قضايا
فارس حامد عبد الكريم: إدراكات الفطرة السليمة في السياسة والفلسفة والقانون
قبل الدخول المختصر لمنطق الفطرة السليمة أو ما يسمى نظرياً بـ(الحس السليم) وفلسفته، نقرأ عن هذا المصطلح في الاخبار ما يلي:
* يرى محللو الانتخابات الأمريكية ان فوز ترامب في الانتخابات جاء من خلال استخدامه منطق "الحس السليم common sense" في مخاطبة الجماهير الأمريكية، فقد تحدّث ترامب، منذ بداية ظهوره السياسي، عن «الحس السليم » الذي يخرقه الديمقراطيون بكل صفاقة حسب وصفه، أي تجاوزهم للمنطق الإنساني الأولي، الذي يمكن أن يُبنى عليه كل طرح حول الاقتصاد أو الوطن أو الهوية. فتراه يدعم (الزواج التقليدي) ويهاجم (المثلية) مؤكداً "ان الله لم يخلق سوى الرجال والنساء". فالأسرة برأيه تتكون من زوج ذكر وزوجة أنثى، وعلى هذا النحو يصف ترامب نفسه بأنه «مناصر للحياة» ويعارض، على نحو عام الإجهاض ...
ويبدو أن كثيرين، من كل الطبقات والأعراق والأجناس، مقتنعون مع ترامب ايضاً بضرورة العودة لـ "الحس السليم"
وهذه الثغرة «الحس السليم» التي دخل منها ترامب إلى قلوب ملايين المواطنين التي جعلت منه نجماً لكثير من الأمريكيين وخاصة العمّال ومنخفضي الدخل، بمن فيهم كثير من ذوي الأصول اللاتينية، هي في الواقع أمر مثير للتساؤل فعلاً: فكيف يصبح هذا المليونير الأبيض، الرافض لتعميم التأمين الصحي، والمعادي للهجرة، نصيراً للطبقة العاملة، المتعددة ثقافياً بشدة في أمريكا؟
ربما كانت أهم عناصر «الحس السليم»، الذي ينادي به ترامب، تأكيده على أن الأولوية للعائلة، التي تعيش في وطن قوي، ويكسب معيلوها جيداً من عملهم، في ظل شروط تؤمن لهم المحافظة على قيمهم.
إنه في الواقع «الحلم الأمريكي»، الذي آمنت به فئات كثيرة من الطبقة العاملة، قبل غيرها، وعلى تعدد أصولها.
ذلك أن لا أحد يريد العيش في اقتصاد متهالك، وعائلات ممزّقة، ومع آباء عاطلين عن العمل، فقط لكي تعيش نخب المدن الكبرى جنونها غير المفهوم.
* ومن جانب أخر:
دعت وزيرة الداخلية البريطانية، إيفيت كوبر، الشرطة إلى استخدام "الحس السليم" عند تسجيل حوادث الكراهية غير الجنائية (NCHIs)، مشيرة إلى وجود تباين وارتباك بين الضباط في التعامل مع هذه الحوادث، لمراقبة ومعالجة قضايا معاداة السامية والإسلاموفوبيا، مشيرة إلى أن الحس السليم يمكن أن يساعد الشرطة في التعرف على الأماكن التي قد يتحول فيها التحيز إلى عنف.
فما هو المقصود بالفطرة السليمة؟
الفطرة السليمة أو الحس السليم هي في الواقع مجموعة من الإدراكات الحسية المشتركة التي توجه إرادتنا للقيام بفعل او الامتناع عنه.
ويذهب البعض الى إن (الحس السليم هو ما نعنيه عندما نريد أن نتحدث عن المعرفة التي نشاركها جميعا. أي ما نعتبره من الاستنتاجات الأساسية والواضحة، التي توصلنا إليها بشكل تلقائي تقريباً عند محاولة تحليل ما نعتبره).
اما موسوعة علم النفس الأمريكية فقد عرفته بأنه "هو القدرة على الفهم والحكم من خلال مفاهيم بديهية ومشتركة لا ينكرها أحـد"..
الحس السليم من وجهة نظر الفلاسفة:
تعود جذور فكرة الحس السليم الى أرسطو فقد أرجعها إلى قدرتنا نحن البشر على الإدارك بطريقة مماثلة تقريبا عند نفس المنبهات الحسية عندما تستهدف حواسنا.
وللتوضيح أقول إننا جميعاً نشعر شعوراً مشتركاً بالخطر حينما نركب مع سائق متهور، وندرك حتى دون أن يخبرنا أحد ان فتح باب الطائرة اثناء طيرانها يشكل خطراً كبيراً وكذلك الشعور بالخطر في حالة البرق والعواصف ....
وجميع بني البشر، حسب الفطرة السليمة، لديهم الرغبة في الزواج التقليدي وتكوين أسرة متماسكة وانجاب ابناء لطفاء ومحبوبين، مع الأمل في ان يكون لهم مستقبل زاهر ....
جميعنا نحب ان تكون شرفات منازلنا مطلة على النهر او شواطئ البحر لأنه يولد لدينا جميعاً ذات الشعور المنعش الجميل،
ولذلك ترى شركات الفنادق تستغل هذا الشعور تجارياً وتجعل اجور الغرف المطلة على البحر اعلى من الاطلالات الداخلية، ومن ذلك الإحساس المشترك عند تناول بعض الأطعمة والمشروبات مثل الشاي والقهوة.
وفي مجال القرارات المتعلقة بتوجهاتنا في الحياة والاعمال المهنية والسياسية تشارك الفطرة السليمة في اتخاد القرار منازعة العقل في ذلك في كثير من الأحيان، فقد يتولد لديك شعور بالخوف والتوجس من اتخاذ قرار معين رغم انه قد يبدو عقلانياً جداً، وعلى العكس فقد يتولد لديك شعور بالاطمئنان من قرار معين رغم انه لا يبدو عقلانياً من الناحية الظاهرية على الأقل.
وينصح الكثير من المفكرين والفلاسفة ورجال الدين بإتباع الفطرة السليمة.
وبالنسبة للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، كان الحس السليم هو الذي يعمل الجسر بين العقلانية واللامادية كونه يحكم الجسد والعالم المادي يتكون من جسم الإنسان وكل ما يحيط به في الزمان والمكان.
*الفطرة في الشريعة الإسلامية
الإسلام دين الفطرة السليمة، والفطرة: (هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة الخير وإيثاره وكراهية الشـر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه)
قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]
ويذهب احد الباحثين الى القول الى ان (الفطرة السليمة تمنع (أصحاب الحس السليم) من قبول الشاذ والخاطئ مهما كان مألوفا أو سائدا بين الناس.. فقد رفض النبي إبراهيم عليه السلام عبادة الأصنام رغم أنه لم يكن يعرف (قبل نبوءته) بديلا لها. بفضل حسه السليم كما جاء في قوله تعالى:
"فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ"
ومن ذلك الحديث الذي رواه النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وآله قال: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ"..
وكذلك ما جاء عن أبي ثعلبة الخشني أنه قَالَ: "الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ".
ولذلك قيل ان: إسلام المتشددين يقتل الفطرة السليمة!
القانون والفطرة السليمة
ويرى بعض فقهاء القانون وفلاسفته ان اغلب القوانين بنيت على الفطرة السليمة التي تحب العدل والإنصاف وتكره الظلم والإستبداد. وتدين القتل والسرقة والاغتصاب والفساد والاعتداء على الحقوق الجماعية والفردية، ومصادرة الحريات العامة والأنظمة الشمولية والدكتاتورية التي لا يوجد فيها دستور سوى دستور مزاج الحاكم وتقلباته العاطفية.
وبناء على الفطرة السليمة يرى كثير من الفقهاء انه في حالة عدم وجود قانون ينظم حالة معينة او وجد ولكن أُختلف في تفسيره فينبغي في مثل هذه الأحوال اللجوء الى الفطرة السليمة لتحديد السلوك او التفسير الذي ينبغي اتخاذه.
ففي بلجيكيا مثلاً واثناء ازمة كورونا طلبت خدمة التنقل العامة الفيدرالية من السائقين استخدام الحس السليم فيما يتعلق بتطبيق القانون الجديد الخاص بفسح المجال لمركبات الطوارئ على الطرق والذي تركه البرلمان دون توضيح نهائي.
***
فارس حامد عبد الكريم
بغداد في 2024/11/21