قضايا
محمود محمد علي: قراءة في مشروع عصمت نصار الفلسفي
بعد أفول نجم الحضارة العربية الإسلامية وغروب مرحلة الازدهار وتألق الفكر الإسلامي، ظهرت علامات التخلف والانحطاط وكثرت صيحات التكفير والتهويل وفتاوى التحريم وغيرها مما أدخل الفكر الديني في حالة من الفوضى وعدم التوازن، ومع بزوغ عصر فجر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين، ظهرت ثلة من العلماء والمفكرين والمجددين داخل فضاء الفكر الإسلامي .
ومن أبرز هؤلاء الإمام محمد عبده (1849-1905) حيث أخذ على عاتقه مهمة التجديد في أمور الدين من خلال تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، ومن أجل هذا وصفه الكاتب الكبير محمود عباس العقاد "بعبقري التنوير،" ووصفه الكاتب السيد يوسف "برائد الاجتهاد والتجديد للفكر الديني،" ووصفه آخرون بباعث الدولة المدنية وإمام المجددين، وقال عنه الكاتب والمفكر محمد عمارة إنه مجدد الدنيا بتجديد الدين.
وفي دراسة قيمة للدكتور جميل صليبا بعنوان " الانتاج الفلسفي – الفلسفة عموما وفلسفة العلوم "، نشرت ضمن كتابه الفكر الفلسفي في مائة عام، أن الوطن العربي شهد عدة اتجاهات رئيسة، ومنها تيار العقلانية كما فهمها مفكرون عرب أمثال محمد عبده والذي كان مؤمنا بأن المشكلة ليست في الدين، وإنما في الفهم الخاطئ له، وما تراكم على هذا الفهم من أفكار استمرت في الوجود واكتسبت قداسة طمست حقيقة الإسلام التي تدعو للبناء والرقي المادي والروحي، باتساع المكان والزمان ووفق متطلبات كل عصر.
ومشروع الإمام محمد عبده قد تبناه عدد كبير من مفكرينا المعاصرين، ومن أبرزهم صديقي الأستاذ الدكتور نصار – أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، حيث كان يؤمن بأن الإمام محمد عبده واحدا من كبار المجددين المصرين المعاصرين الذين أمنوا ، بأنه لا سبيل لتفعيل المشروع النهضوي - الذي خطط له وشرع في تنفيذه - إلا بإحياء العلوم العقلية وإدراجها في المعارف التعليمية والترويج لها في الصحف وعقد الحلقات النقاشية لتبسيطها للجمهور وإقناعهم بأنها خير سلاح يمكن للمسلمين الزود به عن دينهم أمام هجمة غلاة المستشرقين الشرسة التي أعدت العدّة للتشكيك في أصول الدين وسنة النبي والتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية ونشر الإلحاد بين شبيبة هذا العصر.
وفي نظر عصمت نصار ( مع حفظ الألقاب) أنه قد أرادوا بذلك استكمال الطريق الذي مهّد له حسن العطار في حديثه عن التجديد وتلميذه رفاعة الطهطاوي وما كان يكتبه من الأبحاث الفلسفية في (مجلة روضة المدارس 1870م) وجهود على مبارك في إصلاح التعليم وإنشاء دار الكتب 1870م ودار العلوم 1872م .
ولذلك رأينا أن من أهم القضايا في نظر عصمت نصار والتي كانت تناقش في مجلس محمد عبده قضية ضرورة تبرأة الحكمة العقلية والمصنفات الفلسفية من تهمة الإلحاد التي ذاعت بين الأزهريين إلى درجة تحريمها والارتياب في عقيدة كل من يتحدث عن الفرق الكلامية، ولا سيما المعتزلة والكتابات العقلية مثل فلسفة ابن رشد وابن خلدون وذلك حتى عام 1871م.
ولم تقف دعوته الإصلاحية عند هذا الحد كما يؤكد عصمت نصار؛ بل فتح باب الاجتهاد متخذاً من المنطق والقياس العقلي منهجاً في الاستنباط، ونادى للتوفيق بين المذاهب الطائفية والفقهية والكلامية، وفرّق بين الحكمة العقلية والنظريات الفلسفية من جهة والنظر العقلي وآراء المتفلسفة من جهة أخرى، ومج التعصب بكل أشكاله، وكره أن يوصف بالكفر من يبوح برأيه حتى لو كان مخالفاً للمألوف أو المتفق على صحته، والأصوب في رأيه مجابهة الكتابات الجانحة والمعتقدات الشاذة بالمثاقفات العقلية والحجج العلمية والمنطقية والشرعية من قبل العلماء، وليس من فيهم المتعالمين والأدعياء، ولم يوافق كذلك على مصادرة الكتب أو معاقبة المجترأين؛ بل كان يرى أن الحوار والمحاججة أيسر السبُل لإثبات بطلان ادعاءات الخصوم أو كذب المدلّسين. كما دعا لتشكيل مجلس أعلى للعلوم الإسلامية للحد من خلافات الأقطار الإسلامية من جهة، والصراع الملّي من جهة ثانية، وتجديد فقه المعاملات والأحوال الشخصية تبعاً لثقافة العصر ومقتضيات الواقع من جهة ثالثة؛ ذلك فضلاً عن حثه لأول مرة ضرورة إدراج علم مقارنة الأديان، وتاريخ المذاهب الفلسفية، وكتابات المستشرقين والرد عليها، والفلسفات قديمها وحديثها، والأخلاق والمنطق، والتوسع في علم الكلام، ضمن المناهج الدراسية العالية، ولاسيما للطلاب المتخصصين في علوم الدعوة.
وفي نظر عصمت نصار أن ما توصل إليه محمد عبده في هذا الصدد راجع إلى إيمانه العميق بالخطاب الفلسفي عند ابن رشد، حيث ذهب إلى بعث الفلسفة الرشدية خاصة والمعارف الفلسفية من جديد في الثقافة العربية بعد أفولها، وارتدى بذلك عباءة ابن رشد وراح يدافع عن الحكمة العقلية مؤكدا موافقتها للدين وأن عزوف الأزهريين عنها لا مبرر له إلا الجمود والجهل .
وفي نظر عصمت نصار أن مشروع محمد عبده قد لقي ترحيبا منقطع النظير لدي هو الشيخ مصطفى عبدالرازق (1885م-1947م) الذي نجح في إكمال ما بدأه المراغي والظواهري وجمع حوله عشرات التلاميذ من شبيبة الأزهر المؤمنين برسالة الإمام "محمد عبده"، ومشروع النهضة والاستنارة مثل محمد فريد وجدي (1878م-1954م) الذي أثرى الثقافة الإسلامية بمناظراته العلمية حول قضايا الفكر الإسلامي وذلك منذ توليه تحرير مجلة الأزهر عام 1935م.
كما لقي ترحيبا لدي الدكتور محمد يوسف موسى (1899-1963م) الذي كشف عن أثر فلسفة ابن رشد في الثقافة الأوروبية والفلسفة المسيحية، ونبّه على بعض الأغاليط التي أُلصقت بفكر ابن تيمية، وبين وجهته العقلية في نقد المنطق الأرسطي واجتهاده في ميدان الفتوى وانتصاره للعقل في معالجة الكثير من القضايا. ذلك فضلاً عن مقابلة محمد يوسف موسى بين القوانين الوضعية للشريعة الإسلامية وتبيان حكمة الباري في دستوره والفلسفة الكامنة وراء آيات القرآن الكريم.
ولم يكتف نصار بذلك بل رأيناه يضم الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894م-1966م) حيث يقول عنه بأنه أحيا خطاب التجديد عند محمد عبده، ووضع شروطاً للداعية المجدد، وحدّد المفهوم الحقيقي للأصولية الإسلامية، وفعّل منهج الشيخ "محمد عبده" في تجديد علم أصول الفقه وعلم التوحيد، وناقش العديد من القضايا المعاصرة للمنهج العقلي البرهاني.
والسؤال الآن : ما السمات المميزة لمشروع محمد عبده المستنير في نظر عصمت نصار؟
وهنا يجيبنا نصار بأنها تقع في سبع قواعد:
أولها: الانتصار للعقل.
وثانيها: نقض الغلو والتطرف والبدع والجمود المذهبي.
وثالثها: العودة بالدين إلى سذاجته الأولى.
ورابعها: إصلاح حال اللغة العربية،
وخامسها: الاحتكام إلى أساس مركزي ثابت يستطيع استيعاب سائر المتغيرات تبعاً للواقع المعيش ويتمثل ذلك الأساس في الفصل التام بين الثابت والمتحول على أن يكون ذلك الثابت مرناً على نحو لا يؤثر في قوة صلابته واستمراره، وذلك لأنه يحوي المشخصات الحاكمة للمجتمع والمقاصد العقدية والولاء والانتماء والعمل الجاد للحفاظ على تماسك البناء الاجتماعي. أمّا المتحول؛ فيتسم بالوعي والوجهة النقدية العملية دون أدنى محاولة منه للخروج عن نطاق الثابت الذي يحويه ويختص به لاستيعاب الوافد من المعارف ونقد المستحدث من النظريات والقوانين والنظم وانتخاب النافع من الوسائل والآليات التي توافق الواقع المعيش والحفاظ دوما على حرية البوح والخلاف.
وسادسها: رفض السلطة الثيوقراطية وحكم الكهنة، ويرجع ذلك إلى وعي مدرسة العطار، ومن بعده محمد عبده وتلاميذه بمفهوم السياسة الشرعية الذي يختلف تماماً عن مصطلحات الحكم الإلهي والحكمة الشرعية والحاكمية الربانيّة وغير ذلك من المصطلحات التي زَجّ بها المتطرفون في ميدان السياسة وأمور الحكم والتأكيد على أن الأمة مصدر السلطات، وأن الإسلام لم يخصّ جماعة أو هيئة أو فئة للحد من حرية العباد.
وسابعها: نقد التعارض بين الدين والعلم والفلسفة والشرع؛ فقد ذهب الأستاذ الإمام وتلاميذه إلى أن الإسلام قد حرص على الإعلاء من شأن العلم وأهله، وبيّنوا ذلك في التفاسير المتواترة للقرآن، وأحاديث النبي صلوات الله وسلامه عليه، وسيرة صحابته، وسلوك الخلفاء الذين حكموا ديار الإسلام، ويشهد بذلك تاريخ العلم في العصر الوسيط. وقد أهتم رواد مدرسة الإمام بعديد من الأمور ذات الصلة. أولها: التأكيد على أخلاقيات العلم وضوابط سلوك المشتغلين به، والحرص على انتقاء النافع والمفيد من المعارف بغض النظر عن جنسية أو دين أو توجّه منتجيها، وعدم الخلط بين الأحكام الظنيّة والرؤى الاستنباطية، والشائع من الأخبار والأمور المتعلقة بالدين في ميدان البحث العلمي. ومن ثمَّ لا يحق لغير المتخصصين في الأمور العلمية الإدلاء بالفتاوى المُحرضة أو الناهية أو المعطلة لمّا ثبت نفعه بالبرهان العلمي، أو وضع المصنفات التي تربط بين الآيات والأحاديث والنظريات العلمية التي لم يثبت بعدُ القطع بصحتها؛ بل على المفسرين والمألولين تفسيرُ مقاصد الآيات في ضوء الثقافة المطروحة على نحو لا يتعارض مع العقل من جهة، ولا يناقد التجربة والتطبيق من جهة ثانية، ولا ينكر الواقعات المسلم بحدوثها في القرآن وصحيح السنة مع عدم ارتياح العقل لها (وللحديث بقيّة)..
***
الأستاذ الدكتور محمود محمد علي
كاتب مصري