويد وهيلين دويتش وميلاني كلاين، وحتى من خرج على التحليل بإتجاهات جديدة منهم الفرد آدلر، أو كارل يونغ، أو غيرهم، وصولا إلى عمق ما طرحه جاك لاكان في رؤيته الأعمق في مفاهيم سيجموند فرويد، وسبر أغوار النفس.
التحليل النفسي يعرفنا باستبصار ما يدور في دواخل أنفسنا، وهو ما كان يعنيه مصطفى زيور بضياءٍ، ومن ثم فهو شفاء، وقوله نقلا عن فرويد: إن المريض الرئيس الذي يشغلني حاليًا هو نفسي. ويؤكد " مصطفى زيور" النفس أثناء جهادها للمعرفة، لا تقتصر على أن تكون مرآة تعكس الأشياء، لأن الانتقال من المعرفة المشوشة إلى المعرفة الواضحة الجلية، ضياء وشفاء للنفس معًا. فلو كان الشخص الذي يعرف أنه يوسوس ويحاول جاهدًا استبعاد الفكرة التي تجعل منه يوسوس، ولكنه كلما حاول وبحث وناقش مع نفسه، تعاظم وسواسه، فنراه حينما يطرح أتفه مسألة نراه يثير مسائل أخرى تعذبه مثل المسألة التي يحاول طرحها، ويظل يدور في حلقة مفرغة لا يستطيع رفضها، أو يعززها ليبذل جهودًا مضنية في استبعادها، وهو على معرفة تامة بما يفكر به، ويقوم بفعله، يقوم بالفعل ونقيضه، لذا فالتحليل النفسي كما عبر عنه سيجموند فرويد بأنه ينقلنا ليس من الشقاء إلى السعادة، وإنما إلى شقاء مرضي إلى شقاء عادي، فكما تتطلب الحياة الهادئة راحة البال يتطلب التفكير الناجح التركيز وصفاء الذهن.
يرى "جاك لاكان " إن مفهوم الفهم هذا له دلالة واضحة جدًا، إنه المنطلق الذي جعل منه "ياسبيرز " تحت إسم علاقة الفهم، ركيزة كل عطاءه في علم النفس المرضي، وهذا المفهوم يؤدي إلى التفكير بأن أشياء مفهومة في حد ذاتها، فإذا حزن شخص مثلا، فَمَرد ذلك إلى أنه لم يحصل على ما رغبت فيه نفسه، إلا أنه ليس هناك أبعد عن الصواب من هذا القول، ذلك لأن هناك أشخاصًا ملكت أيمانهم كل ما ترغب إليه قلوبهم وأنفسهم، إلا أنهم مع ذلك يبقون في حزن شديد، فالحزن إذًا هو شغف من طبيعة مغايرة تمامًا. وهذا المفهوم الذي هو مفهوم المفهوم لا تتم الإشارة إليه إلا كعلاقة متموضعة دومًا على الحدود، كلما تم الإقتراب منها أصبحت بعيدة المنال كما يقول لاكان. ويضيف " لاكان" أيضًا أن كل ما هو سيكولوجي في السلوك الإنساني يخضع لإضطرابات جدًا عميقة، ويتضمن مفارقات جدًا واضحة، إلى حد تستحيل فيه معرفة ما يمكن فعله بشأنه كي يتسنى التفريق في مجاله بين الخيط الأبيض والخيط الأسود. فالتحليل النفسي معرفة قل نظيرها ومختلفة عن العلوم النفسية التي دائمًا تأخذ أجزاء من النفس وتكتفي بها، وكأنها جشطالت غير متكامل الأجزاء، فمعرفة حدة الشخصية، أو دراسة أبعاد الإندفاعية والغضب، أو بعض الأنماط المعرفية عن ظاهرة جزئية في النفس، أو دراسة أنماط محدودة من النفس وربطها باضطراب نوع من أنواع الشخصية وغيرها، لا يمنح التعرف على ما يدور بكل ما فيها وأقصد هنا النفس ، وتساؤلنا كيف تتم المعرفة ؟ وكيف يمكن الإهتداء بكلية النفس ومعرفتها؟ في حين أن المعرفة الكلية بالموضوع دون تجزءته تجعل صاحبها يبصر بعمق لما يجري في نفسه، وهو ضياء للمعرفة.
يبين لنا التحليل النفسي عدة مواقف في حياتنا النفسية نستدل بها في بعض الأحيان بالفطنة رغم انها موجودة فينا، لم تغادرنا منذ تكونها من الطفولة، وأزاء ذلك فقول سيجموند فرويد
وقد أكدت التجربة هذه، فعادة ما يتم اختزال نسيان الانطباعات والمشاهد والتجارب في "حجبها" فعندما يتحدث المريض عن هذا الشيء "المنسي"، نادرا ما يفشل في إضافة: بقوله الواقع كنت أعرف ذلك دائما، أنا فقط لم أفكر في ذلك. غالباً ما يعبر عن خيبة أمله لأنه لا يستطيع التفكير في ما يكفي من الأشياء التي يمكن أن يتعرف عليها على أنها "منسية".
والتي لم يفكر فيها مرة أخرى منذ حدوثها، كما ورد هذا النص عند فرويد في مقالة التذكر والتكرار، من خلال، ترجمة الصديق الاستاذ محمد أمين، ويضيف فرويد أيضًا: من العمليات النفسية التي يمكن مقارنتها بالانطباعات والتجارب كأفعال داخلية بحتة، والتخيلات، والعمليات العلائقية، والعواطف، والارتباطات، فيجب النظر إليها بشكل منفصل في علاقتها بالنسيان والتذكر، يحدث هنا في كثير من الأحيان أن يتم "تذكر " شيء ما ولا يمكن "نسيانه" أبدًا لأنه لم يتم ملاحظته مطلقاً في أي وقت، ولم يكن واعياً أبدًا، فضلا عن ذلك يبدو أنه لا علاقة له على الإطلاق بالعملية النفسية ما إذا كان هذا "الارتباط" واعياً أم لا. ثم نسيها أو لم يستحضرها إلى الوعي أبدًا.
لا نجافي الحقيقة كثيرًا، أو نبتعد عنها إذا ما أطلعنا على أفكار ونظريات التحليل النفسي بكل اتجاهاته، أنه يدلنا على معرفة ما يدور بدواخلنا، وإذا ما تمعنا به بعمقق لوجدنا أنفسنا نضع أصابعنا على مواضع نعرفها، ولكننا نخاف الغوص فيها، لأنها بؤر ربما ضحله، بها ذكريات مؤلمة نسيناها وتناسيناها، فما هو بداخلنا يمكن أن يقدم لنا التحليل النفسي خدمة الضياء له، وبالتحليل النفسي يكون العلاج منه، إن وجدنا لذلك من بدٍ له وضرورة، ولا يوجد في إنسان اليوم من يبرأ مما رشح في داخله من آلم ترك الذكريات، فالتحليل النفسي هو الضياء، وهو الشفاء.
***
د. أسعد شريف الامارة