قضايا

خالد اليماني: اللغة بين ظلال الحضور وكثافة الغياب

منذ زمنٍ بعيد، والإنسان يحاول أن يقول ما يشعر، أن يُخرج من داخله ما يفيض به، أن يجعل ما في قلبه مرئيًا للآخرين. هذا الميل قديم، عميق، فطري ربما. وكلما عظُمت التجربة، زادت الحاجة للقول، للبوح، للعثور على الكلمات التي تُشبه ما عايشه في الداخل. لكنّ هذا المسعى لم يكن سهلًا أبدًا. هنالك دومًا شيء يتفلت من العبارة، شيء يبقى على الحافة، لا يُقال، ولا يستقر في لفظٍ أو جملة.
ذلك أن اللغة، رغم عظمتها، ليست بابًا مفتوحًا إلى الأعماق، بل نافذة تطلّ منها الرؤية من جهة واحدة. ليست مرآة صافية تعكس التجربة كما هي، بل سطحًا يلتقط ما يمكن الإمساك به، ويترك خلفه كل ما لا يُطابق الشكل أو النظام أو القالب. فما نقوله ليس دائمًا ما نعيشه، وما نصفه ليس أبدًا ما شعرنا به تمامًا. والكلمات، مهما اقتربت، تبقى إشارات.. لا مساكن.
فاللغة لا تُمسك جوهر الأشياء، بل تدور حوله، تُلامس أطرافه، تنسج صورًا من خارجه. نحن لا نُسمّي الشيء كما هو، بل كما بدا لنا، كما عرفناه ضمن تصورٍ سابق، أو كما وافقَ ذائقتنا وخيالنا. وهي، في هذا الدور، تؤدي مهمتها النبيلة: تجعل التواصل ممكنًا، تُقرّب الفهم، تضع علاماتٍ في الطريق. لكنها لا تهبط إلى عمق الكينونة. لا تُقيم هناك، ولا تنقل لنا النبض الخفيّ الذي لا يُوصَف.
وحين نُدرك هذا، يتغيّر موقفنا من اللغة. لا نُعاديها، ولا نعبدها. بل نصغي لها بصبر، ونعرف أنها تضيء زوايا وتترك أخرى في الظل، وأنها تُفسّر أحيانًا، لكنها تُربك أحيانًا أكثر. لأن في التجربة الحية ما لا يُضبط، وما لا يقبل التكرار، ولا يُعاد بنفس اللفظ، ولا يُحكى بنفس الطريق. إنها أوسع من القول، وأعمق من التعريف، وأصدق من الترجمة.
ولهذا، حين نبحث عن معنى الوجود، عن الحب، عن الفقد، عن الحضور، ونظن أن اللغة ستُعطينا إياها جاهزة في جملٍ منمقة أو تعريفاتٍ دقيقة، نُصاب بخيبة. لأن اللغة لا تُعطي، بل تلمّح. لا تُفصح، بل تُشير. وحتى إشاراتها محكومة بمنطقها، لا بمنطق الشعور. فما نعيشه في لحظة صدق، لحظة تأمل، لحظة دهشة أو حزن أو حضور، لا يُعاد بالكلمات، بل يُبتلع في الداخل، ويُكتفى بتأمله دون محاولة نقله إلى العبارة.
ثمّ إننا حين نُراكم في حياتنا مئات الكلمات، ونحفظ آلاف العبارات، لا نكون بالضرورة قد اقتربنا أكثر من الحقيقة. بل قد نكون قد ابتعدنا عنها، واستبدلنا الحضور بالفهم، والصمت بالشرح، والتجربة بالقاموس. كأننا استبدلنا الموسيقى بالنوتة، والغابة بالخريطة، والحياة نفسها بوصفها فقط.
وفي النهاية، لا يُلام الإنسان على حبّه للكلمات، ولا على محاولته المستمرة للقول، لكنه يُلام إن ظنّ أن ما قاله هو كل ما في الأمر. لأنّ الحياة، كما هي، لا تُختصر، ولا تُودَع في لغةٍ مهما بَلغت فصاحتها.
***
خالد اليماني - باحث

في المثقف اليوم