قضايا

أنور ساطع أصفري: الفكر القومي وإعادة إحيائه مهمة من؟

بعد حملة محمد علي والتدخل الأوروبي الذي تبع ذلك، كانت أولى إرهاصات القومية العربية، وكانت المطالب محدودة، تتمثّل بإجراء إصلاحات داخل الدولة العثمانية وإستخدامٍ أوسع للغة العربية.

وفي عام 1913 اجتمع العديد من المفكرين والسياسيين العرب في العاصمة الفرنسية باريس كمؤتمر أول لهم، واتخذوا مطالبهم للحكم الذاتي داخل الدولة العثمانية، وأن لا يخدم المجندين العرب خارج إقليمهم.

كما أن الأحداث الطائفية التي شهدها وسورية 1860-1861 عالجها المفكر بطرس البستاني، واليازجي وأتباعه من خلال الإنتماء المواطني على أساس القومية بعيداً عن أي تعصبٍ ديني أو مذهبي.

إن ظهور الفكر القومي تبوأ مكانه في أواخر القرن التاسع عشر، حيث قامت شخصيات وأحزاب كحركةٍ سرّية في الخفاء، وكوّنت نفسها في العاصمة التركية، ومن ثُمّ كشفت عن نفسها كحركةٍ علنية، وكانت بيروت مقراً لها، ومن ثُمّ أصبحت حركة سياسية بعد عقد مؤتمرها الأول في العاصمة الفرنسية باريس، عام 1912.

طبيعي أن تكون فكرة القومية العربية محصورة في ذلك الوقت بين أشخاصٍ وأقليات من غير المسلمين، وبعد ذلك تأثّر بها وبمعتقداتها وأفكارها بعض من المسلمين، ولم تُصبح تياراً شعبياً إلاّ بعد أن روّج لها عبد الناصر.

ولعل أهم من دعا للأفكار القومية، ساطع الحصري، ومن ثُمّ ميشيل عفلق، الذي قاد هذا التيار و وضع له الكثير من الخطط والأهداف.

كما كانت هناك العديد من الشخصيات والجمعيات ذات التوجّه القومي، من أبرزها:

- بطرس البستاني وناصيف اليازجي، أسسا الجمعية السورية في دمشق عام 1847.

- سليم البستاني ومنيف خوري، أسسا الجمعية السورية في بيروت عام 1868.

- نجيب عازوري أسس جمعية رابطة الوطن العربي عام 1904.

- خيرالله خيرالله أسس جمعية الوطن العربي 1905.

- خليل حمادة أسس الجمعية القحطانية وهي سرية، عام 1909.

- جمعية العربية الفتاة أسسها مجموعة من الطلبة في باريس منهم محمد بعلبكي، عام 1911.

- حزب العهد وهو سري، تم تأسيسه من قبل الضباط العرب في الجيش العثماني عام 1912.

جمعية العلم، وهي جمعية تأسست في مدينة الموصل عام 1914.

- وفي عام 1948 تأسست حركة القوميين العرب، من طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت، وضمّت فلسطينيين وسوريين وأردنيين وكويتيين وعراقيين، من أبرزهم، أحمد الخطيب، جورج حبش، حامد الجبوري، هاني الهندي، وديع حداد، صلاح الدين صلاح، صالح شبل، حكم دروزه، عدنان فراج، ثابت المهايني، مصطفى بيضون، محسن إبراهيم.

وهم الذين عقدوا مؤتمرهم الأول السري 1956،

لعل من أوائل روّاد الفكر القومي المعاصر كان المفكر السوري والتربوي ساطع الحصري 1879-1968، تجسّد مشروعه، وتبلورت انطلاقته بأفكاره حينما عمل وزيراً للمعارف في فترة حكم الملك فيصل في سورية، ومن ثُمّ تواصل عمله الفكري والتربوي حيث إنتقل مع الملك فيصل إلى العراق، وعمل هناك وزيراً للمعارف، وبالتالي كان مشرفاً على عملية إختيار المناهج التعليمية، وعُرِفَ أنّه كان يتبنّى المناهج العلمانية.

وكان واضحاً أنه من المؤمنين بالعروبة والداعين لتحقيق الأمل العربي بالوحدة، وكان هذا التوجّه جليّاً من خلال كتاباته التاريخية ومحاضراته.

ومن أهم مؤلفاته في هذا التوجّه، - حول القومية العربية - آراء وأحاديث في القومية العربية - آراء وأحاديث في الوطنية القومية - العروبة أولاً - دفاع عن العروبة.

ولقد اعتمد الحصري على مفهوم الأمة العربية كأدبيات الفكر القومي، من خلال عوامل اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ.

واعتبر الحصري أن عامل اللغة ذو أهمية كبرى كمقومات للنهج القومي، واعتبر هذا العامل الأساس للعروبة والتلاحم والوحدة المنشودة، كما أعطى الدور المهم للمؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية لتكوين ثقافة عربية تعزز وحدة الأمة لتكون مقدمة مهمة للوحدة السياسية.

كما تجسّد إسم محمد عزّة دروزة 1887-1984 كأحد المفكرين الفلسطينيين والمؤرخين المؤمنين بالعروبة، وهذا الفكر برز من خلال كتاباته في التاريخ مثل: تاريخ الجنس العربي - العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي - وتبلورت الآراء مع كتاب " الوحدة العربية " الذي صدر عام 1946.

كتابات المفكر الفلسطيني دروزه تُركّز على مفاهيم العرق والجنس العربي، وأكّد على الاعتقاد بوجود جوهر مستقل للوطن العربي على أساس العرق، بمعنى أنه أراد تجسيد وتأسيس الجوهر العربي بشكلٍ مضاد للجوهر الصهيوني اليهودي.

كما كان قسطنطين زريق 1909-2000 من المفكرين القوميين العرب، ويُعتبر داعية للتحديث والعقلانية، وكان من أبرز الأسماء في فضاءات الفكر القومي العربي، حيث أسس في أواخر العشرينيات " جماعة القوميين العرب " وخرجت من هذه الجماعة تنظيمات جديدة، مثل: حزب فلسطين القومي - عصبة العمل القومي - حركة القوميين العرب عام 1948.

ولعل من أهم كتب زريق، الكتاب الأحمر 1933- والذي يعتبر كميثاق للقومية العربية، وكتاب " الوعي القومي " 1939.

وبمنطق المفكر زريق هناك جوهر عربي يُميّز أُمّة العرب عن الأمم الأخرى، وذلك من خلال عوامل العرق واللغة والثقافة والتاريخ المشترك.

جاء الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان عام 1922 وصاية من عصبة الأمم المتحدة، بعد سقوط العهد العثماني، وبعد نهاية حكم الانتداب الفرنسي نتيجة المقاومة السورية عام 1946، تبوأ المفكر زريق عضوية فريق السلك الدبلوماسي السوري في واشنطن، كما عمل عضواً مناوباً في مجلس الأمن، وبذلك عايش المفكر قسطنطين زريق التحولات العملية لحقبة الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال ومن ثم الانقلابات والهزيمة، كل هذه الأمور والتحولات جعلت أفكار المفكر زريق تتبلّور لديه وتشهد تحولات هامة.

لذلك جاء كتابه بعد هزيمة 1967 " في معنى النكبة مُجدداً " حيث ركّز على فكرة التحديث والعقلانية.

بمعنى ومن خلال أفكاره أن أساس النهوض هو التحديث الذي يكفل النهضة القومية، والتطور والنمو في وسائل الإنتاج نحو حياة اجتماعية وفكرية وروحية متطورة. وهنا يأتي إسم المفكر قسطنطين زريق في مقدمة التيار الداعي للعقلانية في الفكر العربي المعاصر.

و برز من لبنان المفكر القومي منح الصلح 1927-2014 من منطقة رأس بيروت، وكان عروبياً بامتياز، وكان يبتعد عن المناصب السياسية علماً أنه ينحدر من عائلةٍ سياسية، ومن كتبه: الثورة والكيان في العمل الفلسطيني - المارونية السياسية - مصر والعروبة -.

وجعل منح الصلح رأس بيروت منطقة المثقفين العرب، ورواد الحركات الوطنية والقومية، وكانت شبه متحفٍ لمشاهير العرب صنّاع النهضة العربية.

يقول الصلح في إحدى كتاباته، " عشت شاهداً في رأس بيروت على مراحل التأسيس لأكثر من حزبٍ سياسي، مثل حزب عصبة العمل القومي الذي تأسس بين دمشق ورأس بيروت، والحزب السوري القومي الذي تأسس كلّياً في رأس بيروت، وحزب البعث العربي الذي تأسس في دمشق، وبعض مؤسسيه تردّدوا من أول تأسيسه إلى رأس بيروت، و اختاروها في بعض مراحل حياتهم للسكن والعمل. وحزب النداء القومي الذي تميّز منتسبوه بأنهم كانوا القادة الفعليين لمعركة الشارع السياسي والتقدمي ضد الانتداب الفرنسي، وحركة القوميين العرب من خلال خلايا للطلبة في الجامعة الأمريكية ببيروت، وبعد النكبة ظهر بعدان جديدان لفكرة القومية العربية:

أن فلسطين هي قلب الحركة العربية، والثاني هو فكرة الكفاح المسلح ".

وكانت بوصلة منح الصلح متوجهة على الدوام إلى فلسطين والوحدة العربية.

كما لا ننسى أن جمعية العروة الثقافية التي استقطبت عدداً كبيراً من الشباب القومي العربي، وكتائب الفداء التي تم تشكيلها في سورية بشكلٍ سري، وكان جورج حبش عضواً في هذه المجموعة، وكان من أعضائها أيضاً حسين توفيق من مصر.

هذه الحركات كانت تشهد بين فترةٍ وأخرى موجة اعتقالات بين صفوف أعضائها. لذلك فكر القوميون بتصدير فكرهم القومي من لبنان وسورية إلى الدول العربية المجاورة، حيث توزع الأعضاء، انتقل جورج حبش إلى الأردن، وكذلك وديع حداد، وأحمد الخطيب إلى الكويت، وحامد الجبوري غادر أيضاً إلى الأردن، وبقي صالح شبل في لبنان.

لقد كان للشارع السياسي العربي في منتصف القرن الماضي حضوراً للصوت الجماهيري الهادر، حيث كان المواطن العربي يتمتع بتواجده وبصوته وبرأيه، وكانت رئاسات وبرلمانات تنهار، و وزارت تتلاشى من خلال الشارع السياسي العربي، وكلنا يذكر الكثير من الأمثلة، وكيف كانت المظاهرات ولأي سبب وطني أو قومي تملأ العواصم العربية، حيث كان الشارع السياسي العربي مشاركاً فاعلا ً في صناعة القرار السياسي والإقتصادي في البلاد.

وهذا الذي سبب الضيق للأنظمة العربية، والتي إختارت التبعية لحماية نفسها ولمواجهة الشعب والشارع العربي، إنتشرت المعتقلات أكثر، وساد القمع، وتم تهميش المواطن ومضايقته في أموره الحياتية والمعيشية، لجعله يتفرغ ويسعى فقط لتأمين لقمة عيشه، وصدرت قوانين جديدة للمظاهرات والاحتجاجات حتّى الأفراح والأعراس بضرورة الحصول على إذن مُسبق لها من الأجهزة الأمنية والمخابراتية.

ومنذ توقيع كامب ديفيد اتجهت معظم الأنظمة العربية إلى تبنى الشعارات القطرية، وتجاهل أي طرحٍ قومي، وهذه الإجراءات دخلت حيّز الإعلام والتربية والثقافة والاقتصاد والسياسة، ومن خلال هذه الرؤية انتشرت البطالة، و حصل فشل ذريع على صعيد التنمية والتربية والاقتصاد وعلى مستوى مؤسسات الصحة والتربية والتعليم والقضاء والعدل، وبدأ يسود صعود الإسلام السياسي على حساب تراجع التيار القومي، وانتشرت التفرقة بين الجميع، وأصبح كل بلدٍ ينوي بناء جدارٍ عازل بينه وبين البلد العربي الآخر.

ومن خلال هذا الواقع المُزري انتشرت شعارات قطرية تُمجّد التفرقة، مثل الأ{دن أولاً، و لبنان أولاً، وما إلى هنالك من شعارات أخرى.

و بدأت الأنظمة أمام هذا الواقع المُر تبحث عن تبعيات أجنبية تحميها وتنصاع لأوامرها وتوجيهاتها.

وهذا الذي حصل، أصبحت التبعية عند أنظمة الحكم العربية من أساسيات الحكم في البلاد، مع التوجهات المفروضة عليهم بالانغلاق المطلق على الفكر القومي العربي.

ولغاية الآن لا ولم ولن تستطيع الأنظمة العربية من حلّ مشاكلها إن كانت داخلية أو خارجية، أو الحفاظ على سيادتها ونموها، والاستقرار والكرامة لها و لشعبها.

لقد شهدت العديد من الدول العربية الكثير من الحروب الدموية مثل الجزائر والعراق ومصر وسورية واليمن ولبنان وليبيا وفلسطين وتونس، ولم تستطع أي دولة عربية التدخل لمساعدة الدول العربية الأخرى، بل على العكس تماماً دعمت و ساهمت في تأجيج الفتن وترويج الحرب والكراهية.

إنها التبعية التي إغتصبت الفكر القومي العربي، وإنها الأنظمة المتخاذلة بحق عروبتها وشعبها وسيادتها.

قلنا من البداية إن المفكرين والسياسيين و المثقفين العرب هم الذين قادوا الفكر القومي في بدايات القرن الماضي وما تلا ذلك، وقاموا بفرضه على المسار العام للدول من خلال الشارع السياسي العربي.

لذلك نؤكّد الآن أن المفكرين والكتاب والمثقفين العرب عليهم تقع مسؤولية كبيرة في العمل بشكلٍ دؤوب لإحياء الفكر القومي على تراب هذه الأمة المترامية الأطراف، وكلنا يُتابع ما يحدث في فلسطين المحتلة ولبنان من دمار وخراب وقتل وإبادة ودماء، وكافة أنظمة الأمر الواقع صامته، وكأن ما يحدث لا يعنيهم، وكأن ما يحدث ليس هو على الأرض العربية، بل في مكانٍ ناءٍ وخلف المحيطات.

أين المشروع العربي؟.

أين الرؤية العربية؟.

أين الموقف العربي؟.

مع الأسف داست عليهم كلهم التبعية العمياء.

سيكتب التاريخ أن كلٌ من فلسطين ولبنان كانت تقاتل لوحدها، وحولها 20 بلداً عربياً مُدجّجاً بالسلاح ولم يُحرّك ساكناً.

سيكتب التاريخ أن أبناء غزّة احتاجوا الغذاء والدواء والماء وعلى مرأى ومسمع كل العالم، وكافة الدول العربية لم تستطع ادخال معونات إغاثتهم وإنقاذهم، بل على العكس تماماً العديد من هذه الدول التي تُسمي نفسها عربية سارعت لمساعدة إسرائيل بكلِ كرمٍ وسخاء. مع الأسف. في الوقت الذي نحن بأمسِ الحاجة فيه إلى وحدة الصف العربي والموقف الواحد في وجه تيار الدمار والإبادة الذي لا محالة سيتوسع ليشمل دول عربية أخرى.

المفكرون العرب والكتّاب والمثقفين الملتزمين بكل تأكيد لن يتخلّوا عن مهمتهم وعن هويتهم، وعن فكرهم الوطني والقومي، مهمتنا جميعاً الغوص في هذا المنحى في كل كتاباتنا إن كانت شعراً أو مقالاً أو نثراً أو رواية أو نص قصصي.

الموضوع لا يحتمل أي تفسير، وليس أمامنا خيارات:

إمّا نحن أو نحن.

إمّا هُويتنا أو هُويتنا.

إمّا فكرنا القومي أو فكرنا القومي.

***

د . أنور ساطع أصفري

 

في المثقف اليوم