قضايا
غالب المسعودي: السرديات التاريخية.. التاريخ من الأسفل والنقد الفلسفي

السرديات التاريخية هي الوسيلة التي نرى بها الماضي، وتشكل فهمنا للحاضر والمستقبل. غالبًا ما تركز السرديات التقليدية على النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتتجاهل تجارب وقصص الفئات المهمشة، يوفر النقد الفلسفي أدوات تحليلية لفحص السرديات التاريخية، وتفكيك المفاهيم الأساسية مثل السلطة والحقيقة والتقدم. يمكن للنقد الفلسفي أن يكشف عن التحيزات والأيديولوجيات التي تشكل السرديات التاريخية. التاريخ من الأسفل هو منهجية تاريخية تركز على تجارب وقصص الفئات المهمشة في المجتمع، مثل العمال والفلاحين والنساء والأقليات العرقية والدينية، يهدف التاريخ من الأسفل إلى تحدي السرديات التاريخية التقليدية، وتقديم صورة أكثر شمولية للماضي.
منهجية التاريخ من الأسفل
على الرغم من أهمية منهجية التاريخ من الأسفل في إعادة كتابة التاريخ من منظور الفئات المهمشة، إلا أنها واجهت بعض الانتقادات الهامة، غالبًا ما تكون مصادر التاريخ من الأسفل محدودة ومشتتة، مما يجعل من الصعب تجميع صورة كاملة عن حياة وتجارب الفئات المهمشة و قد تعتمد بشكل كبير على المصادر الشفوية، التي يمكن أن تكون عرضة للتحريف أو النسيان، يرى البعض أن التاريخ من الأسفل يميل إلى تجميل صورة الفئات المهمشة، وتجاهل جوانبها السلبية، قد يتم تصوير هذه الفئات على أنها ضحايا أبرياء، مما يقلل من قدرتها على الفعل والتغيير، وقد يؤدي التركيز على التجارب الفردية أو المحلية إلى فقدان الصورة الكبيرة، وإهمال القوى الهيكلية التي تشكل حياة الفئات المهمشة، يصعب أحيانا ربط القصص الفردية بسياقات أوسع من التغيير الاجتماعي والسياسي، بعض المؤرخين الذين يتبنون منهجية التاريخ من الأسفل قد يكونون عرضة للتحيز الذاتي، حيث يميلون إلى التركيز على القصص التي تدعم وجهات نظرهم الخاصة، يكون من الصعب الحفاظ على الموضوعية عند التعامل مع قضايا حساسة مثل التحولات الكبرى في الأيديولوجيات، يرى البعض أن التركيز المفرط على الفئات المهمشة قد يؤدي إلى إهمال دور النخب في تشكيل التاريخ، لذا يكون من الضروري فهم دوافع وأفعال النخب لفهم كيفية عمل السلطة والهيمنة، كما يكون من الصعب تعميم النتائج المستخلصة من دراسة حالة معينة على سياقات أخرى، تختلف تجارب الفئات المهمشة بشكل كبير من مكان إلى آخر ومن فترة زمنية إلى أخرى .على الرغم من هذه الانتقادات، لا تزال منهجية التاريخ من الأسفل ذات قيمة كبيرة في فهم الماضي. من المهم الجمع بين التاريخ من الأسفل وتحليل القوى الهيكلية ودور النخب لتقديم صورة كاملة عن الماضي.
بناء السرديات التاريخية
غالبًا ما تركز السرديات التقليدية على قادة الحركات الاجتماعية، والأحداث الرئيسية، والأهداف المعلنة. يجب تحليل هذه السرديات بشكل نقدي لفهم كيف تم بناءها، وما هي التحيزات المحتملة التي قد تحتويها. كما يجب التركيز على تجارب وقصص المشاركين في الحركات الاجتماعية من مختلف الخلفيات. هذا يعني دراسة حياة العمال والفلاحين والنساء والأقليات العرقية والدينية الذين شاركوا في هذه الحركات، وفهم دوافعهم وأهدافهم وتحدياتهم ويمكن تحليل ديناميكيات السلطة داخل الحركات الاجتماعية نفسها، هل كانت هناك اختلافات في السلطة بين القادة والتابعين؟ هل كانت هناك صراعات داخلية بين الفصائل المختلفة؟ هل تم تهميش بعض المجموعات داخل الحركة؟ يجب تحليل الأيديولوجيات والمفاهيم الأساسية التي قامت عليها الحركات الاجتماعية، مثل العدالة والمساواة والحرية وكيف تم تعريف هذه المفاهيم من قبل المشاركين المختلفين في الحركة؟ هل كانت هناك اختلافات في التفسير؟ كيف تطورت هذه المفاهيم مع مرور الوقت؟ يجب وضع الحركات الاجتماعية في سياق أوسع من التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي و ما هية القوى الهيكلية التي ساهمت في ظهور هذه الحركات؟ وما هي العوامل التي أدت إلى نجاحها أو فشلها؟ كيف أثرت هذه الحركات على المجتمع ككل؟ يجب تحليل تأثير الحركات الاجتماعية على الفئات المهمشة التي شاركت فيها، هل حققت هذه الحركات أهدافها المعلنة؟ هل أدت إلى تحسين حياة المشاركين؟ هل كان لها آثار سلبية غير متوقعة؟
التاريخ من الأسفل وأهمية في فهم الثورات
الثورات ليست مجرد أحداث سياسية أو عسكرية تقودها النخب، إنها أيضًا تجارب اجتماعية وثقافية عميقة تؤثر على حياة الناس العاديين، التاريخ من الأسفل يسمح لنا بفهم كيف أثرت الثورات على حياة العمال والفلاحين والنساء والأقليات، وكيف ساهم هؤلاء الناس في تشكيل مسار الثورات، غالبًا ما تركز السرديات السائدة على الدوافع المعلنة للثورات، مثل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولكن التاريخ من الأسفل يكشف عن الدوافع الحقيقية للمشاركين في الثورات، والتي قد تكون أكثر تعقيدًا وتنوعًا. على سبيل المثال، قد يكون بعض الناس مدفوعين بالرغبة في تحسين ظروفهم الاقتصادية، أو الانتقام من الظلم، أو الحصول على المزيد من السلطة الثورات وهي ليست مجرد صراعات بين النخب الحاكمة والمعارضة، إنها أيضًا صراعات داخلية بين الفصائل المختلفة في المجتمع، التاريخ من الأسفل يسمح لنا بفهم ديناميكيات السلطة داخل الحركات الثورية نفسها، وكيف تم تهميش بعض المجموعات أو استبعادها، التاريخ من الأسفل يمكن أن يتحدى السرديات السائدة حول الثورات، ويكشف عن التحيزات والأيديولوجيات الكامنة فيها، على سبيل المثال، قد يكشف التاريخ من الأسفل عن أن بعض الثورات لم تكن بالضرورة تقدمية أو تحررية، بل أدت إلى قمع جديد أو استبداد، من خلال دراسة التاريخ من الأسفل يمكننا أن نتعلم من نجاحات وإخفاقات الثورات السابقة، واستخدام هذه الدروس لبناء مجتمعات أكثر عدلاً وحرية في المستقبل، على سبيل المثال، يمكننا أن نتعلم كيف نتجنب العنف، وكيف نحمي حقوق الأقليات، وكيف نبني مؤسسات ديمقراطية قوية تسعي لتمثيل أكبر قدر ممكن من وجهات النظر، في أي بحث وخاصة في التاريخ من الأسفل، رغم انه هدف نبيل ومهم، ولكنه في الواقع العملي يواجه تحديات تجعله هدفًا مثاليًا أكثر منه واقعًيا قابلاً للتحقيق بشكل كامل.
اهمية التاريخ من الأسفل في النقد الفلسفي
يسمح التاريخ من الأسفل للنقد الفلسفي بالنظر إلى مجموعة أوسع من المصادر والتجارب، مما يؤدي إلى فهم أعمق للسلطة والهيمنة، ويساعد في تفكيك المفاهيم السائدة حول التقدم والتحديث والتنمية، من خلال الكشف عن آثارها السلبية على الفئات المهمشة، كما يساهم في إعادة كتابة التاريخ من منظور الفئات المهمشة، التاريخ من الأسفل يسعى لتفكيك السرديات التاريخية الكبرى والمهيمنة التي غالبًا ما تركز على النخب السياسية والاقتصادية والثقافية. من خلال التركيز على الأسفل، يكشف هذا المنهج عن التنوع والاختلاف في التجارب التاريخية، مما يوضح أن التاريخ ليس قصة واحدة متجانسة، بل هو مجموعة من القصص المتداخلة والمتناقضة التاريخ من الأسفل يساهم في إعادة تقييم مفهوم السلطة، حيث يظهر كيف أن السلطة لا تمارس فقط من الأعلى إلى الأسفل، بل أيضًا من الأسفل إلى الأعلى، من خلال المقاومة والتحدي والتفاوض من خلال إعطاء صوت للفئات المهمشة، يساهم التاريخ من الأسفل في إضفاء الشرعية على تجاربهم ومعاناتهم، ويساعد على فهم أفضل للتحديات التي واجهوها وكيف تغلبوا عليها من خلال الكشف عن الظلم والاستغلال الذي تعرضت له الفئات المهمشة في الماضي، كما يساهم التاريخ من الأسفل في تحقيق العدالة التاريخية، ويساعد على تصحيح الأخطاء التاريخية، باختصارالتاريخ من الأسفل هو أداة قوية في النقد الفلسفي للسرديات التاريخية، لأنه يساعد على تفكيك السرديات المهيمنة، والكشف عن التنوع والاختلاف، وإعادة تقييم السلطة، وإضفاء الشرعية على الأصوات المهمشة، وتحقيق العدالة التاريخية. إنه يساهم في فهم أكثر شمولية وتعقيدًا لتاريخ السرديات التاريخية.
***
غالب المسعودي – باحث عراقي